فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلرِّزۡقِۚ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزۡقِهِمۡ عَلَىٰ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَهُمۡ فِيهِ سَوَآءٌۚ أَفَبِنِعۡمَةِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ} (71)

{ وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ( 71 ) } .

ثم لما بين سبحانه خلق الإنسان ، وتقلبه في أطوار العمر ، ذكر طرفا من أحواله لعله يتذكر عند ذلك ، فقال : { وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ } ، فمنكم غني ، و فقير ، ومالك ، ومملوك ، أي : فجعلكم متفاوتين فيه ، فيوسع على بعض عباده وبسط ، حتى جعل له من الرزق ما يكفي ألوفا مؤلفة من بني آدم ، وضيقه على بعض عباده وقتر ، حتى صار لا يجد القوت إلا بسؤال الناس والتكفف لهم ، وكثر لواحد وقلل على واحد ، وذلك لحكمة بالغة تقصر عقول العباد عن تعقلها ، والاطلاع على حقيقة أسبابها .

وكما جعل التفاوت بين عباده في المال ، جعله بينهم في العقل ، والعلم ، والفهم ، والخلق ، والجهل ، وقوة البدن وضعفه ، والحسن والقبح ، والصحة والسقم ، وغير ذلك من الأحوال ، وعن ابن عباس في الآية قال : لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم ، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني ، وعن مجاهد قال : هذا مثل لآلهة الباطل مع الله ، وقيل معنى الآية : أن الله سبحانه أعطى الموالي أفضل مما أعطى مماليكهم بدليل قوله : { فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ } ، أي : فما الذين فضلهم الله بسعة الرزق على غيرهم ، كالموالي والسادة ، { بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ } ، الذي رزقهم الله إياه ، { عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } ، من المماليك ، { فَهُمْ } ، أي : المالكون المماليك ، { فِيهِ } ، أي : في الرزق ، { سَوَاء } ، أي : لا يردونه عليهم بحيث يساوونهم ، فالفاء على هذا للدلالة على أن التساوي مترتب على التراد ، أي : لا يردونه ردا مستتبعا للتساوي ، وإنما يردون عليهم منه شيئا يسيرا .

وهذا مثل ضربه الله سبحانه لعبدة الأصنام كما تقدم ، والمعنى : إذا لم يكونوا عبيدكم معكم سواء ولا ترضون بذلك ، فكيف تجعلون عبيدي معي سواء ، والحال أن عبيدكم مساوون لكم في البشرية والمخلوقية ، فلما لم تجعلوا عبيدكم مشاركين لكم في أموالكم ؟ ! فكيف تجعلون بعض عباد الله سبحانه شركاء له ، فتعبدونهم معه ؟ ! أو كيف تجعلون بعض مخلوقاته كالأصنام شركاء له في العبادة ؟ ! ذكر معنى هذا ابن جرير .

ومثل هذه الآية قوله سبحانه : { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم } ، وفي هذه الجملة أوجه : ( أحدها ) : تقديره : أفهم فيه سواء ، ومعناه : النفي ، أي : ليسوا مستوين فيه ، ( والثاني ) : أنها إخبار بالتساوي ، أي : إنما هو رزقي أجريته على أيديهم ، فهم فيه سواء . قال أبو البقاء : إنها واقعة موقع فعل تقديره يستووا ، وقيل أن الفاء في ( فهم ) ، بمعنى حتى .

{ أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } ، حيث يفعلون ما يفعلون من الشرك . والنعمة ، هي : كونه سبحانه جعل المالكين مفضلين على المماليك . وقراءة الغيبة أولى ؛ لقرب المخبر عنه ، ولأنه لو كان خطابا ، لكان ظاهره للمسلمين ، والاستفهام للإنكار والتوبيخ والتقريع ، والفاء للعطف على مقدر ، أي : أيشركون به فيجحدون نعمته .

ويكون المعنى على قراءة الخطاب : أن المالكين ليسوا برادي رزقهم على مماليكهم ، بل أنا الذي أرزقهم وإياهم ، فلا تظنوا أنهم يعطونهم شيئا ، وإنما هو رزقي أجريه على أيديهم جميعا ، وهم في ذلك سواء لا مزية لهم على مماليكهم ، فيكون المعطوف عليه المقدر فعلا يناسب هذا المعنى ، كأن يقال ألا تفهمون ذلك فتجحدون نعمة الله .