فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

{ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 69 ) }

{ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ } ، " من " للتبعيض ؛ لأنها تأكل النور من الأشجار ، فإذا أكلتها ، { فَاسْلُكِي } ، أي : فادخلي { سُبُلَ رَبِّكِ } ، أي : الطرق التي فهمك الله وعلمك ، وأضافها إلى الرب ؛ لأنه خالقها وملهم النحل أن تسلكها ، أي : ادخليها لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر ، أو اسلكي ما أكلت في سبل ربك ، أي : في مسالكه التي يستحيل فيها بقدرته النور المر عسلا من أجوافك ، أو إذا أكلت الثمار في الأمكنة البعيدة ، فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك لا تضلين فيها .

{ ذُلُلاً } ، حال من السبل ، وهي جمع ذلول ، أي : مذللة غير متوعرة ، واختار هذا الزجاج وابن جرير ، وقيل : حال من النحل ، يعني مطيعة للتسخير ، وإخراج العسل من بطونها . واختار هذا ابن قتيبة . قال مجاهد : طرقا لا يتوعر عليها مكان سلكته ، وعن قتادة قال مطيعة . . . قال السدي : ذليلة . { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } ، مستأنفة ، عدل به عن خطاب النحل تعديدا للنعم ، وتعجيبا لكل سامع ، وتنبيها على العبر ، وإرشادا إلى الآيات العظيمة الحاصلة من هذا الحيوان الضعيف الشبيه بالذباب .

{ شَرَابٌ } ، المراد به في الآية هو العسل ، قاله ابن عباس . { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } ، يعني : أن بعضه أبيض ، وبعضه أحمر ، وبعضه أزرق ، وبعضه أصفر ، باختلاف ذوات النحل وألوانها ومأكولاتها ، وذلك على قدر ما تأكل من الثمار والأزهار ، ويستحيل في بطونها عسلا . وفي هذا دليل على قدرته .

وفي البيضاوي : مختلف ألوانه بسبب اختلاف سن النحل ، أو الفصل . قال الشهاب : فالأبيض لفتيها ، والأصفر لكهلها ، والأحمر لمسنها ، ولا يخفى إنه مما لا دليل عليه . انتهى . وجمهور المفسرين على أن العسل يخرج من أفواه النحل ، ويسيل كاللعاب . وقيل : من أسفلها ، وقيل : لا يدري من أين يخرج منها .

{ فِيهِ } ، أي : في الشراب الخارج من بطون النحل : وهو العسل ، وإلى هذا ذهب الجمهور . { شِفَاء لِلنَّاسِ } ، قال مجاهد : العسل فيه الشفاء وفي القرآن . وقال الفراء وابن كيسان وجماعة من السلف ، أن الضمير راجع إلى القرآن ، ويكون التقدير فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس ، ولا وجه للعدول عن الظاهر ومخالفة المرجع الواضح والسياق البين .

وعن ابن مسعود قال : أن العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور ، وعنه مرفوعا قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : ( عليكم بالشفاءين : العسل والقرآن ) {[1054]} . وقد وردت أحاديث في كون العسل شفاء ، منها ما أخرجه البخاري من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : ( الشفاء في ثلاثة : في شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو كية بنار ، وأنا أنهى أمتي عن الكي ) {[1055]} .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد ، أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم فقال : يا رسول الله ، إن أخي استطلق بطنه استطلاقا ، قال : اذهب فاسقه عسلا ، فذهب فسقاه ، ثم جاء فقال : مما زاده إلا استطلاقا ، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : صدق الله ، وكذب بطن أخيك ، اذهب فاسقه عسلا ، فذهب فسقاه فبرأ ) {[1056]} .

وقد اختلف أهل العلم هل هذا الشفاء الذي جعله الله في العسل عام لكل داء ، أو خاص ببعض الأمراض ، فقالت طائفة : هو على العموم في كل حال ولكل أحد ، وقالت طائفة : إن ذلك خاص ببعض الأمراض ، ولا يقتضي العموم في كل علة وفي كل إنسان ، وليس هذا بأول لفظ خصص ، فالقرآن مملوء منه ، ولغة العرب يأتي فيها العام كثيرا بمعنى الخاص ، والخاص بمعنى العام .

ومما يدل على هذا أن العسل نكرة في سياق الإثبات ، فلا يكون عاما باتفاق أهل اللسان ومحققي أهل الأصول ، وتنكيره إن أريد به التعظيم ، لا يدل إلا على أن فيه شفاء عظيما لمرض أو أمراض ، لا لكل مرض ، فإن تنكير التعظيم لا يفيد العموم .

والظاهر المستفاد من التجربة ومن قوانين علم الطب ، أنه إذا استعمل مفردا كان دواء لأمراض خاصة ، وإن خلط مع غيره ، كالمعاجين ونحوها ، كان مع ما خلط به دواء لكثير من الأمراض .

قلت : وحديث البخاري أن أخي استطلق بطنه الحديث ، أوضح دليل على ما ذهبت إليه طائفة من تعميم الشفاء ؛ لأن قوله صلى الله عليه و آله وسلم : " صدق الله " ، أي : أنه شفاء ، فلو كان لبعض دون بعض ، لم يكرر الأمر بالسقيا .

وقد اعترض على هذا الحديث بعض الملحدين ، ومن في قلبه مرض ، بكونه خلاف ما أجمع عليه الأطباء ، من أن العسل مسهل ، فكيف يوصف لمن به الإسهال ؟ وأجاب عنه الخازن على الطريق الجاري على صناعة الطب ، وأورده الشيخ سليمان الجمل ، ثم قال : ولسنا نقصد الاستظهار لتصديق الحديث بقول الأطباء ، بل لو كذبوه لكذبناهم وكفرناهم بذلك . انتهى .

وعن ابن عمر أنه كان لا يشكو قرحة ولا شيئا إلا جعل عليه عسلا ، حتى الدمل إذا خرج طلى عليه العسل ، وعن أبي وجرة أنه كان يكتحل بالعسل ، ويستنشق ويتداوى به ، ذكره القرطبي . وفي الباب آثار عن جماعة من السلف .

وقال البيضاوي : شفاء للناس إما بنفسه ، كما في الأمراض البلغمية ، أو مع غيره ، كما في سائر الأمراض ؛ إذ قلما يكون معجون إلا والعسل جزء منه ، وقيل : أن هذا القول خرج مخرج الأغلب ، وأنه في الأغلب فيه شفاء ، ولم يقل إنه شفاء لكل الناس ولكل داء ، لكنه في الجملة دواء ، وأن نفعه أكثر من مضرته ، ومنافعه كثيرة جدا ، قال السدي : شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه ، وبالجملة فهو من أعظم الأغذية وأنفع الأدوية ، وقليلا ما يجتمع هذان الأمران في غيره .

{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } ، المذكور من أمر النحل ، { لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ، أي : يعملون أفكارهم عند النظر في صنيع الله سبحانه وعجائب مخلوقاته ، فإن أمر النحل من أعجبها وأغربها وأدقها وأحكمها ، ومن تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة حق التدبر ، علم قطعا أنه لا بد له من خالق قادر حكيم ، يلهمها ذلك ويحملها عليه .


[1054]:ابن ماجة كتاب الطب الباب السابع.
[1055]:البخاري كتاب الطب باب 3 رقم 2250 مسلم 2205.
[1056]:مسلم 2217. البخاري 2251.