{ الذين يؤمنون بالغيب } هو وصف للمتقين كاشف ، وأصل الإيمان في اللغة التصديق ، قال تعالى { وما أنت بمؤمن لنا } أي بمصدق وتعديته بالباء لتضمنه معنى الاعتراف ، وقد يطلق بمعنى الوثوق وكلا الوجهين حسن هنا ، والغيب في كلام العرب كل ما غاب عنك . قال القرطبي واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا فقالت فرقة الغيب هو الله سبحانه ، وضعفه ابن العربي ، وقال آخرون القضاء والقدر . وقال آخرون القرآن وما فيه من الغيوب وقيل القلب أي يصدقون بقلوبهم ، وقيل الغيب الخفاء ، وقال آخرون الغيب كل ما أخبر به الرسول مما لا تهدي إليه العقول من أشراط الساعة ، وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار .
قال ابن عطية وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها . قال وهذا هو الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبرائيل حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم ( فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت ) انتهى ، وهذا الحديث هو ثابت في الصحيح بلفظ ( والقدر خيره وشره ) {[73]} .
وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وأبو نعيم كلاهما في معرفة الصحابة عن نزيلة بنت أسلم قالت صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة واستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين ثم جاءنا من يخبرنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال ، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( أولئك قوم آمنوا بالغيب ) وأخرج البزار وأبو يعلى والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أنبئوني بأفضل أهل الإيمان إيمانا ) قالوا يا رسول الله الملائكة قال هم كذلك ويحق لهم ، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها قالوا يا رسول الله ( الأنبياء الذين أكرمهم الله برسالته ونبوته ) قال هم كذلك ويحق لهم وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها قالوا يا رسول الله الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء . قال هم كذلك وما يمنعهم وقد أكرمهم الله بالشهادة . قالوا فمن يا رسول الله ؟ قال ( أقوام في أصلاب الرجال يأتون من بعدي يؤمون بي ولم يروني ويصدقوني ولم يروني يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان ) {[74]} وفي إسناده محمد بن أبي حميد ، وفيه ضعف .
وأخرج حسن بن عرفة في جزئه المشهور والبيهقي في الدلائل عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحو الحديث الأول وفي إسناده المغيرة بن قيس البصري وهو منكر الحديث وأخرج نحوه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا والإسماعيلي عن أبي هريرة مرفوعا أيضا والبزار عن أنس مرفوعا .
وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا ليتني قد لقيت إخواني ) قالوا يا رسول الله ألسنا إخوانك ، قال ( بلى ولكن قوم يجيئون من بعدكم يؤمنون بي إيمانكم ويصدقوني تصديقكم وينصروني نصركم ، فيا ليتني قد لقيت إخواني ) {[75]} وعن أبي جمعة الأنصاري قال : ( قلت يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجرا : آمنا بك واتبعناك قال : ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم ، يأتيكم بالوحي من السماء ، بل قوم يأتون من بعدكم ، يأتيهم كتاب الله بين لوحين فيؤمنون بي ويعملون بما فيه ، أولائك أعظم منكم أجرا{[76]} ) أخرجه أحمد والدارمي والبارودي وابن قانع معا في معجم الصحابة ، والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم عن أبي أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( طوبي لمن رآني وآمن بي ، وطوبي لمن آمن بي ولم يرني سبع مرات ) أخرجه الطيالسي وأحمد والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم .
وأخرجه أحمد وابن سعيد أن رجلا قال يا رسول الله طوبى لمن رآك وآمن بك . قال ( طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يراني ) وأخرج الطيالسي وعبد بن حميد عن ابن عمر نحوه ، وأخرج أحمد وأبو يعلي والطبراني من حديث أنس نحو حديث الباهلي المتقدم .
وعن ابن مسعود أنه قال والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ { ألم } الآية ، وللتابعين أقوال ، والراجح ما تقدم من أن الإيمان الشرعي يصدق على جميع ما ذكر هنا .
