فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

الإشارة بقوله { ذلك } إلى الكتاب المذكور بعده . قال ابن جرير : قال ابن عباس : { ذلك الكتاب } هذا الكتاب وبه قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي ومقاتل وزيد بن أسلم وابن جريج ، وحكاه البخاري عن أبي عبيدة . والعرب قد تستعمل الإشارة إلى البعيد الغائب مكان الإشارة إلى القريب الحاضر كما قال خفاف :

أقول له والرمحُ يأطر مَتنهُ *** تأمل خِفافاً أنني أنا ذلِكا

أي : أنا هذا ، ومنه قوله تعالى : { ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة العزيز الرحيم } [ السجدة : 6 ] { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ } [ الأنعام : 83 ] { تِلْكَ آيات الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } [ البقرة : 252 ، وآل عمران : 108 ، والجاثية : 6 ] { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } [ الممتحنة : 10 ] وقيل : إن الإشارة إلى غائب ، واختلف في ذلك الغائب ، فقيل : هو : الكتاب الذي كتب على الخلائق بالسعادة والشقاوة ، والأجل والرزق { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي لا مبدل له ، وقيل ذلك الكتاب الذي كتبه الله على نفسه في الأزل ؛ أن رحمته سبقت غضبه ، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه ، فهو موضوع عنده : إن رحمتي تغلب غضبي " وفي رواية «سبقت » . وقيل الإشارة إلى ما قد نزل بمكة ، وقيل إلى ما في التوراة والإنجيل ، وقيل إشارة إلى قوله قبله { آلم } ، ورجحه الزمخشري ، وقد وقع الاختلاف في ذلك إلى تمام عشرة أقوال حسبما حكاه القرطبي وأرجحها ما صدَّرناه ، واسم الإشارة مبتدأ ، و { الكتاب } صفته ، والخبر { لا ريب فيه } ، ومن جوّز الابتداء ب { آلم } جعل { ذلك } مبتدأ ثانياً ، وخبره { الكتاب } أو هو صفته ، والخبر { لا ريب فيه } ، والجملة خبر المبتدأ . ويجوز أن يكون المبتدأ مقدّراً ، وخبره { آلم } ، وما بعده . والريب مصدر ، وهو قلق النفس واضطرابها ، وقيل إن الريب : الشك . قال ابن أبي حاتم : لا أعلم في هذا خلافاً . وقد يستعمل الريب في التهمة والحاجة ، حكى ذلك القرطبي . ومعنى هذا النفي العام ، أن الكتاب ليس بمظنة للريب ؛ لوضوح دلالته وضوحاً يقوم مقام البرهان المقتضى لكونه لا ينبغي الارتياب فيه بوجه من الوجوه ، والوقف على { فيه } هو المشهور . وقد روي عن نافع وعاصم الوقف على { لاَ رَيْبَ } ، قال في الكشاف : ولا بدّ للواقف من أن ينوي خبراً ، ونظيره قوله تعالى : { قَالُوا لاَ ضَيْرَ } [ الشعراء : 50 ] وقول العرب : لا بأس ، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز ، والتقدير : لا ريب فيه فيه هدى .

والهدى مصدر . قال الزمخشري : وهو : الدلالة الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلال في مقابلته انتهى . ومحله الرفع على الابتداء وخبره الظرف المذكور قبله على ما سبق . قال القرطبي : الهدى هديان : هدى دلالة وهو الذي يقدر عليه الرسل وأتباعهم ، قال الله تعالى : { وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] وقال : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إلى صراط مسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه ، وتفرد سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب ، ومنه قوله تعالى : { أولئك على هُدًى من رَّبّهِمْ } [ البقرة : 5 ] وقوله : { ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء } [ القصص : 56 ] انتهى .

والمتقين من ثبتت لهم التقوى . قال ابن فارس : وأصلها في اللغة قلة الكلام . وقال في الكشاف : المتقي في اللغة : اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى ، والوقاية : الصيانة ، ومنه : فرس واقٍ ، وهذه الدابة تقي من وجارها : إذا أصابها ضلع من غلظ الأرض ورقة الحافر ، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه . وهو في الشريعة : الذي يقي نفسه تعاطى ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك . انتهى .

وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن مسعود ؛ أن { الكتاب } : القرآن ، { لا ريب فيه } : لا شك فيه . وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لا ريب فيه } قال : لا شك فيه . وأخرج أحمد في الزهد ، وابن أبي حاتم ، عن أبي الدرداء قال : الريب : الشك . وأخرج عبد ابن حميد عن قتادة مثله ، وكذا ابن جرير عن مجاهد . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله : { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } قال : نور للمتقين ، وهم المؤمنون . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } أي : الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ويرجون رحمته في التصديق مما جاء منه ، وأخرج ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل أنه قيل له : من المتقون ؟ فقال : قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة . وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة : أن رجلاً قال له : ما التقوى ؟ قال : هل وجدت طريقاً ذا شوك ؟ قال نعم ، قال : فكيف صنعت ؟ قال : إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه ، قال : ذاك التقوى . وأخرج أحمد في الزهد عن أبي الدرداء قال : تمام التقوى أن يتقي الله العبدُ حتى يتقيه من مثقال ذرة حين يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً يكون حجاباً بينه وبين الحرام . وقد روى نحو ما قاله أبو الدرداء عن جماعة من التابعين . وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن عطية السعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به البأس » فالمصير إلى ما أفاده هذا الحديث واجب ويكون هذا معنى شرعياً للمتقي أخصّ من المعنى الذي قدمنا عن صاحب الكشاف زاعماً أنه المعنى الشرعي .