فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنٗا وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِيلٗا ثُمَّ أَضۡطَرُّهُۥٓ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (126)

{ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ، وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } .

{ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا } أي مكة وقيل الحرم { بلدا آمنا } والمراد الدعاء لأهله من ذريته وغيرهم كقوله عيشة راضية أي راض صاحبها أو الإسناد إلى المكان مجاز كما في ليل نائم أي نائم فيه ، قاله السعد التفتازاني ، وعلى هذا المراد أمن الملتجئ إليه فأسند إليه مبالغة ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها{[127]} " . كما أخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم من حديث جابر وقد روى هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق جماعة من الصحابة ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض وهي حرام إلى يوم القيامة{[128]} " . أخرجه البخاري وأهل السنن من حديث أبي هريرة تعليقا ، وابن ماجة من حديث صفية بنت شيبة ، وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا .

ولا تعرض بين هذه الأحاديث فإن إبراهيم عليه السلام لما بلغ الناس أن الله حرمها وأنها لم تزل حرما آمنا نسب إليه أنه حرمها أي أظهر للناس حكم الله فيها ، وإلى هذا الجمع ذهب ابن عطية وابن كثير ، وقال ابن جرير : أنها كانت حراما ولم يتعبد الله الخلق بذلك حتى سأله إبراهيم فحرمها وتعبدهم بذلك انتهى وكلا الجمعين حسن .

{ وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر } إنما سأل إبراهيم ذلك لأن مكة لم يكن بها زرع ولا ثمرة فاستجاب الله له وجعل مكة حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء ، عن محمد ابن مسلم الطائفي قال : بلغني أنه لما دعا إبراهيم للحرم نقل الله الطائف من فلسطين

{ ومن } للتبعيض أي بعض الثمرات ، ولم يقل من الحبوب لما في تحصيله من الذل الحاصل بالحرث وغيره ، فاقتصاره على الثمرات لتشريفهم ، وقيل { من } للبيان وليس بشيء إذ لم يتقدم مبهم يبين بها ، والمراد بالأمن المذكور في قوله { مثابة للناس وآمنا } هو الأمن من الأعداء والخسف والمسخ والمراد هنا من الأمن هو الأمن من القحط ، ولهذا قال { وارزق أهله من الثمرات } ذكره الكوخي .

والمعنى وارزق من آمن من أهله دون من كفر ، وسبب هذا التخصيص أن إبراهيم لما سأل ربه أن يجعل النبوة والإمامة في ذريته : فأجابه الله بقوله { لا ينال عهدي الظالمين } وصار ذلك تأديبا له في المسألة فلا جرم خص هنا بدعائه المؤمنين دون الكافرين ، ثم أعلمه أن الرزق في الدنيا يستوي فيه المؤمن والكافر بقوله :

{ قال ومن كفر فأمتعه } أي سأرزق الكافر أيضا { قليلا } أي في الدنيا مدة حياته ، وعن محمد ابن كعب القرظي قال : دعا إبراهيم للمؤمنين وترك الكفار ، ولم يدع لهم بشيء فقال تعالى { ومن كفر فأمتعه } الآية . وعن ابن عباس قال : كان إبراهيم احتجزها على المؤمنين دون الناس ، فأنزل الله ومن كفر فأنا أرزقهم أيضا كما أرزق المؤمنين ، أخلق خلقا لا أرزقهم ، ثم قرأ ابن عباس { كلا نمد هؤلاء وهؤلاء } الآية ، فالظاهر أن هذا من كلام الله سبحانه ردا على إبراهيم حيث طلب الرزق للمؤمنين دون غيرهم ، ويحتمل أن يكون كلاما مستقلا بيانا لحال من كفر ويكون في حكم الإخبار عن حال الكافرين بهذه الجملة الشرطية ، أي من كفر فإني أمتعه في هذه الدنيا بما يحتاجه من الرزق إلى منتهى أجله وذلك قليل لأنه ينقطع .

{ ثم اضطره } أي ألزه لز المضطر لكفره بعد هذا التمتع { إلى عذاب النار } أخبر سبحانه أنه لا ينال الكفرة من الخير إلا تمتعهم في هذه الدنيا ، وليس لهم بعد ذلك إلا ما هو شر محض ، وأما على قراءة من قرأ فأمتعه وأضطره بصيغة الأمر فهي مبنية على أن ذلك من جملة كلام إبراهيم ، وأنه لما فرغ من الدعاء للمؤمنين دعا للكافرين بالإمتاع قليلا ، ثم دعا عليهم بأن يضطرهم الله إلى عذاب النار ، وحاصل معنى أضطره ألزمه حتى أصيره مضطرا لذلك لا يجد عنه مخلصا ولا منه متحولا { وبئس المصير } أي المرجع هي ، والواو فيه ليست للعطف والإلزام عطف الإنشاء على الإخبار بل الاستئناف كما قال في المعنى في قوله { واتقوا الله ويعلمكم الله } .


[127]:مسلم1362
[128]:صحيح الجامع الصغير 1747