فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ} (40)

قوله : { حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التنور } " حتى " هي الابتدائية دخلت على الجملة الشرطية ، وجعلت غاية لقوله : { واصنع الفلك بأعيننا } .

والتنور : اختلف في تفسيرها على أحوال : الأوّل : أنها وجه الأرض ، والعرب تسمي وجه الأرض تنوراً ، روي ذلك عن ابن عباس ، وعكرمة ، والزهري ، وابن عيينة . الثاني : أنه تنور الخبز الذي يخبزونه فيه ، وبه قال مجاهد وعطية والحسن ، وروي عن ابن عباس أيضاً . الثالث : أنه موضع اجتماع الماء في السفينة ، روي عن الحسن . الرابع : أنه طلوع الفجر ، من قولهم تنّور الفجر ، روي عن عليّ بن أبي طالب .

الخامس : أنه مسجد الكوفة ، روي عن عليّ أيضاً ومجاهد . قال مجاهد : كان ناحية التنّور بالكوفة . السادس : أنه أعالي الأرض ، والمواضع المرتفعة ، قاله قتادة . السابع : أنه العين التي بالجزيرة المسماة عين الوردة ، روي ذلك عن عكرمة . الثامن : أنه موضع بالهند . قال ابن عباس : كان تنور آدم بالهند . قال النحاس : وهذه الأقوال ليست بمتناقضة ، لأن الله سبحانه قد أخبر بأن الماء قد جاء من السماء والأرض ، قال : { فَفَتَحْنَا أبواب السماء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ . وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان علامة . هكذا قال ، وفيه نظر ، فإن القول الرابع ينافي هذا الجمع ، ولا يستقيم عليه التفسير بنبع الماء . إلا إذا كان المراد مجرد العلامة ، كما ذكره آخراً . وقد ذكر أهل اللغة أن الفور : الغليان ، والتنور : اسم عجمي عرّبته العرب . وقيل : معنى فار التنور : التمثيل بحضور العذاب كقولهم : حَمي الوطيس : إذا اشتدّ الحرب ، ومنه قول الشاعر :

تركتم قدركم لا شيء فيها *** وقِدرُ القوم حامية تفورُ

يريد : الحرب .

قوله : { قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين } أي : قلنا : يا نوح ، احمل في السفينة من كل زوجين مما في الأرض من الحيوانات اثنين ذكراً وأثنى . وقرأ حفص : { من كلّ } بتنوين كل : أي : من كل شيء زوجين ، والزوجان للاثنين اللذين لا يستغني أحدهما عن الآخر ، ويطلق على كل واحد منهما زوج ، كما يقال للرجال زوج ، وللمرأة زوج ، ويطلق الزوج على الاثنين إذا استعمل مقابلاً للفرد ، ويطلق الزوج على الضرب والصنف ، ومثله قوله تعالى : { وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } ، ومثله قول الأعشى :

وكل ضرب من الديباج يلبسه *** أبو حذافة مخبوّ بذاك معا

أراد كل صنف من الديباج { وَأَهْلَكَ } عطف على زوجين ، أو على اثنين على قراءة حفص ، وعلى محل كل زوجين ، فإنه في محلّ نصب باحمل ، أو على اثنين على قراءة الجمهور ، والمراد : امرأته وبنوه ونساؤهم { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } أي : من تقدّم الحكم عليه بأنه من المغرقين ، في قوله : { وَلاَ تخاطبني فِي الذين ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ } على الاختلاف السابق فيهم ، فمن جعلهم جميع الكفار من أهله وغيرهم كان هذا الاستثناء من جملة { احمل فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ } ومن قال : المراد بهم ولده كنعان وامرأته واعلة أمّ كنعان جعل الاستثناء من أهلك ، ويكون متصلاً إن أريد بالأهل ما هو أعمّ من المسلم والكافر منهم ، ومنقطعاً إن أريد بالأهل المسلمون منهم فقط ، قوله : { وَمَنْ آمَنَ } معطوف على أهلك : أي : واحمل في السفينة من آمن من قومك ، وأفرد الأهل منهم لمزيد العناية بهم ، أو للاستثناء منهم على القول الآخر . ثم وصف الله سبحانه قلة المؤمنين مع نوح بالنسبة إلى من كفر به ، فقال : { وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيل } قيل : هم ثمانون إنساناً : منهم ثلاثة من بنيه ، وهو سام ، وحام ، ويافث ، وزوجاتهم ، ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية يقال لها قرية الثمانين ، وهي موجودة بناحية الموصل .

وقيل : كانوا عشرة . وقيل : سبعة ، وقيل : كانوا اثنين وسبعين . وقيل : غير ذلك .

/خ44