فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الطلاق

وإحدى أو اثنتا أو ثلاث عشرة آية

وهي مدنية ، قال القرطبي : في قول الجميع ، وعن ابن عباس قال : نزلت بالمدينة .

بسم الله الرحمن الرحيم

{ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } .

{ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، بلفظ الجمع تعظيما له ، أو خطاب له ولأمته ، والتقدير : يا أيها النبي وأمته ، فحذف المعطوف لدلالة ما بعده عليه ، أو خطاب لأمته فقط بعد ندائه عليه الصلاة والسلام ، وهو من تلوين الخطاب خاطب به أمته بعد أن خاطبه ، أو أنه على إضمار قول أي يا أيها النبي قل لأمتك ، أو خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب ، لأن النبي إمام أمته وقدوتهم ، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت اعتبارا لتقدمه وإظهارا لترؤسه بكلام حسن قاله الزمخشري ، قال السمين : وهذا هو معنى القول الثالث الذي تقدم .

وقال المحلي . المراد أمته بقرينة ما بعده ، قال الحفناوي : فكأنه قيل : يا أيها الأمة إذا طلقتم الخ . وهذا الأسلوب سلكه الكازروني ، وفي نسخة من تفسير المحلي المراد وأمته بزيادة الواو ، يعني أن في الكلام اكتفاء على حد قوله تعالى : { سرابيل تقيكم الحر } ، فعلى هذا لفظ النبي لا تجوز فيه ، بل هو منادى مع أمته ، وهذا الوجه قرره السمين كما تقدم ، والمعنى إذا أردتم تطليقهن وعزمتهم عليه على تنزيل المقبل على الأمر المشارف له منزلة الشارع فيه ، وإنما احتيج لهذا التجوز ليصح قوله : { فطلقوهن لعدتهن } لأن الشيء لا يترتب على نفسه ، ولا يؤمر أحد بتحصيل الحاصل ، والمراد بالنساء ، المدخول بهن ذوات الأقراء ، أما غير المدخول بهن فلا عدة عليهن بالكلية ، وأما ذوات الأشهر فسيأتين في قوله { واللائي يئسن } الخ .

ومعنى لعدتهن مستقبلات لعدتهن ، أو في قبل عدتهن ، أو لقبل عدتهن ، أو لزمان عدتهن ، وهو الطهر . وقال الجرجاني : اللام بمعنى في أي في عدتهن ، وقال أبو حيان : أي لاستقبال عدتهن على حذف مضاف ، واللام للتوقيت نحو لقيته لليلة بقيت من شهر كذا ، والمراد أن يطلقوهن في طهر لم يقع فيه جماع ، ثم يتركن حتى تنقضي عدتهن ، فإذا طلقتموهن هكذا فقد طلقتموهن لعدتهن ، وسيأتي بيان هذا من السنة .

" عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في قبل عدتهن " رواه عبد الرزاق في المصنف وابن المنذر والحاكم وابن مردويه ، وقرأ ابن عمر لقبل عدتهن ، وعن مجاهد أنه قرأ كذلك وعن ابن عباس مثله ، وقال في الآية : أي طاهرا من غير جماع ، وعن ابن مسعود من أراد أن يطلق للسنة كما أمره الله فليطلقها طاهرا في غير جماع .

" وعن أنس قال : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة فأتت أهلها فأنزل الله هذه الآية فقيل له : راجعها فإنها صوامة قوامة ، وهي من أزواجك في الجنة " أخرجه ابن أبي حاتم وأخرجه ابن جرير عن قتادة مرسلا .

" وعن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ ، ثم قال : ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض وتطهر ، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء وقرا النبي صلى الله عليه وسلم { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن } في قبل عدتهن أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما .

" وروي عن ابن عباس أنها نزلت في قصة طلاق عبد يزيد وقد أخرجها ابن أبي حاتم أثرا طويلا قال الذهبي : إسناده واه والخبر خطأ فإن عبد يزيد لم يدرك الإسلام وفي الباب أحاديث .

