فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (93)

{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً } وهي آخر ما نزل ، وما نسختها شيء . وقد روى النسائي عنه نحو هذا . وروى النسائي ، عن زيد بن ثابت نحوه ، وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف أبو هريرة ، وعبد الله بن عمرو ، وأبو سلمة ، وعبيد بن عمير ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ابن مزاحم ، نقله ابن أبي حاتم ، عنهم . وذهب الجمهور إلى أن التوبة منه مقبولة ، واستدلوا بمثل قوله تعالى : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } [ هود : 114 ] وقوله : { وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ } [ الشورى : 25 ] . وقوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 ] ، قالوا أيضاً : والجمع ممكن بين آية النساء هذه ، وآية الفرقان ، فيكون معناهما : فجزاؤه جهنم إلا من تاب ، لا سيما ، وقد اتحد السبب ، وهو القتل ، والموجب ، وهو التوعد بالعقاب . واستدلوا أيضاً بالحديث المذكور في الصحيحين ، عن عبادة بن الصامت أنه صلى الله عليه وسلم قال : «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق » ، ثم قال : «فمن أصاب من ذلك شيئاً ، فستره الله ، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عذبه » وبحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم في صحيحه ، وغيره في الذي قتل مائة نفس وذهب جماعة منهم أبو حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي إلى أن القاتل عمداً داخل تحت المشيئة تاب أو لم يتب . وقد أوضحت في شرحي على المنتقى مستمسك كل فريق .

والحق أن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص ، بل هو مفتوح لكل من قصده ورام الدخول منه ، وإذا كان الشرك ، وهو أعظم الذنوب وأشدّها تمحوه التوبة إلى الله ، ويقبل من صاحبه الخروج منه ، والدخول في باب التوبة ، فكيف بما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمداً ؟ لكن لا بدّ في توبة قاتل العمد من الاعتراف بالقتل ، وتسليم نفسه للقصاص إن كان واجباً ، أو تسليم الدية إن لم يكن القصاص واجباً ، وكان القاتل غنياً متمكناً من تسليمها ، أو بعضها . وأما مجرد التوبة من القاتل عمداً ، وعزمه على أن لا يعود إلى قتل أحد من دون اعتراف ، ولا تسليم نفس ، فنحن لا نقطع بقبولها ، والله أرحم الراحمين ، هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون .

/خ93