فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (42)

{ سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ( 42 ) وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ( 43 ) }

{ سماعون للكذب } كرره تأكيدا لقبحه وليكون كالمقدمة لما بعده وهو { أكالون للسحت } وهو بضم السين وسكون الحاء المال الحرام وأصله الهلاك والشدة ، من سحته إذا أهلكه ، ومنه :

{ فيسحتكم بعذاب } ويقال للحالق اسحت أي استأصل وسمي الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويسأصلها ، وقال الفراء أصله كلب الجوع ، وقيل هو الرشوة والأول أولى ، والرشوة تدخل في الحرام دخولا أوليا .

وقد فسره جماعة بنوع من أنواع الحرام خاص كالهدية لمن يقضى له حاجة أو حلوان الكاهن والتعميم أولى بالصواب . قال ابن عباس أخذوا الرشوة في الحكم وقضوا بالكذب ، وعن ابن مسعود قال السحت الرشوة في الدين ، وقل سفيان في الحكم وعن ابن عباس قال : رشوة الحكام حرام ، وهي السحت الذي ذكر الله تعالى في كتابه .

وعن علي أنه سئل عن السحت فقال : الرشى ، فقيل له في الحكم قال : ذلك الكفر ، وعن عمر قال : بابان من السحت يأكلهما الناس الرشى في الحكم ومهر الزانية ، وقد تبث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الرشوة ما هو معروف ، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم ) {[637]} ، أخرجه الترمذي وأخرجه أبو داود عن ابن عمرو بن العاص .

{ فإن جاءوك فاحكم ينهم أو أعرض عنهم } فيه تخيير لرسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحكم بينهم والإعراض عنهم ، وقد استدل به على أن حكام المسلمين مخيرون بين الأمرين ، وقد أجمع العلماء على أنه يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين المسلم والذمي إذا ترافعا إليهم .

واختلفوا في أهل الذمة إذا ترافعوا فيما بينهم فذهب قوم إلى التخيير ، وبه قال الحسن والشعبي والنخعي والزهري ، وبه قال أحمد ، وذهب آخرون إلى الوجوب ، وقالوا ن هذه الآية منسوخة بقوله : { وأن أحكم بينهم بما أنزل الله } وبه قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي وهو الصحيح من قولي الشافعي ، وحكاه القرطبي عن أكثر العلماء وليس في هذه السورة منسوخ إلا هذا وقوله : { ولا آمين البيت } على ما سبق .

{ و } معنى { إن تعرض عنهم } إن اخترت الإعراض عن الحكم بينهم { فلن يضروك شيئا } أي إذا عادوك لإعراضك عنهم فإن الله يعصمك من الناس ، ولا سبيل لهم عليك لأنه سبحانه حافظك وناصرك عليهم { وإن حكمت } أي اخترت الحكم بينهم { فاحكم بينهم بالقسط } أي بالعدل الذي أمرك الله به وأنزله عليك { إن الله يحب المقسطين } العادلين فيما ولوا وحكموا فيه .

وعند عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمان ، وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ) ، أخرجه{[638]} مسلم .


[637]:صحيح الجامع الصغير4969.
[638]:مسلم1827.