فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{الٓمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة البقرة

قال القرطبي في تفسير سورة البقرة : مدنية نزلت في مدد شتى . وقيل هي أول سورة نزلت بالمدينة إلا قوله تعالى : " واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله " فإنها آخر آية نزلت من السماء ، ونزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى ، وآيات الربا أيضاً من أواخر ما نزل من القرآن انتهى . وأخرج أبو الضريس في فضائله وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ وابن مردويه والبيهقي في دلائل النبوة من طرق عن ابن عباس قال : نزلت بالمدينة سورة البقرة . وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله . وأخرج أبو داود في الناسخ والمنسوخ عن عكرمة قال : أول سورة أنزلت بالمدينة سورة البقرة .

وقد ورد في فضلها أحاديث منها ما أخرجه مسلم والترمذي وأحمد والبخاري في تاريخه ومحمد بن نصر عن النواس بن سمعان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يؤتى بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمهم سورة البقرة وآل عمران " قال : وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال : " كأنهما غمامتان أو كأنهما غيابتان أو كأنهما ظلتان سوداوان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما " . وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والدارمي ومحمد بن نصر والحاكم وصححه عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تعلموا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة ، ثم سكت ساعة ثم قال : تعلموا سورة البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان تظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف " . قال ابن كثير وإسناده حسن على شرط مسلم . وأخرج نحوه أبو عبيد وأحمد وحميد بن زنجويه ومسلم وابن حبان والطبراني والحاكم والبيهقي من حديث أبي أمامة مرفوعاً . وأخرج نحوه أيضاً الطبراني وأبو ذر الهروي بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعاً . وأخرج نحوه أيضاً البزار في سننه بسند صحيح عن أبي هريرة مرفوعاً . وأخرج مسلم والترمذي وأحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تجعلوا بيوتكم مقابر ، إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة " . وأخرج أبو عبيد عن أنس نحوه مرفوعاً . وأخرج ابن عدي في الكامل وابن عساكر في تاريخه عن أبي الدرداء مرفوعاً نحوه . وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن عبد الله بن مغفل مرفوعاً نحوه . وأخرج النسائي والطبراني والبيهقي عن ابن مسعود مرفوعاً نحوه . وسنده ضعيف . وأخرجه الدارمي والبيهقي والحاكم وصححه من حديثه بنحوه . وأخرج أبو يعلى وابن حبان والطبراني والبيهقي عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لكل شيء سناماً ، وسنام القرآن سورة البقرة ، من قرأها في بيته نهاراً لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام ، ومن قرأها في بيته ليلاً لم يدخله الشيطان ثلاث ليال " . وأخرج أحمد ومحمد بن نصر والطبراني بسند صحيح عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " البقرة سنام القرآن وذروته ، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً واستخرجت { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } من تحت العرش فوصلت بها " . وأخرج البغوي في معجم الصحابة وابن عساكر في تاريخه عن ربيعة الجرسي قال " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي القرآن أفضل ؟ قال : السورة التي يذكر فيها البقرة ، قيل فأي البقرة أفضل ؟ قال : آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة نزلت من تحت العرش " . وأخرج أبو عبيد وأحمد والبخاري في صحيحه تعليقاً ومسلم والنسائي عن أسيد بن حضير قال " بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكنت ، ثم قرأ فجالت الفرس فسكت فسكنت ، ثم قرأ فجالت الفرس فسكت فسكنت فانصرف إلى ابنه يحيى وكان قريباً منها فأشفق أن تصيبه ، فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء فإذا هو بمثل الظلة فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى ما يراها ، فلما أصبح حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتدري ما ذاك ؟ قال لا يا رسول الله ، قال : تلك الملائكة دنت لصوتك ، ولو قرأت لأصبحت تنظر إليها الناس لا تتوارى منهم " ولهذا الحديث ألفاظ . وأخرج الترمذي وحسنه النسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً فاستقرأ كل رجل منهم " يعني ما معه من القرآن " فأتى على رجل من أحدثهم سناً فقال : ما معك يا فلان ؟ قال : معي كذا وكذا وسورة البقرة ، قال : أمعك سورة البقرة ؟ قال : نعم ، قال : اذهب فأنت أميرهم " . وأخرج البيهقي في الدلائل عن عثمان بن أبي العاص ، قال : استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصغر القوم الذين وفدوا عليه من ثقيف ، وذلك أني كنت قرأت سورة البقرة . وأخرج البيهقي في الشعب بسند صحيح عن الصلصال بن الديهمس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اقرأوا سورة البقرة في بيوتكم ولا تجعلوها قبوراً " قال : " ومن قرأ سورة البقرة في ليلة توج بتاج في الجنة " . وأخرج أبو عبيد عن عباد بن عباد عن جرير بن حازم عن عمه جرير بن يزيد أن أشياخ أهل المدينة حدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له : ألم تر إلى ثابت بن قيس بن شماس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح ، قال : فلعله قرا سورة البقرة ، قال : فسئل ثابت فقال : قرأت سورة البقرة . قال ابن كثير وهذا إسناد جيد ، إلا أن فيه إبهاماً ثم هو مرسل .

