فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

{ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ( 101 ) }

{ وإذا ضربتم في الأرض } هذا شروع في بيان كيفية الصلاة عند الضرورات من السفر ولقاء العدو والمرض والمطر ، وفيه تأكيد لعزيمة المهاجر على الهجرة وترغيب له فيها لما فيه من تخفيف المؤنة أي إذا سافرتم أي مسافرة كانت ، ولذلك لم تقيد بما قيد به المهاجرة وقد تقدم تفسير الضرب في الأرض قريبا .

{ فبيس عليكم جناح } أي وزر ولا حرج في { أن تقصروا من الصلاة } يعني من أربع ركعات إلى ركعتين وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء ، وأصل القصر في اللغة التضييق وقيل هو ضم الشيء على أصله ، وفسر ابن الجوزي القصر بالنقص ، ولم أره لأحد من أهل التفسير واللغة ، ومن للتبعيض .

وفي الآية دليل على أن القصر ليس بواجب إليه ذهب الجمهور ، وذهب الأقلون إلى أنه واجب ومنهم عمر بن عبد العزيز والكوفيون والقاضي إسماعيل وحماد بن أبي سليمان ، وهو مروي عن مالك ، واستدلوا بحديث عائشة الثابت في الصحيح ( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيدت في الحضر وأقرت في السفر ) ولا يقدح في ذلك مخالفتها لما روت ، فالعمل على الرواية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ومثله حديث يعلى بن أمية قال سألت عمر بن الخطاب قلت : { ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } وقد أمن الناس فقال لي عمر عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ) أخرجه أحمد ومسلم وأهل السنن{[533]} .

وظاهر قوله ( فاقبلوا صدقته ) أن القصر واجب ، وظاهر هذا الشرط أعني { إن خفتم أن يفتنكم } أي يغتالكم ويقتلكم في الصلاة { الذين كفروا } أن القصر لا يجوز في السفر إلا مع خوف الفتنة من الكافرين لا مع الأمن ، ولكنه قد تقرر بالسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر مع الأمن كما عرفت .

فالقصر مع الخوف ثابت بالكتاب ، والقصر مع الأمن ثابت بالسنة ، ومفهوم الشرط لا يقوى على معارضة ما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم من القصر مع الأمن .

وقد قيل إن الشرط خرج مخرج الغالب ، لأن الغالب على المسلمين إذ ذاك القصر للخوف في الأسفار ، ولهذا قال يعلى بن أمية لعمر كما تقدم .

وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدو ، فمن كان آمنا فلا قصر له ، وإليه ذهب داود الظاهري .

وذهب آخرون إلى أن قوله { إن خفتم } ليس متصلا بما قبله ، وأن الكلام تم عند قوله { من الصلاة } ثم افتتح فقال { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } فأقم لهم يا محمد صلاة الخوف .

قال الفراء أهل الحجاز يقولون فتنت الرجل ، وربيعة وقيس وأسد وجميع أهل نجد يقولون أفتنت الرجل ، وفرق الخليل وسيبويه بينهما فقالا : فتنته جعلت فيه فتنة مثل كحلته ، أفتنته جعلته مفتنا ، وزعم الأصمعي أنه لا يعرف أفتنته ، والمراد بالفتنة القتال والتعرض بما يكره { وإن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا } معترض ذكر معنى هذا الجرجاني والمهدوي وغيرهما ، ورده القشيري والقاضي أبو بكر بن العربي .


[533]:صحيح الجامع3656 وصحيح أبو داود1083.