{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }
وهذه الآية نزلت ردا لمن قال من أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بالإيمان به ودعاهم إلى طاعته : أتريد يا محمد أن نعبدك مع الله ، فقوله { ما كان لبشر } أي : يمتنع ويستحيل على بشر من الله عليه بإنزال الكتاب وتعليمه ما لم يكن يعلم وإرساله للخلق { أن يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله } فهذا من أمحل المحال صدوره من أحد من الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام ، لأن هذا أقبح الأوامر على الإطلاق ، والأنبياء أكمل الخلق على الإطلاق ، فأوامرهم تكون مناسبة لأحوالهم ، فلا يأمرون إلا بمعالي الأمور وهم أعظم الناس نهيا عن الأمور القبيحة ، فلهذا قال { ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } أي : ولكن يأمرهم بأن يكونوا ربانيين ، أي : علماء حكماء حلماء معلمين للناس ومربيهم ، بصغار العلم قبل كباره ، عاملين بذلك ، فهم يأمرون بالعلم والعمل والتعليم التي هي مدار السعادة ، وبفوات شيء منها يحصل النقص والخلل ، والباء في قوله { بما كنتم تعلمون } إلخ ، باء السببية ، أي : بسبب تعليمكم لغيركم المتضمن لعلمكم ودرسكم لكتاب الله وسنة نبيه ، التي بدرسها يرسخ العلم ويبقى ، تكونون ربانيين .
ثم نزه الله - تعالى - أنبياءه - عليهم الصلاة والسلام - وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم عن أن يطلبوا من الناس أن يعبدوهم ، عقب تنزيهه - لذاته عما يقوله المفترون فقال - تعالى - : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ . . . . } .
قال ابن كثير : " عن ابن عباس قال : " قال أبو رافع القرظى حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟ فقال رجل نصرانى من أهل نجران يقال له الرئيس : أو ذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا ؟ - أو كما قال - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بعبادة غير الله ، ما بذلك أمرنى ولا بذلك بعثنى " - أو كما قال صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله فى ذلك قوله - تعالى - : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } إلى قوله : { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } .
فقوله - تعالى - { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله } رد على أولئك الجاهلين الذين زعموا أن بعض النبيين يصح له أن يطلب من الناس أن يعبدوه من دون الله والمعنى : لا يصح ولا ينبغى ولا يستقيم عقلا لبشر آتاه الله - تعالى - وأعطاه { الكتاب } الناطق بالحق ، الآمر بالتوحيد ، الناهى عن الإشراك ، وآتاه { الحكم } أى العلم النافع والعمل به . وآتاه { النبوة } أى الرسالة التى يبلغها عنه - سبحانه - إلى الناس ، ليدعوهم إلى عبادته وحده ، وإلى مكارم الأخلاق ، لا يصح له ولا ينبغى بعد كل هذه النعم أن يكفرها { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } بعد هذا العطاء العظيم الذى وهبه الله له { كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله } أى : لا ينبغى ولا يعقل من بشر آتاه الله كل هذه النعم أن يقول للناس هذا القول الشنيع وهو { كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله } لأن الأنبياء الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة يحجزهم خوفهم من الله ، وإخلاصهم له ، عن أن يقولوا هذا القول المنكر ، كما يحجزهم عنه - أيضا - ما امتازوا به من نفوس طاهرة ، وقلوب نقية ، وعقول سليمة . . . لأنهم لو فرض أنهم قالوا ذلك لأخذهم الله - تعالى - أخذ عزيز مقتدر فهو - سبحانه - القائل : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } والتعبير بقوله - تعالى - : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } تعبير قرآنى بليغ ، إذ يفيد نفى الشأن وعدم اتفاق هذا المعنى مع الحقيقة المفروضة في الرسل الكرام - عليهم الصلاة والسلام - وشبيه بهذا التعبير قوله - تعالى - : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } و{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } وجاء العطف بثم فى قوله { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } للإشعار بالتفاوت العظيم بين ما أعطاه الله - تعالى - لأنبيائه من نعم ، وبين هذا القول المنكر الذى نفاه - سبحانه - عنهم ، وهو أن يقولوا للناس : اجعلوا عبادتكم لنا ولا تجعلوها لله - تعالى - .
ثم بين - سبحانه - ما يصح للأنبياء أن يقولوه للناس فقال - تعالى - { ولكن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } .
وقوله { رَبَّانِيِّينَ } جمع ربانى نسبة إلى الرب - عز وجل - بزيادة الألف والنون سماعا للمبالغة كما يقال فى غليظ الرقبة رقبانى وللعظيم اللحية : لحيانى .
والمراد بالربانى : الإنسان الذى أخلص لله - تعالى - فى عبادته ، وراقبه فى كل أقواله وأفعاله ، واتقاه حق التقوى ، وجمع بين العلم النافع والعمل به ، وقضى حياته فى تعليم الناس وإرشادهم إلى ما ينفعهم .
والمعنى : لا يصح لبشر آتاه الله ما آتاه من النعم أن يقول للناس اعبدونى من دون الله ، ولكن الذى يعقل أن يصدر منه هو أن يقول لهم : كونوا { رَبَّانِيِّينَ } أى منقلبين على طاعة الله - تعالى - وعبادته وحده بجد ونشاط وإخلاص ، بسبب كونكم تعلمون غيركم الكتاب الذى أنزله الله لهداية الناس وبسبب كونكم دارسين له ، أى قارئين له بتمهل وتدبر .
وقوله - تعالى - { ولكن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ } استدراك قصد به إثبات ما ينبغى للرسل أن يقولوه . بعد أن نفى عنهم ما لا ينبغى لهم أن ينطقوا به ، أى : لا ينبغى لبشر آتاه الله نعماً لا تحصى أن يقول للناس كونوا عباداً لى من دون الله ، ولكن الذى ينبغى له أن يقوله لهم هو قوله : كونوا ربانيين أى مخلصين له - سبحانه - العبادة إخلاصا تاما .
ففى الجملة الكريمة إضمار ، والتقدير : " ولكن يقول لهم كونوا ربانيين " فأضمر القول على حسب مذهب العرب فى جواز الإضمار إذا كان فى الكلام ما يدل عليه ، ونظيره قوله - تعالى - { فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ } أى فيقال لهم : أكفرتم ، والباء فى قوله { بِمَا كُنْتُمْ } للسببية . وما مصدرية أى بسبب كونكم معلمين الكتاب وبسبب كونكم دارسين له .
وقرأ أبو عمروا وابن كثير ونافع " تعلمون " بإسكان العين وفتح اللام - من العلم أى بسبب كونكم عالمين بالكتاب ودارسين له .
قال الرازى : دلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيا ، فمن اشتغل بذلك لا لهذا المقصد ضاع سعيه وخاب عمله ، وكان مثله كمثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ولا منفعة بثمرها ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.