وقد روى أئمة الحديث في فضائلها أحاديث كثيرة وآثاراً عن الصحابة واسعة ، ومن فضائلها ما هو خاص بآية الكرسي ، وما هو خاص بخواتم هذه السورة ، وقد سبق بعض ذلك ، وما هو في فضلها وفضل آل عمران ، وقد سبق أيضاً بعض من ذلك وما هو في فضل السبع الطوال ، كما أخرج أبو عبيد عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أعطيت السبع مكان التوراة ، وأعطيت المئين مكان الإنجيل ، وأعطيت المثاني مكان الزبور ، وفضلت بالمفصل " وفي إسناده سعيد بن بشير وفيه لين ، وقد رواه بسند آخر عن سعيد بن أبي هلال . وأخرج أيضاً عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أخذ السبع فهو خير " وقد رواه عنها أحمد في المسند باللفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أخذ السبع الأول من القرآن فهو خير " . وأخرج أبو عبيد عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } قال : هي السبع الطوال البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس ، وبذلك قال مجاهد ومكحول وعطية بن قيس وأبو محمد القاري شداد بن عبد الله ويحيى بن الحارث الذماري .

وقد ورد ما يدل على كراهة أن يقول القائل سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء وكذا القرآن كله . فأخرج ابن الضريس والطبراني في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في الشعب بسند ضعيف عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء وكذا القرآن كله ، ولكن قولوا السورة التي تذكر فيها البقرة ، والسورة التي يذكر فيها آل عمران ، وكذا القرآن كله " قال ابن كثير : هذا حديث غريب لا يصح رفعه ، وفي إسناده يحيى بن ميمون الخواص وهو ضعيف الرواية لا يحتج به . وأخرج البيهقي في الشعب بسند صحيح عن ابن عمر قال : " لا تقولوا سورة البقرة ، ولكن قولوا السورة التي تذكر فيها البقرة " . وقد روي عن جماعة من الصحابة خلاف هذا . فثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنه رمى الجمرة من بطن الوادي ، فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ثم قال : هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة . وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وأهل السنن والحاكم وصححه عن حذيفة قال : " صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من رمضان فافتتح البقرة ، فقلت : يصلي بها في ركعة ، ثم افتتح النساء فقرأها ، ثم افتتح آل عمران فقرأها مترسلاً " الحديث : وأخرج أحمد وابن الضريس والبيهقي عن عائشة قالت : " كنت أقوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل فيقرأ بالبقرة وآل عمران والنساء " . وأخرج أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي والبيهقي عن عوف بن مالك الأشجعي قال : " قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ، فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف " الحديث .

{ الم } قال القرطبي في تفسيره : اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السور ، فقال الشعبي ، وسفيان الثوري ، وجماعة من المحدثين : هي : سرّ الله في القرآن ، ولله في كل كتاب من كتبه سرّ ، فهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه ، ولا نحبّ أن نتكلم فيها ، ولكن نؤمن بها ، وتُمَرُّ كما جاءت ، وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق ، وعليّ ابن أبي طالب ، قال : وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، أنهم قالوا : الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر ، وقال أبو حاتم : لم نجد الحروف في القرآن إلا في أوائل السور ، ولا ندري ما أراد الله عزّ وجل .

