فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَٰبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِيٓ أُوفِ بِعَهۡدِكُمۡ وَإِيَّـٰيَ فَٱرۡهَبُونِ} (40)

اعلم أن كثيراً من المفسرين جاءوا بعلم متكلف ، وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته ، واستغرقوا أوقاتهم في فنّ لا يعود عليهم بفائدة ، بل أوقعوا أنفسهم في التكلف بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه ، وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف ، فجاءوا بتكلفات وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف ، ويتنزه عنها كلام البلغاء فضلاً عن كلام الرب سبحانه ، حتى أفردوا ذلك بالتصنيف ، وجعلوه المقصد الأهمّ من التأليف ، كما فعله البقاعي في تفسيره ومن تقدّمه حسبما ذكر في خطبته ، وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرّقاً على حسب الحوادث المقتضية لنزوله منذ نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قبضه الله - عزّ وجل - إليه ، وكل عاقل فضلاً عن عالم لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية نزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها ، بل قد تكون متناقضة كتحريم أمرٍ كان حلالاً ، وتحليل أمر كان حراماً ، وإثبات أمر لشخص أو أشخاص يناقض ما كان قد ثبت لهم قبله ، وتارة يكون الكلام مع المسلمين ، وتارة مع الكافرين ، وتارة مع من مضى ، وتارة مع من حضر ، وحيناً في عبادة ، وحيناً في معاملة ، ووقتاً في ترغيب ، ووقتاً في ترهيب ، وآونة في بشارة ، وآونة في نذارة ، وطوراً في أمر دنيا ، وطوراً في أمر آخرة ، ومرة في تكاليف آتية ، ومرة في أقاصيص ماضية ، وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف ، ومتباينة هذا التباين الذي لا يتيسر معه الائتلاف ، فالقرآن النازل فيها هو باعتباره نفسه مختلف كاختلافها ، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب والنون والماء والنار والملاح والحادي ، وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض ، أو كان مرضه مجرد الجهل والقصور ، فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن ويفردون ذلك بالتصنيف ، تقرّر عنده أن هذا أمر لا بد منه ، وأنه لا يكون القرآن بليغاً معجزاً إلا إذا ظهر الوجه المقتضى للمناسبة ، وتبين الأمر الموجب للارتباط ، فإن وجد الاختلاف بين الآيات فرجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك ، فوجده تكلفاً محضاً ، وتعسفاً بيناً انقدح في قلبه ما كان عنه في عافية وسلامة ، هذا على فرض أن نزول القرآن كان مترتباً على هذا الترتيب الكائن في المصحف ؛ فكيف وكل من له أدنى علم بالكتاب ، وأيسر حظ من معرفته يعلم علماً يقيناً أنه لم يكن كذلك ، ومن شك في هذا ، وإن لم يكن مما يشك فيه أهل العلم رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول ، المطلعين على حوادث النبوّة ، فإنه ينثلج صدره ، ويزول عنه الريب ، بالنظر في سورة من السور المتوسطة ، فضلاً عن المطوّلة لأنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة ، وأوقات متباينة لا مطابقة بين أسبابها وما نزل فيها في الترتيب ، بل يكفي المقصر أن يعلم أن أوّل ما نزل : { اقرأ باسم رَبّكَ الذى خَلَقَ } [ العلق : 1 ] وبعده { يأَيُّهَا المدثر } [ المدثر : 1 ] { يأَيُّهَا المزمل } [ المزمل : 1 ] وينظر أين موضع هذه الآيات ، والسور في ترتيب المصحف ؟