وذكر الحافظ ابن حجر في الفتح كلاما مفيدا في حديث عمر بن الخطاب المتقدم باعتبار ما ورد في الصحابة ، وحاصله أن فضيلة الصحابة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومجرد زيادة الأجر لا يستلزم أفضلية غير الصحابة على الصحابة لأن الأجر إنما يقع مفاضلة بالنسبة إلى ما يماثله من العمل ، ومشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم لا يعدلها عمل ، هذا حاصل ما أشار إليه وهو محتاج لأنه كثيرا ما يستشكل الجمع بين الأحاديث والله أعلم . قال ابن جرير في هذه الآية : والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولا واعتقادا وعملا ، وتدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل ، والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل ، وقال ابن كثير إن الإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادا وقولا وعملا ، هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة بل قد حكاه الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغير واحد إجماعا أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، وقد ورد فيه آثار كثيرة انتهى .
وقد أنكر أكثر المتكلمين زيادة الإيمان ونقصانه ، وقال أهل السنة إن نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص ، والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة الأعمال ونقصانها ، وبهذا أمكن الجمع بين ظواهر النصوص من الكتاب والسنة التي جاءت بزيادة الإيمان ونقصانه ، وبين أصله من اللغة .
والدليل على أن الأعمال من الإيمان قوله صلى الله عليه وسلم ( الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان{[77]} ) أخرجه الشيخان عن أبي هريرة .
ولشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام في معنى الغيب وعالمه في كتاب العقل والنقل حاصله أن من زعم أن عالم الغيب الذي أخبره به الله والرسل هو العالم العقلي الذي يثبته هؤلاء الفلاسفة فهو من أضل الناس ، فإن ابن سينا ومن سلك سبيله في هذا كالشهرستاني والرازي وغيرهما يقولون إن الإلهيين يثبتون العالم العقلي ويردون على الطبيعيين منهم الذين لا يثبتون إلا العالم الحسي ويدعون أن العالم العقلي الذي يثبتون هو ما أخبرت به الرسل من الغيب الذي أمروا بالإيمان به مثل وجود الرب والملائكة والجنة ، وليس الأمر كذلك ، فإن ما يثبتونه من العقليات إذا حقق الأمر لم يكن لها وجود إلا في العقل ، وسميت مجردات ومفارقات لأن العقل يجرد الأمور الكلية عن المغيبات ، وأما تسميتها مفارقات فكان أصله أن النفس الناطقة تفارق البدن وتصير حينئذ عقلا وكانوا يسمون ما جامع المادة بالتدبير لها كالنفس قبل الموت نفسا وما فارقها بالكلية فلم يتعلق بها لا تعلق تدبير ولا غيره عقلا ، ولا ريب أن النفس الناطقة قائمة بنفسها باقية بعد الموت منعمة أو معذبة كما دل على ذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها ثم تعاد إلى الأبدان .
والمقصود هنا أن ما يثبتونه من العقليات إذا حققت لم يكن إلا ما ثبت في عقل الإنسان ، ولهذا كان منتهى تحقيقهم الوجود المطلق ، وهو الوجود المترك بين الموجودات . وهكذا إنما يكون مطلقا في الأذهان لا في الأعيان ، والمتفلسفة يجعلون الكلي المشترك موضوع العلم الإلهي ، وأما الوجود الواجب فتارة يقولون هو الوجود المقيد بالقيود السلبية كما يقوله ابن سينا ، وتارة يجعلونه المجرد عن كل قيد سلبي وثبوتي كما يقوله بعض الملاحدة من باطنية الرافضة والإتحادية ، وتارة يجعلونه نفس وجود الموجودات فلا يجعلون للممكنات وجودا غير الوجوب ، وغايتهم أنهم يجعلون في أنفسهم شيئا ويظنون أن ذلك موجود في الخارج ، ولهذا يمدهم الشياطين ، فإن الشياطين تتصرف في الخيال وتلقي في خيالات الناس أمورا لا حقيقة لها ، ومحققو هؤلاء يقولون أرض الحقيقة هي أرض الخيال .
