فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ} (3)

{ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا } وجه ارتباط الجزاء بالشرط أن الرجل كان يكفل اليتيمة لكونه وليا لها ويريد أن يتزوجها فلا يقسط لها في مهرها أي لا يعدل فيه ولا يعطيها ما يعطيها غيره من الأزواج ، فنهاهم الله أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى ما هو لهن من الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن .

فهذا سبب نزول الآية فهو نهي يخص هذه الصورة ، قال جماعة من السلف إن هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية وفي أول الإسلام من أن للرجل أ يتزوج من الحرائر ما يشاء فقصرهم بهذه الآية على أربع ، فيكون وجه ارتباط الجزاء بالشرط أنهم إذا خافوا أن لا يقسطوا في اليتامى فكذلك يخافون أن لا يقسطوا في النساء ، لأنهم كانوا يتحرجون في اليتامى ولا يتحرجون في النساء ، والخوف من الأضداد فإن المخوف قد يكون معلوما ، وقد يكون مظنونا .

ولهذا اختلف الأئمة في معناه في الآية فقال أبو عبيد : خفتم بمعنى أيقنتم ، وقال الآخرون بمعنى ظننتم ، قال ابن عطية وهو الذي اختاره الحداق : وإنه على بابه من الظن لا من اليقين .

والمعنى من غلب على ظنه التقصير في العدل لليتيمة فليتركها وينكح غيرها .

والمعروف عند أهل اللغة أن أقسط بمعنى عدل ، وقسط بمعنى جار لأن الهمزة تأتي للسلب فيقال أقسط إذا أزال القسط أي الجور والظلم ، ولذلك جاء { وأما القاسطون } الآية ، { وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } وجاء قسط قسطا من باب ضرب ، وقسوطا جار وعدل فهو من الأضداد ، قاله ابن القطاع ، والاسم القسط .

و " ما " في قوله { ما طاب لكم } موصولة وجاء بما مكان " من " لأنهما قد يتعاقبان فيقع كل واحد منهما مكان الآخر كما في قوله { والسماء وما بناها } { ومنهم من مشي على بطنه ومنهم من يمشي على أربع } .

قال بعضهم : وحسن وقوعها هنا أنها واقعة على النساء وهن ناقصات العقول ، وقال البصريون : إن { ما } يقع للنعوت كما يقع لما لا يعقل ، يقال ما عندك فيقال ظريف وكريم ، وقيل هي لنوع من يعقل ، فالمعنى فانكحوا النوع الطيب من النساء أي الحلال وما حرمه الله فليس بطيب ، وقيل إن { ما } هنا مدية أي ما دمتم مستحسنين للنكاح ، وضعفه ابن عطية .

قال الفراء : إن { ما } ههنا مصدرية ، قال النحاس : وهذا بعيد جدا ، وقيل إنها نكرة موصوفة أي انكحوا جنسا طيبا وعددا طيبا ، والأول أولى ، وقرئ فانكحوا من طاب لكم .

وقد اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له ، وأنه يجوز لمن لم يخف أن يقسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة .

و " من " في قوله { من النساء } إما بيانية أو تبعيضية لأن المراد غير اليتائم بشهادة قرينة المقام أي فانكحوا من استطابتها نفوسكم من الأجنبيات ، وفي إيثار الأمر بنكاحهن على النهي عن نكاح اليتامى مع أنه المقصود بالذات مزيد لطف في استنزالهم ، فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه .

على أن وصف النساء بالطيب على الوجه الذي أشير إليه ، فيه مبالغة في الاستمالة إليهن ، والترغيب فيهن ، وكل ذلك للاعتناء بصرفهم عن نكاح اليتامى وهو السر في توجيهه النهي الضمني إلى النكاح المترقب .

{ مثنى وثلاث ورباع } أي اثنتين اثنتين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا ، وهذه الألفاظ المعدولة فيها خلاف ، وهل يجوز فيها القياس أو يقتصر فيها على السماع ، فالأول قول الكوفيين وأبي إسحق وغيره ، والثاني قول البصريين .