وإذا كان الأمر هكذا ، فأيّ معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعاً أنه قد تقدّم في ترتيب المصحف ما أنزله الله متأخراً ، وتأخر ما أنزله الله متقدماً ، فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن ، بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدّى لذلك من الصحابة ، وما أقل نفع مثل هذا ، وأنزر ثمرته ، وأحقر فائدته ، بل هو عند من يفهم ما يقول وما يقال له من تضييع الأوقات وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله ولا على من يقف عليه من الناس ، وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه ورسائله وإنشاءاته ، أو إلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحاً وأخرى هجاء ، وحيناً نسيباً وحيناً رثاءً ، وغير ذلك من الأنواع المتخالفة ، فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع فناسب بين فقره ومقاطعه ، ثم تكلَّف تكلفاً آخر فناسب بين الخطبة التي خطبها في الجهاد والخطبة التي خطبها في الحج والخطبة التي خطبها في النكاح ونحو ذلك ، وناسب بين الإنشاء الكائن في العزاء والإنشاء الكائن في الهناء وما يشابه ذلك ، لعدّ هذا المتصدي لمثل هذا مصاباً في عقله ، متلاعباً بأوقاته ، عابثاً بعمره الذي هو رأس ماله .

وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة ، وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر ، فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب ، وأبكمت فصاحته فصحاء عدنان وقحطان . وقد علم كل مقصر وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنه عربيّ ، وأنزله بلغة العرب ، وسلك فيه مسالكهم في الكلام ، وجرى به مجاريهم في الخطاب . وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متخالفة ، وطرائق متباينة فضلاً عن المقامين ، فضلاً عن المقامات ، فضلاً عن جميع ما قاله ما دام حياً ، وكذلك شاعرهم . ولنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي تعثَّر في ساحتها كثير من المحققين .

وإنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن ؛ لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم عليه السلام ، فإذا قال متكلف : كيف ناسب هذا ما قبله ؟ قلنا : لا كيف :

فَدعْ عَنْكَ نَهباً صِيح في حُجَراته *** وَهات حَدِيثاً مَا حَدِيثُ الرواحِل

قوله : { يا بَنِى إسراءيل } اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ومعناه عبد الله ؛ لأن إسر في لغتهم هو : العبد ، " وإيل " هو : الله ، قيل : إن له اسمين . وقيل : إسرائيل لقب له ، وهو اسم عجمي غير منصرف . وفيه سبع لغات : إسرائيل بزنة إبراهيم ، وإسرائِيل بمدّة مهموزة مختلسة رواها ابن شنبوذ عن ورش ، وإسرائيل بمدّة بعد الياء من غير همز وهي قراءة الأعمش وعيسى بن عمر ، وقرأ الحسن من غير همز ولا مدّ وإسرائل بهمزة مكسورة . وإسراءَل بهمزة مفتوحة ، وتميم يقولون إسرائين . والذكر هو ضد الإنصات وجعله بعض أهل اللغة مشتركاً بين ذكر القلب واللسان . وقال الكسائي : ما كان بالقلب فهو مضموم الذال ، وما كان باللسان فهو مكسور الذال . قال ابن الأنباري : والمعنى في الآية : اذكروا شكر نعمتي ، فحذف الشكر اكتفاءً بذكر النعمة ، وهي اسم جنس ، ومن جملتها أنه جعل منهم أنبياء وأنزل عليهم الكتب والمنّ والسلوى ، وأخرج لهم الماء من الحجر ، ونجاهم من آل فرعون وغير ذلك .

والعهد قد تقدم تفسيره . واختلف أهل العلم في العهد المذكور في هذه الآية ما هو ؟ فقيل : هو المذكور في قوله تعالى : { خُذُوا مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ } [ البقرة : 63 ] وقيل هو : ما في قوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسراءيل وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيباً } [ المائدة : 12 ] وقيل : هو قوله : { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُوا الكتاب } [ آل عمران : 187 ] . وقال الزجاج : هو ما أخذ عليهم في التوراة من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : هو أداء الفرائض ، ولا مانع من حمله على جميع ذلك . ومعنى قوله : { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } أي : بما ضمنت لكم من الجزاء ، والرهب والرهبة : الخوف ، ويتضمن الأمر به معنى التهديد ، وتقديم معمول الفعل يفيد الاختصاص كما تقدّم في { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } [ الفاتحة : 5 ] وإذا كان التقديم على طريقة الإضمار والتفسير مثل زيداً ضربته { وإياى فارهبون } كان أوكد في إفادة الاختصاص ، ولهذا قال صاحب الكشاف : وهو أوكد في إفادة الاختصاص من { إياك نعبد } [ الفاتحة : 5 ] وسقطت الياء من قوله : { فارهبون } لأنها رأس آية .

/خ42