{ وأحصوا العدة } أي احفظوها واحفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق ، حتى تتم العدة ، وهي ثلاثة قروء مستقبلات كوامل لا نقصان فيهن ، والخطاب للأزواج لغفلة النساء ، وقيل : للزوجات ، وقيل : للمسلمين على العموم ، والأول أولى لأن الضمائر كلها لهم ، ولكن الزوجات داخلات في هذا الخطاب بالإلحاق بالأزواج ، لأن الزوج يحصي ليراجع وينفق أو يقطع ويسكن أو يخرج ويلحق نسبه أو يقطع . وهذه كلها أمور مشتركة بينه وبين المرأة ، وقيل : أمر بإحصاء العدة لتفريق الطلاق على الإقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثا . وقيل : للعلم ببقاء زمان الرجعة ومراعاة أمر النفقة والسكنى .

{ واتقوا الله ربكم } في تطويل العدة عليهن والإضرار بهن وفي وصفه تعالى بربوبيته لهم تأكيد للأمر ، ومبالغة في إيجاب الاتقاء { لا تخرجوهن من بيوتهن } أي التي كن فيها عند الطلاق ما دمن في العدة وأضاف البيوت إليهن وهي لأزواجهن لتأكيد النهي وبيان كمال استحقاقهن للسكنى في مدة العدة ومثله قوله : { واذكرن ما يتلى في بيوتكن } وقوله : { وقرن في بيوتكن } ثم لما نهى الأزواج عن إخراجهن من البيوت التي وقع الطلاق وهن فيها نهى الزوجات عن الخروج أيضا فقال :

{ ولا يخرجن } من تلك البيوت ما دمن في العدة إلا لأمر ضروري كما سيأتي بيان ذلك ، قال أبو السعود : ولو بإذن من الأزواج فإن الإذن بالخروج في حكم الإخراج ، وقال الخطيب : لأن في العدة حقا لله تعالى ، فلا يسقط بتراضيهما ، وقيل : المراد لا يخرجن من أنفسهن إلا إذا أذن لهن الأزواج فلا بأس ، والأول أولى ، وهذا كله عند عدم العذر ، أما إذا كان لعذر كشراء من ليس لها على المفارق نفقة فيجوز لها الخروج نهارا ، قاله الخطيب ، وإذا خرجت من غير عذر فإنها تعصي ولا تنتقض عدتها قاله القرطبي .

{ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } بفتح الياء وكسرها سبعيتان ، وهذا الاستثناء هو من الجملة الأولى ، قال الواحدي : أكثر المفسرين على أن المراد بالفاحشة هنا الزنا ، وبه قال ابن عباس ، وذلك أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها ، ثم ترد إلى منزلها ، وقال الشافعي وغيره : هي البذاء في اللسان والاستطالة بها على من هو ساكن معها في ذلك البيت ، وعن ابن عباس : الفاحشة المبينة أن تبذو المرأة على أهل الرجل ، فإذا بذت عليهم بلسانها فقد حل لهم إخراجها لسوء خلقها ، ويؤيد هذا ما قال عكرمة : إن في مصحف أبيّ إلا أن يفحشن عليكم ، وقيل : الاستثناء من الجملة الثانية للمبالغة في النهي عن الخروج ببيان أن خروجها فاحشة قال الشوكاني رحمه الله : هو بعهد ، قال ابن عمر : خروجها قبل انقضاء العدة من بيتها هي الفاحشة المبينة ، وقيل : الفاحشة النشوز .

{ وتلك } أي ما ذكر من الأحكام وما في اسم الإشارة من معنى البعد مع قرب العهد المشار إليه للإيذان بعلو درجتها وبعد منزلتها { حدود الله } يعني أن هذه الأحكام التي بينها لعباده هي حدوده التي حدها لهم لا يحل لهم أن يتجاوزها إلى غيرها ، { ومن يتعد حدود الله } أي يتجاوزها على غيرها أو يخل بشيء منها .

