تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (32)

قال اللّه ردا لاقتراحهم : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } أي : أهم الخزان لرحمة اللّه ، وبيدهم تدبيرها ، فيعطون النبوة والرسالة من يشاءون ، ويمنعونها ممن يشاءون ؟

{ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } أي : في الحياة الدنيا ، والحال أن رَحْمَةَ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الدنيا .

فإذا كانت معايش العباد وأرزاقهم الدنيوية بيد اللّه تعالى ، وهو الذي يقسمها بين عباده ، فيبسط الرزق على من يشاء ، ويضيقه على من يشاء ، بحسب حكمته ، فرحمته الدينية ، التي أعلاها النبوة والرسالة ، أولى وأحرى أن تكون بيد اللّه تعالى ، فاللّه أعلم حيث يجعل رسالته .

فعلم أن اقتراحهم ساقط لاغ ، وأن التدبير للأمور كلها ، دينيها ودنيويها ، بيد اللّه وحده . هذا إقناع لهم ، من جهة غلطهم في الاقتراح ، الذي ليس في أيديهم منه شيء ، إن هو إلا ظلم منهم ورد للحق .

وقولهم : { لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } لو عرفوا حقائق الرجال ، والصفات التي بها يعرف علو قدر الرجل ، وعظم منزلته عند اللّه وعند خلقه ، لعلموا أن محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب صلى اللّه عليه وسلم ، هو أعظم الرجال قدرا ، وأعلاهم فخرا ، وأكملهم عقلا ، وأغزرهم علما ، وأجلهم رأيا وعزما وحزما ، وأ كملهم خلقا ، وأوسعهم رحمة ، وأشدهم شفقة ، وأهداهم وأتقاهم .

وهو قطب دائرة الكمال ، وإليه المنتهى في أوصاف الرجال ، ألا وهو رجل العالم على الإطلاق ، يعرف ذلك أولياؤه وأعداؤه ، فكيف يفضل عليه المشركون من لم يشم مثقال ذرة من كماله ؟ ! ، ومن جرمه ومنتهى حمقه أن جعل إلهه الذي يعبده ويدعوه ويتقرب إليه صنما ، أو شجرا ، أو حجرا ، لا يضر ولا ينفع ، ولا يعطي ولا يمنع ، وهو كل على مولاه ، يحتاج لمن يقوم بمصالحه ، فهل هذا إلا من فعل السفهاء والمجانين ؟

فكيف يجعل مثل هذا عظيما ؟ أم كيف يفضل على خاتم الرسل وسيد ولد آدم صلى اللّه عليه وسلم ؟ ولكن الذين كفروا لا يعقلون .

وفي هذه الآية تنبيه على حكمة اللّه تعالى في تفضيل اللّه بعض العباد على بعض في الدنيا { لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } أي : ليسخر بعضهم بعضا ، في الأعمال والحرف والصنائع .

فلو تساوى الناس في الغنى ، ولم يحتج بعضهم إلى بعض ، لتعطلت كثير من مصالحهم ومنافعهم .

وفيها دليل على أن نعمته الدينية خير من النعمة الدنيوية كما قال تعالى في الآية الأخرى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (32)

وقد وبخهم الله - تعالى - على جهلهم هذا بقوله : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } فالاستفهام للإِنكار والتهكم بهم ، والتعجب من تفكيرهم .

والمراد بالرحمة : ما يشمل النبوة ، وما أنزله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - من وحى ، وما منحه إياه من خلق كريم ، وخير عميم .

أى : كيف بلغ الجهل والغباء بهؤلاء المشركين إلى هذه الدرجة ؟ إنهم ليس بيدهم ولا بيد غيرهم عطاء ربك ، وليس عندهم مفاتيح الرسالة ليضعوها حيث شاؤا ، وليختاروا لها من أرادوا . وما دام الأمر كذلك فكيف يعترضون على نزول القرآن عليك - أيها الرسول الكريم - ؟ .

ثم بين - سبحانه - مظاهر قدرته فى خلقه فقال : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا . . } أى : نحن قسمنا بينهم أرزاقهم فى هذه الدنيا ، ولم نترك تقسيمها لأحد منهم ، ونحن الذين - بحكمتنا - تولينا تدبير أسبابها ولم نكلها إليهم لعلمنا بعجزهم وقصورهم . ونحن الذين رفعنا بعضهم فوق بعض درجات فى الدنيا ، فهذا غنى وذاك فقير ، هذا مخدوم ، وذاك خادم ، وهذا قوى ، وذاك ضعيف .

ثم ذكر - سبحانه - الحكمة من هذا التفاوت فى الأرزاق فقال : { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } .

أى : فعلنا ذلك ليستخدم بعضهم بعضا فى حوائجهم ، ويعاون بعضهم بعضا فى مصالحهم ، وبذلك تنتظم الحياة ، وينهض العمران . ويعم الخير بين الناس ، ويصل كل واحد إلى مطلوبه على حسب ما قدر الله - تعالى - له من رزق واستعداد . .

ولو أنا تركنا أم تقسيم الأرزاق إليهم لتهارجوا وتقاتلوا ، وعم الخراب فى الأرض ، لأن كل واحد منهم يريد أن يأخذ ما ليس من حقه ، لأن الحرص والطمع من طبيعته .

وإذا كان هذا هو حالهم بالنسبة لأمور دنياهم فكيف أباحوا لأنفسهم التحكم فى منصب النبوة ، وهو بلا شك أعلى شأنا ، وأبعد شأوا من أمور الدنيا .

وقوله { سُخْرِيّاً } بضم السين - من التسخير ، بمعنى تسخير بعضهم لبعض وخدمة بعضهم لبعض ، وعمل بعضهم لبعض ، فالغنى - مثلا - يقدم المال لغيره ، نظير ما يقدمه له ذلك الغير من عمل معين . .

وبذلك تنتظم أمور الحياة ، وتسير فى طريقها الذى رسمه - سبحانه - لها .

قال الجمل ما ملخصه : قوله : { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } أى : ليستخدم بعضهم بعضا ، فيسخر الأغنياء بأموالهم ، الأجراء الفقراء بالعمل ، فيكون بعضهم سببا لمعاش بعض ، هذا بماله ، وهذا بأعماله ، فيلتئم قوام العالم ، لأن الأرزاق لو تساوت لتعطلت المعايش ، فلم يقدر أحد منهم أن ينفك عما جعلناه إليه من هذا الأمر الدنئ ، فكيف يطمعون فى الاعتراض فى أمر النبوة ، أيتصور عاقل أن نتولى قسم الناقص ، ونكل العالى إلى غيرنا . .

هذا ، والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها تقرر سنة من سنن الله - تعالى - التى لا تغيير لها ولا بتديل ، والتى تؤيدها المشاهدة فى كل زمان ومكان ، فحتى الدول التى تدعى المساواة فى كل شئ . . ترى سمة التفاوت فى الأرزاق وفى غيرها وضحة جلية ، وصدق الله فى قوله : { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } .

ومن الآيات التى تشبه هذه الآية قوله - تعالى - : { والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق . . . } وقوله - سبحانه - : { انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً }