فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

{ ذلك الكتاب } أي القرآن ، وقيل فيه إضمار أي هذا الكتاب الذي وعدتك به أو وعدت به على لسان موسى وعيسى أن أنزله عليك ، قال ابن عباس في الآية يعني هذا الكتاب ، وبه قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي ومقاتل وزيد بن أسلم وابن جريح ، وحكاه البخاري عن أبي عبيد ، والإشارة إلى الكتاب المذكور بعده ، والعرب قد تستعمل الإشارة إلى البعيد الغائب ، مكان الإشارة إلى القريب الحاضر ، ومنه قوله تعالى { ذلك عالم الغيب والشهادة } وقوله { تلك حجتنا آتيناها إبراهيم } وقوله { تلك آيات الكتاب } وقوله { ذلكم حكم الله } قال أبو السعود وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو شأنه ، وكونه في الغاية القاصية من الفضل والشرف ، انتهى .

وقيل إن الإشارة إلى غائب ، واختلف في ذلك الغائب ، فقيل هو الكتاب الذي كتب على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق ، وقيل الكتاب الذي كتبه الله على نفسه في الأزل كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي ) {[71]} وفي رواية " سبقت " وقيل الإشارة إلى ما قد نزل بمكة ، وقيل إلى ما في التوراة والإنجيل ، وقيل إلى قوله قبله { آلم } ورجحه الزمخشري .

وقد وقع الاختلاف في ذلك إلى تمام عشرة أقوال حسبما حكاه القرطبي وأرجحها ما صدرناه ، والكتاب مصدر بمعنى المكتوب وأصله الضم والجمع ، ومنه يقال للجند كتيبة لاجتماعها ، والكتاب يجمع الحروف بعضها إلى بعض ، وهو اسم من أسماء القرآن .

{ لا ريب فيه } أي لا شك فيه أنه من عند الله وأنه الحق والصدق ، وقيل هو خبر بمعنى النهي أي لا ترتابوا فيه والريب والشك مع التهمة مصدر ، وهو قلق النفس واضطرابها ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) {[72]} فإن الشك ريبة وإن الصدق طمأنينة ، ومنه ريب الزمان وهو ما يقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه ، وقيل الريب في التهمة والحاجة ، حكى ذلك القرطبي ، ومعنى هذا النفي العام أن الكتاب ليس بمظنة للريب لوضوح دلالته وضوحا يقوم مقام البرهان المقتضى لكونه لا ينبغي الارتياب فيه بوجه من الوجوه .

{ هدى } أي رشاد وبيان ، وأنه يذكر وهو الكثير وبعضهم يؤنث أي هو هدى أو هذه هدى أو هو هاد لهم إلى الحق ، والهدى مصدر ، وهذا وزن نادر في المصادر لم يرد منه فيما قيل إلا الهدى والتقى والسرى والبكا بالقصر في لغة ، وزاد الشاطبي : لغى بالضم في لغة أيضا قال الزمخشري : وهو الدلالة الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلال في مقابلته ، انتهى .

قال القرطبي : الهدى هديان ، هدى دلالة وهو الذي يقدر عليه الرسل وأتباعهم ، قال الله تعالى { ولكل قوم هاد } وقال { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه ، وتفرد سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم ( إنك لا تهدي من أحببت ) فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب ، ومنه قوله تعالى { أولئك على هدى من ربهم } وقوله { ولكن الله يهدي من يشاء } .

{ للمتقين } أي من ثبتت لهم التقوى ، وتخصيص الهدى بالمتقين لما أنهم المقتبسون من أنواره المنتفعون بآثاره وإن كانت بهدايته شاملة لكل ناظر من مؤمن وكافر ، ولذا أطلقت في قوله { هدى للناس } قاله أبو السعود قال ابن فارس وأصلها في اللغة قلة الكلام ، وقال في الكشاف المتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى ، والوقاية الصيانة ، وهو في الشريعة الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك انتهى قال ابن مسعود وهم المؤمنون .

وعن معاذ بن جبل أنه قيل له من المتقون فقال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة ، وعن أبي هريرة أن رجلا قال له ما التقوى ؟ قال هل وجدت طريقا ذا شوك ، قال نعم فكيف صنعت قال إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه ، قال ذلك التقوى ، وعن أبي الدرداء قال تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خيفة أن يكون حراما يكون حجابا بينه وبين الله وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين .

وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن عطية السعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس ) فالمصير إلى ما أفاده هذا الحديث واجب ، ويكون هذا معنى شرعيا للمتقي أخص من المعنى الذي قدمنا عن صاحب الكشاف زاعما أنه المعنى الشرعي .

وقد أطال القوم في ذكر تعاريف التقوى ورسوم المتقي لا حاجة لنا إلى التطويل بذكر تلك الأقوال ، فالمرفوع يغني عن المرقوع ، والصباح يغني عن المصباح .


[71]:مسلم /2751 وفي رواية لما خلق الله الخلق... البخاري /1509.
[72]:النسائي 2/334-الترمذي 2/84- الدرامي 2/254- الحاكم 2/13- مسند أحمد 1/200- أبو نعيم 6/352.