وأما ما أخبرت به الرسل موجودة من الغيب فهو أمور ثابتة أكمل وأعظم مما نشاهده نحن في هذه الدار وتلك أمور محسوسة تشاهد وتحس ، ولكن بعد الموت وفي الدار الآخرة ، ويمكن أن يشاهدها في هذه الدار من يختصه الله بذلك ليست عقلية قائمة بالعقل ، ولهذا كان الفرق بينها وبين الحسيات التي نشاهدها أن تلك غيب وهذه شهادة قال تعالى { الذين يؤمنون بالغيب } وكون الشيء غائبا وشاهدا أمر إضافي بالنسبة إلينا ، فإذا غاب عنا كان غيبا ، وإذا شاهدناه كان شهادة ، ليس هو فرقا يعود إلى أن ذاته تعقل ولا تشاهد ولا تحس ، بل كل ما يعقل ولا يمكن أن يشاهد بحال فإنما يكون في الذهن ، والملائكة يمكن أن يشاهدوا ويروا الرب تعالى ، ويمكن رؤيته بالأبصار والمؤمنون يرونه يوم القيامة وفي الجنة كما تواترت النصوص في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، واتفق على ذلك سلف الأمة وأئمتها ، وإمكان رؤيته يعلم بالدلائل العقلية القاطعة ، لكن ليس هو الدليل الذي سلكه طائفة من أهل الكلام كأبي الحسن وأمثاله حيث ادعوا أن كل موجود يمكن رؤيته ، بل قالوا ويمكن أن يتعلق به الحواس الخمس السمع والبصر والشم والذوق واللمس ، فإن هذا مما يعلم فساده بالضرورة عند جماهير العلماء ، وهذا من أغاليط بعض المتكلمين ، هذا . قوله { ويقيمون الصلاة } أي يداومون عليها ، والإقامة في الأصل الدوام والثبات ، وليس من القيام على الرجل ، إنما هو من قولك قام الحق أي ظهر وثبت ، وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيآتها في أوقاتها وحفظها من أن يقع فيها خلل في فرائضها وحدودها وزيغ في أفعالها وإتمام أركانها ، والصلاة أصلها في اللغة الدعاء من صلى يصلي إذا دعا ، ذكر هذا الجوهري وغيره ، وقال قوم هي مأخوذة من الصلا ، وهو عرق في وسط الظهر ويفترق عند العجب ، ذكر هذا القرطبي ، وهذا هو المعنى اللغوي .
وأما المعنى الشرعي فهو هذه الصلاة التي هي ذات الأركان والأذكار ، قال ابن عباس المراد به الصلوات الخمس وقال قتادة إن إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها .
{ ومما رزقناهم ينفقون } أي يخرجون ويتصدقون في طاعة الله وفي سبيله والرزق عند الجمهور ما صلح للانتفاع به حلال كان أو حراما خلافا للمعتزلة فقالوا إن الحرام ليس برزق ، وللبحث في هذه المسألة موضع غير هذا ، والإنفاق إخراج المال من اليد وأنفق الشيء وأنفده أخوان ، ولو استقريت الألفاظ وجدت كل ما فاؤه نون وعينه فاء دالا على معنى الذهاب والخروج .
وفي المجيء بمن التبعيضية ههنا نكتة سرية هي الإرشاد إلى ترك الإسراف والتبذير ، وتقديم المفعول للاهتمام به والمحافظة على رؤوس الآي ، قال أبو بكر الباقلاني : ذهب الأشاعرة كلهم إلى نفي السجع عن القرآن ، وذهب كثير ممن خالفهم إلى إثباته انتهى ، قال البقاعي الثاني فاسد ، وأطال في بيان ذلك بلا طائل ، والحق ، أنه في القرآن من التزام له في الأكثر ، وكأن من نفاه نفى التزامه أو أكثريته ، ومن أثبته أراد وروده فيه في الجملة ، فاحفظه ولا تلتفت لما سواه ، والذي عليه العلماء أنه تطلق الفواصل عليه دون السجع قاله الخفاجي .
قال : ابن عباس يعني زكاة أموالهم في طاعته وسبيله كالزكاة والنذر وفي الجهاد وعلى النفس وقال ابن مسعود هي نفقة الرجل على أهله ، واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات وهو الحق من غير فرق بين النفقة على الأقارب وغيرهم وصدقة الفرض والنقل ، وعدم التصريح بنوع من الأنواع التي يصدق عليها مسمى الإنفاق يشعر أتم إشعار بالتعميم{[78]} .