وقال : جمع من العلماء كثير : بل نحبّ أن نتكلم فيها ، ونلتمس الفوائد التي تحتها ، والمعاني التي تتخرج عليها . واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة ، فروي عن ابن عباس ، وعليّ أيضاً أن الحروف المقطعة في القرآن اسم الله الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها . وقال قُطْرُب ، والفراء ، وغيرهما : هي : إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحدّاهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي : التي بناء كلامهم عليها ؛ ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم . قال قطرب : كانوا ينفرون عند استماع القرآن ، فلما نزل { الما ، } و { المص } [ الأعراف : 1 ] استنكروا هذا اللفظ ، فلما أنصتوا له صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ؛ ليثبته في أسماعهم ، وآذانهم ، ويقيم الحجة عليهم . وقال قوم : روي أن المشركين لما أعرضوا عن القرآن بمكة قالوا { وَقَالُوا لاَ تَسْمَعُوا لهذا القرءان والغوا فِيهِ } [ فصلت : 26 ] فأنزلها استغربوها فيفتحون أسماعهم ، فيسمعون القرآن بعدها ، فتجب عليهم الحجة . وقال جماعة : هي حروف دالة على أسماء أخذت منها ، وحذفت بقيتها ، كقول ابن عباس ، وغيره الألف من الله ، واللام من جبريل ، والميم من محمد . وذهب إلى هذا الزجاج ، فقال : أذهب إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معنى . وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة كقوله : فقلت لها قفى ، فقالت قاف : أي وقفت . وفي الحديث : «من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة » قال شقيق : هو أن يقول في اقتل : اق ، كما قال صلى الله عليه وسلم «كفى بالسيف شا » أي شافياً ، وفي نسخة شاهداً . وقال زيد بن أسلم : هي أسماء للسور . وقال الكلبي : هي أقسام أقسم الله بها لشرفها وفضلها وهي من أسمائه .

ومن أدقّ ما أبرزه المتكلمون في معاني هذه الحروف ما ذكره الزمخشري في الكشاف ، فإنه قال : وأعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عزّ سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر سواء : وهي الألف ، واللام ، والميم ، والصاد ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والياء ، والعين ، والطاء ، والسين ، والحاء ، والقاف ، والنون في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم ، ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر ، وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف . بيان ذلك أن فيها من المهموسة نصفها : الصاد ، والكاف ، والهاء ، والسين ، والحاء ، ومن المجهورة نصفها الألف ، واللام ، والميم ، والراء ، والعين ، والطاء ، والقاف ، والياء ، والنون ، ومن الشديدة نصفها : الألف ، والكاف ، والطاء ، والقاف ، ومن الرخوة نصفها : اللام ، والميم ، والراء ، والصاد ، والهاء ، والعين ، والسين ، والحاء ، والياء ، والنون ، ومن المطبقة نصفها : الصاد ، والطاء ، ومن المنفتحة نصفها : الألف ، واللام ، والميم ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والعين ، والسين ، والحاء ، والقاف ، والياء ، والنون ، ومن المستعلية نصفها : القاف ، والصاد ، والطاء ، ومن المنخفضة نصفها : الألف واللام والميم ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والتاء ، والعين ، والسين ، والحاء ، والنون ، ومن حروف القلقة نصفها : القاف ، والطاء ، ثم إذا استقريت الكلم ، وتراكيبها رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكنوزة بالمذكورة منها ، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته ، وقد علمت أن معظم الشيء وجُلَّه ينزل منزلة كله ، وهو المطابق للطائف التنزيل ، واختصاراته ، فكأن الله عزّ اسمه عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم ، وإلزام الحجة إياهم ، وما يدل على أنه تعمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها ، وقوعاً في تراكيب الكلم ، أن الألف ، واللام لما تكاثر ، وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكررتين ، وهي فواتح سورة البقرة ، وآل عمران ، والروم ، والعنكبوت ، ولقمان ، والسجدة ، والأعراف ، والرعد ، ويونس ، وإبراهيم ، وهود ، ويوسف ، والحجر . انتهى .

