فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{بِنَصۡرِ ٱللَّهِۚ يَنصُرُ مَن يَشَآءُۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ} (5)

{ في بضع سنين } قد تقدم تفسير البضع واشتقاقه في سورة يوسف ، والمراد هنا : ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وقيل : إلى التسع ، وقيل : إلى السبع ، وقيل : ما دون العشرة ، وإنما أبهم البضع ولم يبينه ، وإن كان معلوما لنبيه صلى الله عليه وسلم لإدخال الرعب والخوف عليهم في كل وقت ، كما يؤخذ ذلك من تفسير الفخر الرازي .

أخرج الترمذي وصححه ، والدارقطني في الأفراد ، والطبراني ، وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل ، والبيهقي في الشعب ، عن نيار بن مكرم الأسلمي قال : لما نزلت : ألم غلبت الروم الآية ، كانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين الروم ، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل الكتاب ، وفي ذلك قول الله : ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله الخ وكانت قريش تحب ظهور فارس ، لأنهم وإياهم ليسوا أهل كتاب ولا إيمان ببعث ، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة : ألم غلبت الروم في أدنى الأرض ، وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، في بضع سنين فقال ناس من قريش لأبي بكر : ذلك بيننا وبينكم ، يزعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين ، أفلا نراهن على ذلك ؟ فقال : بلى ، وذلك قبل تحريم الرهان ، فارتهن أبو بكر والمشركون ، وتواضعوا وقالوا لأبي بكر : لم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين ؟ فسم بيننا وبينك وسطا ننتهي إليه قال فسموا بينهم ست سنين فمضت الست قبل أن يظهروا فأخذ المشركون رهن أبي بكر فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم ، فعاب المسلمون على أبي بكر تسميته ست سنين ، لأن الله قال في بضع سنين ، فأسلم عند ذلك ناس كثير .

وأخرج الترمذي وحسنه ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر : " ألا احتطت يا أبا بكر ؟ فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع " . وأخرج البخاري عنه في تاريخه نحوه ، وفي الباب روايات . وما ذكرنا يغني عما سواه .

{ لله الأمر } أي هو المتفرد بالقدرة وإنفاذ الأحكام { من قبل ومن بعد } أي من وقت المغلوبية ووقت الغالبية . فهو لف ونشر مرتب على الآية وقال أبو السعود : أي في أول الوقتين وفي آخرهما حين غلبوا ، وحين يغلبون والمعنى أن كلاّ من كونهم مغلوبين أولا وغالبين آخرا ، ليس إلا بأمر الله تعالى وقضائه ، وتلك الأيام نداولها بين الناس انتهى . قرئ بضم الظرفين لكونهما مقطوعين عن الإضافة أي من قبل الغلب ، ومن بعده ، أو من قبل كل أمر وبعده . قال الزجاج : معنى الآية من متقدم ومن متأخر ، وحكى الكسائي من قبل ومن بعد ، بكسر الأول منونا وضم الثاني بلا تنوين . وحكى الفراء بكسرهما من غير تنوين وغلطه النحاس ، وقال : إنما يجوز مكسورا منونا ، تلت وقد قرئ بذلك ، ووجهه أنه لم ينو إضافتهما فأعربهما وقال شهاب الدين : وقد قرئ بكسرهما منونين .

{ يومئذ } أي ويوم أن تغلب الروم على فارس ، ويحل ما وعد الله من غلبتهم { يفرح المؤمنون بنصر الله } للروم على فارس لكونهم أهل كتاب كما أن المسلمين أهل كتاب بخلاف فارس فإنهم لا كتاب لهم ، ولهذا سر المشركون بنصرهم على الروم ، وقيل : نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم على فارس ، والأول أولى ، قال الزجاج : هذه الآية من الآيات التي تدل على أن القرآن من عند الله ، لأنه أنبأ بما سيكون وهذا لا يعلمه إلا الله سبحانه .

{ ينصر من يشاء } أن ينصره { هو العزيز } الغالب القاهر { الرحيم } الكثير الرحمة لعباده المؤمنين ، وقيل : المراد بالرحمة هنا الدنيوية وهي شاملة للمسلم والكافر