والمسموع من ذلك أحد عشر لفظا أحاد وموحد ، وثناء ومثنى ، وثلاث ومثلث ، ورباع ومربع ، ومخمس وعشار ومعشر ، ولم يسمع خماس ولا غيره من بقية العقد . وجمهور النحاة على منع صرفها وأجاز الفراء صرفها وإن كان المنع عنده أولى .

وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة ، وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد كما يقال للجماعة اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم أو هذا المال الذي في البدرة درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة .

وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته أو عين مكانه ، أما لو كان مطلقا كما يقال اقتسموا الدراهم ، ويراد به ما كسبوه فليس المعنى هكذا ، والآية من الباب الآخر لا من الباب الأول ، على أن من قال لقوم يقتسمون مالا معينا كبيرا اقتسموه مثنى وثلاث ورباع فقسموا بعضه بينهم درهمين وبعضه ثلاثة ثلاثة وبعضه أربعة أربعة كان هذا هو المعنى العربي .

ومعلوم أنه إذا قال القائل : جاءني القوم مثنى ، وهم مائة ألف كان المعنى أنهم جاءوه اثنين اثنين ، وهكذا جاءني القوم ثلاث ورباع .

الخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد كما في قوله تعالى { اقتلوا المشركين ، أقيموا الصلاة ، آتوا الزكاة } ونحوها .

فمعنى قوله { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا ، هذا ما يقتضيه لغة العرب . فالآية تدل على خلاف ما استدلوا به عليه .

ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } فإنه إن كان خطاب للجميع فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد ، فالأول أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن .

وأما استدلال من استدل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة ، وكأنه قالوا انكحوا مجموع هذا العدد المذكور ، فهذا جهل بالمعنى العربي ، ولو قال انكحوا اثنتين وثلاثا وأربعا ، كان هذا القول له وجه ، وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا .

وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون ( أو ) لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد دون غيره ، وذلك ليس بمراد من النظم القرآني .

وأخرج الشافعي وابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اختر منهن وفي لفظ امسك منهن أربعا وفارق سائرهن{[406]} ، وروي هذا الحديث بألفاظ من طرق .

وعن نوفل بن معاوية الديلي قال أسلمت وعندي خمس نسوة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمسك أربعا وفارق الأخرى ، أخرجه الشافعي في مسنده .

وأخرج ابن ماجة والنحاس في ناسخه عن قيس بن الحارث الأسدي قال أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة فأتيت النبي صلى لله عليه وآله وسلم فأخبرته فقال اختر منهن أربعا وخل سائرهن ففعلت ، وهذه شواهد للحديث الأول كما قال البيهقي .

وعن الحكم قال أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن المملوك لا يجمع من النساء فوق اثنتين ، وفي بعض التفاسير هنا خلط وخبط تركناه لأنه تطويل بلا طائل ، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق .

{ فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } بين الزوجات في القسم والنفقة ونحوهما { فواحدة } أي فانكحوا واحدة وفيه المنع من الزيادة على الواحدة لمن خاف ذلك .

{ أو } انكحوا واقتصروا على { ما ملكت أيمانكم } من السراري وإن كثر عددهن كما يفيده الموصول ، إذ ليس لهن من الحقوق ما للزوجات ، والمراد نكاحهن بطريق الملك لا بطريق النكاح ، وفيه دليل على أنه لا حق للمملوكات في القسم كما يدل على ذلك جعله قسيما للوحدة في الملك إلى اليمين لكونها المباشرة لقبض الأموال وإقباضها ولسائر الأمور التي تنسب إلى الشخص في الغالب .

{ ذلك } أي نكاح الأربعة فقط أو الواحدة أو التسري { أدنى } أقرب إلى { ألا تعولوا } تجوروا من عال الرجل يعول إذا مال وجار ومنه قولهم عال السهم عن الهدف أي مال عنه ، وعال الميزان إذا مال .

والمعنى إن خفتم عدم العدل بين الزوجات فهذه التي أمرتم بها أقرب إلى عدم الجور ، وهو قول أكثر المفسرين .

