ثم صرح بذكر حسنها فقال : { 5 - 10 } { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ * وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ }
أي : ولقد جملنا { السَّمَاءَ الدُّنْيَا } التي ترونها وتليكم ، { بِمَصَابِيحَ } وهي : النجوم ، على اختلافها في النور والضياء ، فإنه لولا ما فيها من النجوم ، لكانت سقفًا مظلمًا ، لا حسن فيه ولا جمال .
ولكن جعل الله هذه النجوم زينة للسماء ، [ وجمالا ] ، ونورًا وهداية يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، ولا ينافي إخباره أنه زين السماء الدنيا بمصابيح ، أن يكون كثير من النجوم فوق السماوات السبع ، فإن السماوات شفافة ، وبذلك تحصل الزينة للسماء الدنيا ، وإن لم تكن الكواكب فيها ، { وَجَعَلْنَاهَا } أي : المصابيح { رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } الذين يريدون استراق خبر السماء ، فجعل الله هذه النجوم ، حراسة للسماء عن تلقف الشياطين أخبار الأرض ، فهذه الشهب التي ترمى من النجوم ، أعدها الله في الدنيا للشياطين ، { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ } في الآخرة { عَذَابِ السَّعِيرِ } لأنهم تمردوا على الله ، وأضلوا عباده ، ولهذا كان أتباعهم من الكفار مثلهم ، قد أعد الله لهم عذاب السعير ، فلهذا قال :
قوله تعالى : " ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح " جمع مصباح وهو السراج . وتسمى الكواكب مصابيح لإضاءتها . " وجعلناها رجوما للشياطين " أي جعلنا شهبها ، فحذف المضاف . دليله " إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب{[15188]} " [ الصافات : 10 ] . وعلى هذا فالمصابيح لا تزول ولا يرجم بها . وقيل : إن الضمير راجع إلى المصابيح على أن الرجم من أنفس الكواكب ، ولا يسقط الكوكب نفسه إنما ينفصل منه شيء يرجم به من غير أن ينقص ضوءه ولا صورته . قال أبو علي جوابا لمن قال : كيف تكون زينة وهي رجوم لا تبقى . قال المهدوي : وهذا على أن يكون الاستراق من موضع الكواكب . والتقدير الأول على أن يكون الاستراق من الهوى الذي هو دون موضع الكواكب . القشيري : وأمثل من قول أبي علي أن نقول : هي زينة قبل أن يرجم بها الشياطين . والرجوم جمع رجم ، وهو مصدر سمي به ما يرجم به . قال قتادة : خلق الله تعالى النجوم لثلاث : زينة للسماء ، ورجوما للشياطين ، وعلامات يهتدى بها في البر والبحر والأوقات . فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به ، وتعدى وظلم . وقال محمد بن كعب : والله ما لأحد من أهل الأرض في السماء نجم ، ولكنهم يتخذون الكهانة سبيلا{[15189]} ويتخذون النجوم علة . " وأعتدنا لهم عذاب السعير " أي أعتدنا للشياطين أشد الحريق ، يقال : سعرت النار فهي مسعورة وسعير ، مثل مقتولة وقتيل .
ولما أخبر سبحانه وتعالى عن بديع هذا الخلق ، ونبه على بعض دقائقه وأمر بالإبصار{[66767]} وتكريره ، وكان السامع أول ما يصوب نظره إلى السماء لشرفها وغريب صنعها وبديع وضعها ومنيع رفعها ، فكان بحيث يتوقع الإخبار عن هذه الزينة التي رصعت بها ، قال في جواب من{[66768]} توقعه مؤكداً بالقسم إعلاماً بأنه ينبغي أن يبعد العاقل عن إنكار شيء مما ينسب إلى صاحب هذا الخلق من الكمال ، عاطفاً{[66769]} على ما تقديره : لقد كفى هذا القدر في الدلالة على عظمة {[66770]}مبدع هذا الصنع{[66771]} وتمام قدرته : { ولقد }{[66772]} واستجلب الشكر بجلب المسار فقال ناظراً إلى مقام العظمة صرفاً للعقول عما اقتضاه " الرحمن " من عموم الرحمة تذكيراً بما في الآية الماضية ، وتنبيهاً على ما في الزينة بالنجوم من مزجها بالرجوم الذي هو عذاب " {[66773]}الجن المتمردين الطاغين{[66774]} " : { زينا } دلالة أخرى {[66775]}تدل على العظمة{[66776]} بعد تلك الدلالة الأولى{[66777]} { السماء الدنيا } {[66778]}أي أدنى السماوات إلى الأرض ، وهي التي {[66779]}تشهد وأنتم دائماً{[66780]} تشاهدونها ، وهي سقف الدار التي اجتمعتم فيها في هذه الحياة الدنيا{[66781]} { بمصابيح } أي نجوم متقدة عظيمة جداً ، كثرتها تفوت الحصر ، ظاهرة سائرة مضيئة زاهرة . وهي الكواكب التي تنور الأرض بالليل إنارة السرج التي تزينون بها سقوف دوركم ، فتفيد شعبة من ضوء الصباح ، والتزيين بها لا يمنع أن تكون مركوزة فيها فوقها من السماوات{[66782]} وهي تتراءى لنا بحسب الشفوف بما للأجرام السماوية من الصفاء ، ولتلك المصابيح من شدة الإضاءة .
