فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (6)

ذكر سبحانه فريق الشرّ بعد الفراغ من ذكر فريق الخير ، قاطعاً لهذا الكلام عن الكلام الأوّل ، معنوناً له بما يفيد أن شأن جنس الكفرة عدم إجداء الإنذار لهم ، وأنه لا يترتب عليهم ما هو المطلوب منهم من الإيمان ، وأن وجود ذلك كعدمه . و { سواء } اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر ، «والهمزة وأم » مجرّدتان لمعنى الاستواء غير مراد بهما ما هو أصلهما من الاستفهام ، وصحّ الابتداء بالفعل والإخبار عنه بقوله : سواء ، هجراً لجانب اللفظ إلى جانب المعنى ، كأنه قال : الإنذار وعدمه سواء ، كقولهم : تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه : أي سماعك . وأصل الكفر في اللغة : الستر والتغطية ، قال الشاعر :

في ليلة كفر النجوم غمامها*** . . .

أي : سترها ، ومنه سمي الكافر كافراً ؛ لأنه يغطي بكفره ما يجب أن يكون عليه من الإيمان . والإنذار : الإبلاغ والإعلام .

قال القرطبي : واختلف العلماء في تأويل هذه الآية ، فقيل : هي عامة ومعناها الخصوص فيمن سبقت عليه كلمة العذاب ، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره . أراد الله تعالى أن يعلم الناس أن فيهم من هذا حاله دون أن يعين أحداً . وقال ابن عباس والكلبي : نزلت في رؤساء اليهود حييّ بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظرائهما . وقال الربيع بن أنس : نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب ، والأول أصح ، فإن من عين أحداً فإنما مثل بمن كشف الغيب بموته على الكفر انتهى .

وقوله : { لاَ يُؤْمِنُونَ } خبر مبتدأ محذوف : أي : هم لا يؤمنون ، وهي جملة مستأنفة لأنها جواب سؤال مقدر كأنه قيل : هؤلاء الذين استوى حالهم مع الإنذار وعدمه ماذا يكون منهم ؟ فقيل : { لا يؤمنون } : أي : هم لا يؤمنون . وقال في الكشاف : إنها جملة مؤكدة للجملة الأولى ، أو خبر لأن والجملة قبلها اعتراض . انتهى . والأولى ما ذكرناه ، لأن المقصود الإخبار عن عدم الاعتداد بإنذارهم ، وأنه لا يجدي شيئاً بل بمنزلة العدم ، فهذه الجملة هي التي وقعت خبراً لأن ، وما بعدها من عدم الإيمان متسبب عنها لا أنه المقصود . وقد قال بمثل قول الزمخشري القرطبي . وقال ابن كيسان : إن خبر إن { سواء } ، وما بعده يقوم مقام الصلة . وقال محمد بن يزيد المبرّد : { سواء } رفع بالابتداء ، وخبره { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } ، والجملة خبر «إن » . والختم : مصدر ختمت الشيء ، ومعناه : التغطية على الشيء ، والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء ، ومنه ختم الكتاب ، والباب ، وما يشبه ذلك حتى لا يوصل إلى ما فيه ، ولا يوضع فيه غيره . والغشاوة : الغطاء ، ومنه غاشية السرج ، والمراد بالختم والغشاوة هنا : هما المعنويان لا الحسيان ، أي : لما كانت قلوبهم غير واعية لما وصل إليها ، والأسماع غير مؤدية لما يطرقها من الآيات البينات إلى العقل على وجه مفهوم ، والأبصار غير مهدية للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته جعلت بمنزلة الأشياء المختوم عليها ختماً حسياً ، والمستوثق منها استيثاقاً حقيقياً ، والمغطاة بغطاء مدرك ، استعارة أو تمثيلاً ، وإسناد الختم إلى الله قد احتجّ به أهل السنة على المعتزلة ، وحاولوا دفع هذه الحجة بمثل ما ذكره صاحب الكشاف ، والكلام على مثل هذا متقرّر في مواطنه .

/خ7