وأقول : هذا التدقيق لا يأتي بفائدة يعتدّ بها ، وبيانه أنه إذا كان المراد منه إلزام الحجة ، والتبكيت كما قال ، فهذا متيسر بأن يقال لهم : هذا القرآن هو من الحروف التي تتكلمون بها ليس هو من حروف مغايرة لها ، فيكون هذا تبكيتاً ، وإلزاماً يفهمه كل سامع منهم من دون إلغاز ، وتعمية ، وتفريق لهذه الحروف ، في فواتح تسع وعشرين سورة ، فإن هذا مع ما فيه من التطويل الذي لا يستوفيه سامعه إلا بسماع جميع هذه الفواتح ، هو أيضاً مما لا يفهمه أحد من السامعين ، ولا يتعقل شيئاً منه فضلاً عن أن يكون تبكيتاً له وإلزاماً للحجة أياً كان ، فإن ذلك هو أمر وراء الفهم مترتب عليه ، ولم يفهم السامع هذا ، ولا ذكر أهل العلم عن فرد من أفراد الجاهلية الذين وقع التحدي لهم بالقرآن ، أنه بلغ فهمه إلى بعض هذا فضلاً عن كله . ثم كون هذه الحروف مشتملة على النصف من جميع الحروف التي تركبت لغة العرب منها ، وذلك النصف مشتمل على أنصاف تلك الأنواع من الحروف المتصفة بتلك الأوصاف هو أمر لا يتعلق به فائدة لجاهلي ، ولا إسلامي ، ولا مقرّ ، ولا منكر ، ولا مسلم ، ولا معارض ، ولا يصح أن يكون مقصداً من مقاصد الرّب سبحانه ، الذي أنزل كتابه للإرشاد إلى شرائعه ، والهداية به . وهب أن هذه صناعة عجيبة ، ونكتة غريبة ، فليس ذلك مما يتصف بفصاحة ، ولا بلاغة حتى يكون مفيداً أنه كلام بليغ ، أو فصيح ، وذلك لأن هذه الحروف الواقعة في الفواتح ليست من جنس كلام العرب حتى يتصف بهذين الوصفين ، وغاية ما هناك أنها من جنس حروف كلامهم ، ولا مدخل لذلك فيما ذكر . وأيضاً لو فرض أنها كلمات متركبة بتقدير شيء قبلها ، أو بعدها لم يصح وصفها بذلك ، لأنها تعمية غير مفهومة للسامع إلا بأن يأتي من يريد بيانها بمثل ما يأتي به من أراد بيان الألغاز ، والتعمية ، وليس ذلك من الفصاحة ، والبلاغة في ورد ، ولا صدر بل من عكسهما ، وضد رسمهما ، وإذا عرفت هذا ، فاعلم أن من تكلم في بيان معاني هذه الحروف جازماً بأن ذلك هو ما أراده الله عزّ وجل ، فقد غلط أقبح الغلط ، وركب في فهمه ودعواه أعظم الشطط ، فإنه إن كان تفسيره لها بما فسرها به راجعاً إلى لغة العرب ، وعلومها فهو كذب بحت ، فإن العرب لم يتكلموا بشيء من ذلك ، وإذا سمعه السامع منهم كان معدوداً عنده من الرَّطَانة ، ولا ينافي ذلك أنهم قد يقتصرون على أحرف ، أو حروف من الكلمة التي يريدون النطق بها ، فإنهم لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن تقدمه ما يدل عليه ، ويفيد معناه ، بحيث لا يلتبس على سامعه كمثل ما تقدم ذكره . ومن هذا القبيل ما يقع منهم من الترخيم ، وأين هذه الفواتح الواقعة في أوائل السور من هذا ؟ وإذا تقرر لك أنه لا يمكن استفادة ما ادّعوه من لغة العرب ، وعلومها لم يبق حينئذ إلا أحد أمرين :

الأوّل التفسير بمحض الرأي الذي ورد النهي عنه ، والوعيد عليه ، وأهل العلم أحق الناس بتجنبه ، والصدّ عنه ، والتنكُّب عن طريقه ، وهم أتقى لله سبحانه من أن يجعلوا كتاب الله سبحانه ملعبةً لهم يتلاعبون به ، ويضعون حماقات أنظارهم ، وخُزَعْبَلات أفكارهم عليه .

