فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَكَم مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا فَجَآءَهَا بَأۡسُنَا بَيَٰتًا أَوۡ هُمۡ قَآئِلُونَ} (4)

ثم شرع الله في إنذارهم بما حصل للأمم الماضية بسبب إعراضهم عن الحق فقال { وكم من قرية } كم هي الخبرية المفيدة للتكثير ، ولم يرد في القرآن إلا هكذا ويجب لها الصدر لكونها على صورة الاستفهامية ، والقرية موضع اجتماع الناس أي كم من قرية من القرى الكثيرة { أهلكناها } نفسها بإهلاك أهلها أو أهلكنا أهلها والمراد أردنا إهلاكها .

وقوله { فجاءها بأسنا } معطوف على أهلكنا بتقدير الإرادة كما مر ، لأن ترتيب مجيء البأس على الإهلاك لا يصح إلا بهذا التقدير إذ الإهلاك هو نفس مجيء البأس ، وقال الفراء : إن الفاء بمعنى الواو فلا يلزم التقدير ، والمعنى أهلكناها وجاءها بأسنا ، والواو لطلق الجمع لا ترتيب فيها .

وقيل : إن الإهلاك واقع لبعض أهل القرية فيكون المعنى وكم من قرية أهلكنا بعض أهلها فجاءها بأسنا فأهلكنا الجميع ، وقيل المعنى وكم من قرية حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا ، قيل أهلكناها بإرسال ملائكة العذاب إليها فجاءها بأسنا ، والبأس العذاب ، وحكى عن الفراء أنه إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت فيكون المعنى وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها مثل دنا فقرب وقرب فدنا .

{ بياتا } أي ليلا لأن البينات فيه أو مصدر واقع موقع الحال ، يقال بات يبيت بيتا وبياتا أي بائتين .

{ أو هم قائلون } أي قائلين ، و { أو } في هذا الموضع للتفصيل لا للشك كأنه قيل أتاهم بأسنا تارة ليلا كقوم لوط ، وتارة وقت القيلولة كقوم شعيب ، وهل يحتاج إلى تقدير واو حال قبل هذه الجملة أم لا ؟ خلاف بين النحويين فقدره بعضهم . ورجحه الزجاج وبه قال أبو بكر والقيلولة هي نوم نصف النهار .

وقيل هي مجرد الاستراحة في ذلك الوقت لشدة الحر من دون نوم ، وخص الوقتين لأنهما وقت السكون والدعة فمجيء العذاب فيهما أشد وأفظع وأزجر وأردع عن الاغترار بأسباب الأمن والراحة . والمعنى جاءها عذابنا غفلة وهم غير متوقعين له ليلا وهم نائمون أو نهارا وهم قائلون وقت الظهيرة أي جاءهم البأس على غير تقدم أمارة لهم على وقت نزوله ، وفيه وعيد وتخويف للكفار كأنه قيل لهم لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة فإن عذاب الله إذا نزل نزل دفعة واحدة .