فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمان الرحيم

سورة الأنعام

وهي مائة وخمس أو ست وستون آية قال الثعلبي : هي مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة وهي { وما قدروا الله حق قدره } إلى آخر الثلاث آيات { وقل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } إلى آخر ثلاث آيات قال ابن عطية وهي الآيات المحكمات أي في هذه السورة وقال القرطبي : هي مكية إلا آيتين { وما قدروا الله حق قدره } نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين ، وقوله تعالى : { وهو الذي أنشأ جنات معروشات } نزلت في ثابت ابن قيس .

وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نزلت سورة الأنعام ومعها موكب من الملائكة يسد ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتقديس ، والأرض ترتج ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سبحان الله العظيم سبحان الله العظيم ) {[1]} .

وعن ابن عباس وعلي أنها نزلت بمكة جملة واحدة ليلا ، وفي فضائل هذه السورة روايات عن جماعة من التابعين مرفوعة وغير مرفوعة قال القرطبي : قال العلماء : هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور ، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة نها في معنى واحد من الحجة وأن تصرف ذلك بوجوه كثيرة ، وعليها بنى المتكلمون أصول الدين .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون 1 } .

{ الحمد لله } بدأ سبحانه هذه السورة بالحمد لله للدلالة على أن الحمد كله له وإن لم يحمدوه ، وفيه تعليم اللفظ والمعنى مع تعريض الاستغناء ولإقامة الحجة على الذين هم بربهم يعدلون ، والحمد اللغوي الوصف بالجميل ذكره الزمخشري في الفائق ، وزاد صاحب المطالع وغيره كونه على جهة التعظيم والتسجيل أي ظاهرا وباطنا .

وأما الحمد الاصطلاحي فهو فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعما ، قاله الكرخي ، وقد تقدم في سورة الفاتحة ما يغني عن الإعادة له هنا .

وقال أهل المعاني لفظه خبر ومعناه الأمر أي احمدوا الله ، وإنما جاء بهذا النمط لأنه أبلغ في البيان من حيث إنه جمع الأمرين .

ثم وصف نفسه بأنه هو { الذي خلق السموات والأرض } إخبارا عن قدرته الكاملة الموجبة لاستحقاقه لجميع المحامد ، فإن من اخترع ذلك وأوجده هو الحقيق بإفراده بالثناء وتخصيصه بالحمد ، والخلق يكون بمعنى الاختراع وبمعنى التقدير ، وقد تقدم تحقيق ذلك ، وجمع السموات لتعدد طباقها وإن بعضها فوق بعض ، وقدمها على الأرض لشرفها لأنها متعبد الملائكة ولم يقع فيها معصية ، ولتقدمها في الوجود ، قاله القاضي لقوله تعالى : { والأرض بعد ذلك دحاها } فإنه صريح في أن بسط الأرض مؤخر عن تسوية السماء .

والأرض وإن كانت سبعة عند الجمهور فليس بعضها فوق بعض بل بعضها موال لبعض وإنما خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد ، فالسماء بغير عمد يرونها وفيه العبر والمنافع ، والأرض مسكن الخلق وفيها أيضا ذلك .

وعن كعب الأحبار هذه الآية أول آية في التوراة وآخر آية فيها قوله : { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا } وفي لفظ هو آخر سورة هود ، وقال ابن عباس : افتتح الله الخلق بالحمد وختمه به فقال وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين .

{ وجعل الظلمات والنور } ذكر سبحانه خلق الجواهر بقوله خلق السموات والأرض ثم ذكر الأعراض بقوله هذا لأن الجواهر لا تستغني عن الأعراض ، واختلف أهل العلم في المعنى المراد بالظلمات والنور فقال جمهور المفسرين : المراد بالظلمات سواد الليل ، وبالنور ضوء النهار وبه قال السدي ، وقال الحسن : الكفر والإيمان ، وقال ابن عطية ، وهذا خروج عن الظاهر انتهى .

وقيل المراد بهما الجهل والعلم ، وقيل الجنة والنار والأولى أن يقال إن الظلمات تشمل كل ما يطلق عليه اسم الظلمة ، والنور يشمل كل ما يطلق عليه اسم النور ، فيدخل تحت ذلك ظلمة الكفر ونور الإيمان { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات } .

وأفرد النور لأنه جنس يشمل جميع أنواعه ، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها وتعدد أنواعها نظيره ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الموضع المظلم يخالف كل واحد منهما صاحبه ، والنور ضرب واحد لا يختلف كما تختلف الظلمات .

قال النحاس : ( جعل ) ههنا بمعنى خلق ، وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعد إلا إلى مفعول واحد ، وقال القرطبي : جعل هنا بمعنى خلق ، لا يجوز غيره ، قال ابن عطية : وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق فيكون الجمع معطوفا على الجمع والمفرد معطوفا على المفرد ، وتقديم الظلمات على النور لأنها الأصل ، ولهذا كان النهار مسلوخا عن الليل .

عن مجاهد قال : نزلت هذه الآية في الزنادقة قالوا إن الله لم يخلق الظلمة ولا الخنافس ولا العقارب ولا شيئا قبيحا ، وإنما يخلق النور وكل شيء حسن فأنزلت فيهم هذه الآية وفيه أيضا رد قول الثنوية بقدم النور والظلمة ، وعن ابن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل ) {[676]} ذكره البغوي بغير سند .

{ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } ( ثم ) لاستبعاد ما صنعه الكفار من كونهم بربهم يعدلون مع ما تبين من أن الله سبحانه حقيق بالحمد على خلقه السموات والأرض والظلمات والنور ، قال الزمخشري ، فإن هذا يقتضي الإيمان به وصرف الثناء الحسن إليه لا الكفر به واتخاذ شريك له .

والباء متعلقة بيعدلون والتقديم للاهتمام ورعاية الفواصل وحذف المفعول لظهوره أي يعدلون به ما لا يقدر على شيء مما يقدر عليه ، وهذا نهاية الحمق وغاية الرقاعة حيث يكون منه سبحانه وتعالى تلك النعم ، ويكون من الكفرة الكفر .

قال علي : نزلت هذه الآية يعني الحمد لله إلى قوله يعدلون في أهل الكتاب ، وقال قتادة : هم أهل الشرك وعن السدي مثله ، وقال مجاهد : يعدلون أي يشركون وعن زيد قال : الآلهة التي عبدوها عدلوها بالله وليس لله عدل ولا ند ، وليس معه آلهة ولا اتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأصل العدل مساواة الشيء بالشيء ، وقال النضر بن شميل : الباء بمعنى عن أي عن ربهم ينحرفون من العدول عن الشيء .


[1]:ثم بفتح الثاء أي هناك.
[676]:ابن كثير 2/122.