فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{لَا تَقُمۡ فِيهِ أَبَدٗاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِۚ فِيهِ رِجَالٞ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ} (108)

ثم ذكر الله سبحانه علة النهي عن القيام بقوله { لمسجد أسس على التقوى } اللام في لمسجد لام القسم ، وقيل لام الابتداء وفي ذلك تأكيد لمضمون الجملة ، وعلى قيل أنها بمعنى مع والأبلغ إبقاؤها على ظاهرها ، وجعل التقوى أساسا له وتأسيس البناء تثبيته ورفعه ، ومعنى تأسسه على التقوى تأسيسه على الخصال التي لا تبقى بها العقوبة .

واختلف العلماء في هذا المسجد فقالت طائفة هو مسجد قباء كما روي عن ابن عباس والضحاك والحسن والشعبي وغيرهم ورجحه البيضاوي لظاهر قوله تعالى ، { من أول يوم } إذ لا يراد أول الأيام مطلقا بل أول أيام الهجرة ودخول المدينة المنورة لأنه بني قبل مسجد المدينة ولقوله { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } ولأنه أوفق بالمقام لأنه بقباء كمسجد الضرار .

وذهب آخرون إلى أنه مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن خزيمة وابن حبان وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال : اختلف رجلان ، رجل من بني خدرة ، وفي لفظ تماريت أنا ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال الخدري هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال العمري : هو مسجد قباء ، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألاه عن ذلك فقال : هو هذا المسجد ، لمسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : في ذلك خير كثير يعني : مسجد قباء .

وأخرج أحمد وغيره عن أبي بن كعب قال : سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى ، قال هو مسجدي هذا{[921]} ، وعن زيد بن ثابت مرفوعا مثله عند الطبراني وغيره وفي الباب أحاديث كثيرة .

وقد جمع الشريف السمهودي بين الأحاديث وقال : كل منهما مراد لأن كلا منهما أسس على التقوى من أول يوم تأسيسه .

والسر في إجابته صلى الله عليه وآله وسلم السؤال عن ذلك مما في الحديث دفع ما يوهمه السائل من اختصاص ذلك بمسجد قباء والتنويه بمزية هذا على ذلك وهو غريب هناك وقد سبق إليه السهيلي في الروض الانف .

ولا يخفاك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عين هذا المسجد الذي أسس على التقوى وجزم بأنه مسجده صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم من الأحاديث الصحيحة فلا يقاوم ذلك قول فرد من الصحابة ولا جماعة منهم ولا من غيرهم ، ولا يصلح لإيراده في مقابلة ما قد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

قال الكرخي : والتحقيق إن رواية نزولها في مسجد قباء لا تعارض تنصيصه صلى الله عليه وآله وسلم على أنه مسجد المدينة ، فإنها لا تدل على اختصاص أهل قباء بذلك . انتهى .

ولا فائدة في إيراد ما ورد في فضل الصلاة في مسجد قباء فإن ذلك لا يستلزم كونه المسجد الذي أسس على التقوى ، على أن ما ورد في فضائل مسجد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر مما ورد في فضل مسجد قباء بلا شك ولا شبهة .

و { من أول يوم } متعلق بأسس ، أي أسس على التقوى من أول يوم من أيام تأسيسه : قال بعض النحاة : أن من ههنا بمعنى منذ ، أي منذ أول يوم ابتدئ ببنائه ووضع أساسه .

قال السهيلي نور الله مرقده : في الآية من الفقه صحة ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين مع عمر رضي الله تعالى عنه حين شاورهم في التاريخ ، فاتفق رأيهم على أن يكون من عام الهجرة لأنه الوقت الذي عز فيه الإسلام ، والحين الذي أمن فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبنيت المساجد وعبد الله كما يحب ، فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل .

وفهمنا الآن بفعلهم أن قوله تعالى { من أول يوم } أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي يؤرخ به الآن ، فإن كان الصحابة رضوان الله عليهم أخذوه من هذه الآية فهو الظن بهم لأنهم أعلم الناس بتأويل كتاب الله وأفهمهم بما في القرآن من الإشارات .

وإن كان ذلك على رأي واجتهاد فقد علمه الله وأشار إلى صحته قبل أن يفعل إذ لا يعقل قول القائل فعلته أول يوم إلا بالإضافة إلى عام معلوم أو شهر معلوم أو تاريخ معلوم . وليس ههنا إضافة في المعنى إلا إلى هذا التاريخ المعلوم لعدم القرائن الدالة على غيره من قرينه لفظ أو حال ، فتدبره ففيه معتبر لمن ادّكر وعلم لمن رأى بعين فؤاد واستبصر .

{ أحق أن تقوم فيه } مصليا وأفعل التفضيل على غير بابه أو المفاضلة باعتبار زعمهم أو بالنظر له في ذاته ، فإن المحظور قصدهم ونيتهم ، والمعنى لو كان القيام في غيره جائزا لكان هذا أولى بقيامك فيه للصلاة ولذكر الله لكونه أسس على التقوى من أول يوم ولكونه { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } هذه الجملة ، مستأنفة لبيان أحقية قيامه صلى الله عليه وآله وسلم فيه أي كما أن هذا المسجد أولى من جهة المحل ، فهو أولى من جهة الحال فيه ، ومعنى محبتهم للتطهر أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه عند عروض موجبه ، يعني من الأحداث والجنايات وسائر النجاسات ؛ وهذا قول أكثر المفسرين ، وقيل معناه يحبون التطهر من الذنوب بالتوبة والاستغفار والأول أولى .

وقال الرازي : المراد بها الطهارة من الذنوب والمعاصي ، وعينه بوجوه ثلاثة وقيل يحبون أن يتطهرون بالحمى المطهرة للذنوب فحموا جميعا وهذا ضعيف جدا .

{ والله يحب المطهرين } معنى محبة الله لهم الرضا عنهم والإحسان إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه .

وأخرج ابن ماجة وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم عن أبي أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا معشر الأنصار أن الله قد أثنى عليكم خيرا في الطهور فما طهوركم هذا ؟ قالوا نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة ؛ قال فهل مع ذلك غيره ؟ قالوا لا ، غير أن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحب أن يستنجي بالماء ، قال هو ذاك فعليكموه{[922]} .

وفي حديث رواه البزاز قالوا نتبع الحجارة بالماء ؟ فقال هو ذاك فعليكموه ، وفي الباب روايات بألفاظ ، وقد روي عن جماعة من التابعين في ذكر سبب نزول الآية نحو هذا .

ولا يخفاك أن بعض هذه الأحاديث ليس فيه تعيين مسجد قباء وأهله وبعضها ضعيف وبعضها لا تصريح فيه بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء ؛ وعلى كل حال لا يقاوم تلك الأحاديث المصرحة بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صحتها وصراحتها .


[921]:- الإمام أحمد 3/8.
[922]:- المستدرك كتاب الطهارة 1/ 155.