الثاني التفسير بتوقيف عن صاحب الشرع ، وهذا هو المهيع الواضح ، والسبيل القويم ، بل الجادة التي ما سواها مردوم ، والطريقة العامرة التي ما عداها معدوم ، فمن وجد شيئاً من هذا ، فغير ملوم أن يقول بملء فيه ، ويتكلم بما وصل إليه علمه ، ومن لم يبلغه شيء من ذلك فليقل لا أدري ، أو الله أعلم بمراده ، فقد ثبت النهي عن طلب فهم المتشابه ، ومحاولة الوقوف على علمه مع كونه ألفاظاً عربية ، وتراكيب مفهومة ، وقد جعل الله تتبع ذلك صنيع الذين في قلوبهم زيغ ، فكيف بما نحن بصدده ؟ فإنه ينبغي أن يقال فيه إنه متشابه المتشابه على فرض أن للفهم إليه سبيلاً ، ولكلام العرب فيه مدخلاً ، فكيف وهو خارج عن ذلك على كل تقدير .

وانظر كيف فهم اليهود عند سماع { ألم } فإنهم لما لم يجدوها على نمط لغة العرب فهموا أن الحروف المذكورة رمز إلى ما يصطلحون عليه من العدد الذي يجعلونه لها ، كما أخرج ابن إسحاق ، والبخاري في تاريخه ، وابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس ، عن جابر بن عبد الله قال : «مرّ أبو ياسر بن أخْطَبَ في رجالٍ من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يتلو فاتحة سورة البقرة { الم ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ } فأتى أخاه حُيَيَّ بن أخطب في رجال من اليهود فقال : تعلمون ، والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل عليه { آلم . ذلك الكتاب } ، فقال : أنت سمعته ؟ فقال نعم ، فمشى حُيَيَّ في أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد ألم تذكر أنك تتلو ، فيما أنزل عليك { الم ذلك الكتاب } قال " بلى " ، قالوا : أجاءك بهذا جبريل من عند الله ؟ قال " نعم " قالوا : لقد بعث الله قبلك الأنبياء ما نعلمه بيَّن لنبي منهم ما مدّة ملكه ، وما أجَلُ أمته غيرك ، فقال حُيَيُّ بن أخطب : وأقبل على من كان معه الألف ، واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى ، وسبعون سنة ، أفتدخلون في دين نبيّ إنما مدّة ملكه ، وأجل أمته إحدى وسبعون سنة ؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد هل مع هذا غيره ؟ قال " نعم " ، قال : وما ذاك ؟ قال " { المصا } " ، قال : هذه أثقل ، وأطول الألف ، واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فهذه إحدى وستون ومائة سنة ، هل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال " نعم " ، قال : وما ذاك ؟ قال " { الر } " قال : هذه أثقل ، وأطول الألف ، واحدة ، واللام ثلاثون ، والراء مائتان ، هذه إحدى وثلاثون سنة ومائتان ، فهل مع هذا غيره ؟ قال : " نعم : { المر } " قال : فهذه أثقل ، وأطول الألف ، واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون سنة ومائتان ، ثم قال : لقد لُبِّس علينا أمرك يا مُحمدُ حتى ما ندري قليلاً أعطيت أم كثيراً ، ثم قاموا ، فقال أبو ياسر لأخيه حُييّ ، ومن معه من الأحبار : ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وستون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان ، فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون سنة ، فقالوا : لقد تشابه علينا أمره ، فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم : { هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ محْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتُ } [ آل عمران : 7 ]

فانظر ما بلغت إليه أفهامهم من هذا الأمر المختص بهم من عدد الحروف ، مع كونه ليس من لغة العرب في شيء ، وتأمل أيّ موضع أحق بالبيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الموضع ، فإن هؤلاء الملاعين قد جعلوا ما فهموه عند سماع { الم ذلك الكتاب } من ذلك العدد موجباً للتثبيط عن الإجابة له ، والدخول في شريعته ، فلو كان لذلك معنى يعقل ، ومدلولٌ يفهم ، لدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ظنوه بادىء بدء حتى لا يتأثر عنه ما جاءوا به من التشكيك على من معهم .