{ فقد ظلم نفسه } بإيرادها موارد الهلاك وأوقعها في مواقع الضرر بعقوبة الله على مجاوزته لحدوده وتعديه لرسمه ، وقال البيضاوي : أي بأن عرضها للعقاب ، وقال أبو السعود : تفسير الظلم بتعريضها للعقاب يأباه قوله : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } فإنه استئناف مسوق لتعليل مضمون الشرطية ، وقد قالوا : إن الأمر الذي يحدثه الله تعالى أن يقلب قلبه عما فعله بالتعدي إلى خلافه ، فلا بد أن يكون الظلم عبارة عن ضرر دنيوي يلحقه بسبب تعديه ، ولا يمكن تداركه ، أو عن مطلق الضرر الشامل للدنيوي والأخروي ، ويخص التعليل بالدنيوي لكون احتراز الناس منه أشد ، واهتمامهم بدفعه أقوى والخطاب للمتعدي بطريق الالتفات لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدي لا للنبي عليه الصلاة والسلام كما توهم ، فالمعنى ومن يتعد حدود الله فقد أضر نفسه ، فإنك لا تدري أيها المتعدي عاقبة الأمر لعل الله يحدث في قلبك بعد ذلك الذي فعلت من التعدي أمرا يقتضي خلاف ما فعلته ، فيبدل ببغضها محبة وبالإعراض عنها إقبالا إليها ويتسنى تلافيه رجعة واستئناف نكاح .

قال القرطبي : قال جميع المفسرين : أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة ، والمعنى التحريض على طلاق الواحدة أو الاثنين ، والنهي عن الثلاث ، فإنه إذا طلق ثلاثا أضر بنفسه عند الندم على الفراق ، والرغبة في الارتجاع . فلا يجد إلى المراجعة سبيلا ، وقال مقاتل : بعد ذلك أي بعد طلقة أو طلقتين أمرا بالمراجعة ، قال الواحدي : الأمر الذي يحدث أن يوقع في قلب الرجل المحبة لرجعتها بعد الطلقة والطلقتين . قال الزجاج : إذا طلقها ثلاثا في وقت واحد فلا معنى لقوله : { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } قالت فاطمة بنت قيس في الآية هي الرجعة .

" عن محارب بن دثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق " أخرجه أبو داود مرسلا .

" وروى الثعلبي من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق " .

" وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ؛ تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز منه العرش " .

" وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله عز وجل لا يحب الذواقين ولا الذواقات " .

" عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق " أ ه .

أقول أما حديث ابن عمر فقد رواه أبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن عمر بن الخطاب موصولا وصححه الحاكم وغيره ، ورواه أبو داود أيضا والبيهقي مرسلا عن محارب بن دثار وليس فيه ابن عمر ، ورجح أبو حاتم والدارقطني والبيهقي إرساله . وقال الخطابي : إنه المشهور ، ورواه الدارقطني عن معاذ بلفظ : ما خلق الله شيئا أبغض إليه من الطلاق ، قال الحافظ ابن حجر : وإسناده ضعيف ومنقطع أ ه ، وأما حديث عليّ فرواه ابن عدي في كتابه الكامل في معرفة الضعفاء عنه رضي الله عنه بإسناده ضعيف . بل قيل : موضوع ورواه الخطيب عن علي أيضا مرفوعا ، وفي إسناده عمر بن جميع يروي الموضوعات عن الأثبات .

وأما حديث أبي موسى فقد رواه الطبراني عنه رضي الله عنه مرفوعا ، وكذا الدارقطني في الأفراد ، ورواه الطبراني في الكبير أيضا عن عبادة بلفظ إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات ، وفي سنده راو لم يسم ، وبقية رجال إسناده ثابت ، وأما حديث أنس فرواه ابن عساكر في تاريخه عن أنس رضي الله عنه وسنده ضعيف جدا .

" وعن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس به حرام عليها رائحة الجنة " أخرجه أبو داود والترمذي .