ولما أخبر - {[66783]}جلت قدرته{[66784]} - بعظيم قدرته فيها منبهاً على ما فيها من جلب المسار بتلك الأنوار ، والهداية في الدين والدنيا ، التي لولا هي لما انتفع أحد في ليل انتفاعاً تاماً ، أخبر بما فيها مع الزينة من دفع المضار بعبارة عامة ، وإن كان المراد البعض{[66785]} الأغلب ، فإن ما للرجوم منها غير ما للاهتداء والرسوم فقال : { وجعلناها } أي النجوم من حيث هي{[66786]} بعظمتنا مع كونها زينة وأعلاماً للهداية { رجوماً } جمع رجم وهو مصدر واسم لما يرجم به { للشياطين } الذين يستحقون{[66787]} الطرد {[66788]}والبعد والحرق{[66789]} من الجن لما لهم من الاحتراق ، {[66790]}وذلك بياناً لعظمتنا{[66791]} وحراسة للسماء الدنيا التي هي محل تنزل أمرنا بالقضاء والقدر ، وإنزال هذا الذكر{[66792]} الحكيم لئلا يفسدوا باستراق السمع منها على الناس دينهم الحق ، ويلبسوا عليهم أمرهم بخلط الحق الذي ختمنا به الأديان بالباطل ، فيخرجوهم - لأنهم أعداؤهم - من النور إلى الظلمات كما{[66793]} كانوا في الجاهلية ، مع ما فيها بما خلق سبحانه في أمزجتها من ترطيب وتجفيف ، وحر وبرد واعتدال ، ينشأ عنه الفصول الأربعة ، وقهرها به من شروق وغروب وحركة وسكون يعرف بها ما إليه المآل ، مما أخبرت به الرسل من الزوال ، مع ما يدل من الليل والنهار والعشي والإبكار ، وأشياء يكل عنها الوصف في ذواتها وعن إحصاء منافعها ، حتى لو عدم{[66794]} شيء مما في السماوات مما دبره الحكيم لصلاح{[66795]} هذا العالم يهلك كل حيوان ونبات على وجه الأرض ، والشهاب المرجوم به منفصل من نار{[66796]} الكواكب ، وهو قار{[66797]} في فلكه على حاله ، كقبس النار يؤخذ منها وهي باقية {[66798]}على حالها{[66799]} لا تنقص ، وذلك مسوغ لتسميتها بالرجوم ، فمن لحقه الشهاب منهم قتله أو ضعضع أمره وخبله . ويحتمل مع ذلك أن يكون المراد : ظنوناً لشياطين الإنس وهم المنجمون يتكلمون بها رجماً بالغيب في أشياء هي {[66800]}من عظيم{[66801]} الابتلاء ليتبين الموقن من المزلزل ، والعالم من الجاهل . وفي البخاري{[66802]} : قال قتادة : " خلقت النجوم لثلاث : زينة للسماء ، ورجوماً للشياطين ، وعلامات يهتدى بها ، فمن تأول فيها غير{[66803]} ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف بما لا علم له به . " ولما كان التقدير : ورجمناهم بها بالفعل عند استراقهم للسمع إبعاداً لهم عن مسكن المكرمين ، ومحل النزاهة والأنس ومهبط القضاء والتقدير ، ونكالاً لغيرهم من أمثالهم عذاباً لهم في الدنيا ، عطف عليه قوله ترهيباً من جلاله بعد ما رغب في عظيم جماله{[66804]} : { وأعتدنا } أي{[66805]} هيأنا في الآخرة مع هذا الذي في الدنيا بما لنا من العظمة { لهم } أي الشياطين {[66806]}الذين يسترقون{[66807]} السمع{[66808]} { عذاب السعير - } أي النار{[66809]} التي هي في غاية الاتقاد ، {[66810]}ففي الآية{[66811]} بشارة لأهل السمع والبصر {[66812]}والعقل ، وفيها من التنبيه ما لا يخفى{[66813]} .
{ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ( 5 ) }
ولقد زيَّنا السماء القريبة التي تراها العيون بنجوم عظيمة مضيئة ، وجعلناها شهبًا محرقة لمسترقي السمع من الشياطين ، وأعتدنا لهم في الآخرة عذاب النار الموقدة يقاسون حرها .
قوله : { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح } مصابيح ، جمع مصباح وهو السراج{[4582]} ويراد بالمصابيح هنا كواكب السماء ونجومها التي تضيء ، فتملأ الآفاق ضياء وإشعاعا ، وتثير في الحياة والكائنات آيات من الجمال والبهاء . ومن جملة ما سخّرت له الكواكب والنجوم ، أن جعلها الله { رجوما للشياطين } أي ترجم الشياطين بشهبها المنفصلة عنها كلما دنت من السماء لتسترق السمع من الملأ الأعلى . وهي كلما اقتربت من قضاء بغيتها في الاستراق ، دهمتها الشهب بسرعتها الخاطفة فاحترقت . وفي الآخرة أعد الله لها عذاب السعير . أي النار المتوقدة المستعرة يصلاها الشياطين ، ثم يظلون فيها ماكثين دائمين{[4583]} .