فإن قلت : هل ثبت عن رسول الله في هذه الفواتح شيء يصلح للتمسك به ؟ قلت : لا أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم في شيء من معانيها ، بل غاية ما ثبت عنه هو مجرد عدد حروفها ، فأخرج البخاري في تاريخه ، والترمذي وصححه والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول ألم حرف ، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف » وله طرق عن ابن مسعود . وأخرج ابن أبي شيبة ، والبزار بسند ضعيف عن عوف بن مالك الأشجعي نحوه مرفوعاً . فإن قلت : هل روي عن الصحابة شيء من ذلك بإسناد متصل بقائله أم ليس إلا ما تقدم من حكاية القرطبي عن ابن عباس وعليّ ؟ قلت : قد روى ابن جرير والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات عن ابن مسعود أنه قال : { آلم } أحرف اشتقت من حروف اسم الله . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس في قوله : { آلم } ، و { حم } ، و { ن } قال : اسم مقطع . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في كتاب الأسماء عن ابن عباس أيضاً في قوله : { الم } ، { والمصا } ، { وآلر } ، ، و { المر } و { كهعيصا } ، و { وطه } ، و { طسما } ، و { وطس } و { ويس } ، و { وص } ، و { وحم } ، و { ق } ، و { ن } ، قال : هو قسم أقسمه الله ، وهو : من أسماء الله . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله { آلم } قال : هي : اسم الله الأعظم . وأخرج عبد بن حميد عن الربيع بن أنس في قوله { آلم } قال : ألف مفتاح اسمه الله ، ولام مفتاح اسمه لطيف وميم مفتاح اسمه مجيد . وقد روي نحو هذه التفاسير عن جماعة من التابعين فيهم عكرمة والشعبي والسُّدِّي وقتادة ومجاهد والحسن .

فإن قلت : هل يجوز الاقتداء بأحد من الصحابة ؟ قال في تفسير شيء من هذه الفواتح قولاً صح إسناده إليه . قلت : لا لما قدمنا ، إلا أن يعلم أنه قال ذلك عن علم أخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فإن قلت : هذا مما لا مجال للاجتهاد فيه ، ولا مدخل للغة العرب ، فلم لا يكون له حكم الرفع ؟ قلت : تنزيل هذا منزلة المرفوع ، وإن قال به طائفة من أهل الأصول وغيرهم ، فليس مما ينشرح له صدور المنصفين ، ولا سيما إذا كان في مثل هذا المقام ، وهو : التفسير لكلام الله سبحانه ، فإنه دخول في أعظم الخطر بما لا برهان عليه صحيح إلا مجرد قولهم إنه يبعد من الصحابي كل البعد أن يقول بمحض رأيه فيما لا مجال فيه للاجتهاد ، وليس مجرد هذا الاستبعاد مسوّغاً للوقوع في خطر الوعيد الشديد .

على أنه يمكن أن يذهب بعض الصحابة إلى تفسير بعض المتشابه ، كما تجده كثيراً في تفاسيرهم المنقولة عنهم ويجعل هذه الفواتح من جملة المتشابه .

ثم ها هنا مانع آخر ، وهو أن المروي عن الصحابة في هذا مختلف متناقض فإن عملنا بما قاله أحدهم دون الآخر كان تحكماً لا وجه له ، وإن عملنا بالجميع كان عملاً بما هو مختلف متناقض ، ولا يجوز .

ثم ها هنا مانع غير هذا المانع ، وهو أنه لو كان شيء مما قالوه مأخوذاً عن النبي صلى الله عليه وسلم لاتفقوا عليه ولم يختلفوا كسائر ما هو مأخوذعنه ، فلما اختلفوا في هذا علمنا أنه لم يكن مأخوذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم لو كان عندهم شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا لما تركوا حكايته عنه ورفعه إليه ، لا سيما عند اختلافهم واضطراب أقوالهم في مثل هذا الكلام الذي لا مجال للغة العرب فيه ولا مدخل لها .

والذي أراه لنفسي ولكل من أحبّ السلامة واقتدى بسلف الأمة ألا يتكلم بشيء من ذلك ، مع الاعتراف بأن في إنزالها حكمة لله عزّ وجل لا تبلغها عقولنا ولا تهتدي إليها أفهامنا ، وإذا انتهيت إلى السلامة في مداك فلا تجاوزه ، وسيأتي لنا عند تفسير قوله تعالى : { مِنْهُ آيات محكمات هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ متشابهات } [ آل عمران : 7 ] كلام طويل الذيول ، وتحقيق تقبله صحيحات الأفهام وسليمات العقول .