وقال الكسائي يقال عال الرجل يعيل إذا افتقر فصار عالة ، ومنه قوله تعالى { وإن خفتم عيلة } وقيل المعنى أن لا تضلوا ، وقال الشافعي أن لا تكثر عيالكم ، قال الثعلبي وما قال هذا غيره ، وإنما يقال أعال يعيل إذا كثر عياله .

وذكر ابن العربي أن عال يأتي لسبعة معان ( الأول ) مال ( الثاني ) زاد ( الثالث ) جار ( الرابع ) افتقر ( الخامس ) أثقل ( السادس ) قام بمعونة العيال ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ( وابدأ بمن تعول ) {[407]} ( السابع ) غلب ومنه عيل صبري ، قال ويقال أعال الرجل كثر عياله ، وأما عال بمعنى كثر عياله فلا يصح .

ويجاب على إنكار الثعلبي لما قاله الشافعي ، وكذلك إنكار ابن العربي بأنه قد سبق الشافعي إلى القول به زيد بن أسلم وجابر ابن زيد ، وهما إمامان من أئمة المسلمين لا يفسران القرآن هما والإمام الشافعي بما لا وجه له في العربية ، وقد أخرج ذلك عنهما الدارقطني في سننه .

وقد حكاه القرطبي عن الكسائي وأبي عمرو الدوري وابن الأعرابي ، وقال أبو حاتم كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا ولعله لغة ، وقال الدوري هي لغة حمير .

قال ابن عطية : قول الشافعي نفسه حجة لأنه عربي فصيح ، وقال الأزهري : والذي اعترض عليه وخطأه عجل ولم يتثبت فيما قال ، ولا ينبغي للحضرمي أن يعجل إلى إنكاره ما لا يحفظه من لغات العرب أه .

وبسط الرازي في هذا المقام من تفسيره . ورد على أبي بكر الرازي ثم قال : الطعن لا يصدر إلا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة .

وقرأ طلحة بن مصرف : أن لا تعيلوا بضم التاء ، وهو حجة الشافعي .

وقدح الزجاج في تأويل عال من العيال بأن الله سبحانه قد أباح كثرة السراري ، وفي ذلك تكثير العيال ، فكيف يكون أقرب إلى أن لا تكثر ، وهذا القدح غير صحيح لأن السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع ، وإنما العيال الحرائر ذوات الحقوق الواجبة .

وقد حكى ابن الأعرابي أن العرب تقول عال الرجل إذا كثر عياله ، وكفى بهذا ، وقد ورد عال لمعان غير السبعة التي ذكرها ابن العربي منها عال اشتد وتفاقم ، حكاه الجوهري ، وعال الرجل في الأرض إذا ضرب فيها حكاه الهروي ، وعال إذا أعجز حكاه الأحمر ، فهذه ثلاث معان غير السبعة ، والرابع عال كثر عياله ، فحمله معاني عال أحد عشر معنى .

وعن قتادة في الآية قال : يقول إن خفت ألا تعدل في أربع فثلاثا وإلا فاثنتين وإلا فواحدة فإن خفت أن لا تعدل في واحدة فما ملكت يمينك ، وعن الربيع مثله ، وعن الضحاك قال ألا تعدلوا في المجامعة والحب وفيه نظر ، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول ( للهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك ) {[408]} يعني في حبه لعائشة ، والله تعالى يقول { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم } وعن السدي " أو ملكت أيمانكم " قال : السراري .

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم { ذلك أدنى أن لا تعدلوا } قال أن لا تجوروا قال ابن أبي حاتم هذا حديث خطأ ، والصحيح عن عائشة موقوف ، وعن ابن عباس موقوف . {[409]}

وعن ابن عباس قال أن لا تميلوا ، وعن مجاهد وأبي رزين وأبي مالك والضحاك مثله ، وعن زيد ابن أسلم أن لا يكثر من تعولوا ، وعن سفيان بن عيينة أن لا تفتقروا .


[406]:الدارقطني 2/1492.
[407]:البخاري كتاب الزكاة الباب 18.
[408]:أبو داود كتاب النكاح الباب38-الترمذي كتاب النكاح الباب41.
[409]:ابن كثير2/451.