فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ثُمَّ خَلَقۡنَا ٱلنُّطۡفَةَ عَلَقَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡعَلَقَةَ مُضۡغَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡمُضۡغَةَ عِظَٰمٗا فَكَسَوۡنَا ٱلۡعِظَٰمَ لَحۡمٗا ثُمَّ أَنشَأۡنَٰهُ خَلۡقًا ءَاخَرَۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ} (14)

{ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً } أي أنه سبحانه أحال النطفة البيضاء علقة حمراء { فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً } أي قطعة لحم غير مخلقة { فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ } أي غالبها أو كلها ، قولان حكاهما أبو السعود { عِظَامًا } أي متصلبة لتكون عمودا للبدن على أشكال مخصوصة .

{ فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا } من بقية المضغة أو مما أنبت الله سبحانه على كل عظم لحما على المقدار الذي يليق به ويناسبه { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } مباينا للخلق الأول أي نفخنا فيه الروح بعد أن كان جمادا ، قاله ابن عباس ، وبه قال مجاهد وعكرمة والشعبي والحسن وأبو العالية والربيع بن أنس والسدي والضحاك وابن زيد واختاره ابن جرير .

وقيل أخرجناه إلى الدنيا ، وقيل هو نبات الشعر وقيل خروج الأسنان قاله ابن عباس ، وقيل تكميل القوى المخلوقة فيه ، وقيل كمال بابه ، وقيل إن ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الرضاع إلى القعود والقيام إلى المشي إلى الفطام إلى أن يأكل ويشرب إلى أن يبلغ الحلم ، ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها ، والصحيح أنه عام في هذا ، وفي غيره من النطق والإدراك وحسن المحاولة وتحصيل المعقولات إلى أن يموت ، قال الكرخي : المعنى حولنا النطفة عن صفاتها إلى صفة لا يحيط بها وصف الواصفين .

{ فَتَبَارَكَ اللَّهُ } أي استحق التعظيم والثناء ، وقيل مأخوذ من البركة أي كثر خيره وبركته { أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } أي المصورين والخلق في اللغة التقدير ، يقال خلقت الأديم إذا قسته لتقطع منه شيئا ، فمعناه أتقن الصانعين المقدرين خلقا في الظاهر ، وإلا فالله خالق الكل .

عن صالح أبي الخليل : قال لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } ، قال عمر رضي الله عنه : فتبارك الله أحسن الخالقين قال : " والذي نفسي بيده ختمت بالذي تكلمت به يا عمر " .

وعن أنس قال : قال عمر : وافقت ربي في أربع قلت : يا رسول الله لو صلينا خلف المقام ؟ فأنزل الله : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } ، وقلت : يا رسول الله لو اتخذت على لسانك حجابا ؟ فإنه يدخل عليك البر والفاجر فأنزل الله : { وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب } ، وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم : لتنتهن أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن فنزلت { عسى ربه إن طلقكن } الآية ، ونزلت { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ } إلى قوله : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } فقلت : فتبارك الله أحسن الخالقين ، أخرجه الطيالسي وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر .

وعن زيد بن ثابت قال : أملى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ } الآية ، فقال معاذ بن جبل : فتبارك الله أحسن الخالقين ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له معاذ : مم ضحكت يا رسول الله ؟ قال : " بها ختمت " ، وفي إسناده جعفر الجعفي وهو ضعيف جدا ، قال ابن كثير : وفي خبره هذا نكارة شديدة ، وذلك أن هذه السورة مكية وزيد بن ثابت إنما كتب الوحي بالمدينة ، وكذلك إسلام معاذ إنما كان بالمدينة والله تعالى أعلم{[1257]} .


[1257]:ابن كثير 3/242.