فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّ فِيهَا قَوۡمٗا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَا حَتَّىٰ يَخۡرُجُواْ مِنۡهَا فَإِن يَخۡرُجُواْ مِنۡهَا فَإِنَّا دَٰخِلُونَ} (22)

{ قَالُواْ يا موسى إِن فيها قوما جبارين } قال الزجاج : الجبار من الآدميين العاتي ، وهو الذي يجبر الناس على ما يريد ، وأصله على هذا من الإجبار وهو الإكراه ، فإنه يجبر غيره على ما يريده ، يقال أجبره : إذا أكرهه ؛ وقيل : هو مأخوذ من جبر العظم ، فأصل الجبار على هذا المصلح لأمر نفسه ، ثم استعمل في كل من جرّ إلى نفسه نفعاً بحق أو باطل ، وقيل : إن جبر العظم راجع إلى معنى الإكراه . قال الفراء : لم أسمع فعالاً من أفعل إلا في حرفين ، جبار من أجبر ، ودراك من أدرك . والمراد هنا : أنهم قوم عظام الأجسام طوال متعاظمون ؛ قيل هم قوم من بقية قوم عاد ؛ وقيل هم من ولد عيص بن إسحاق ؛ وقيل هم من الروم : ويقال إن منهم عوج بن عنق المشهور بالطول المفرط ، وعنق هي بنت آدم ، قيل كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعاً وثلث ذراع . قال ابن كثير : وهذا شيء يستحيا من ذكره ، ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعاً ثم لم يزل الخلق ينقص » ثم قد ذكروا أن هذا الرجل كان كافراً ، وأنه كان ولد زنية ، وأنه امتنع من ركوب السفينة وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته ، وهذا كذب وافتراء ، فإن الله ذكر أن نوحاً دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال : { رَبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } وقال تعالى : { فأنجيناه وَمَن مَعَهُ فِي الفلك المشحون ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين } وقال تعالى : { لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ } . وإذا كان ابن نوح الكافر غرق فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر ولد زنية ؟ هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع ، ثم في وجود رجل يقال له عوج بن عنق نظر والله أعلم ، انتهى كلامه .

قلت : لم يأت في أمر هذا الرجل ما يقتضي تطويل الكلام في شأنه ، وما هذا بأوّل كذبة اشتهرت في الناس ، ولسنا ملزومين بدفع الأكاذيب التي وضعها القصاص ، ونفقت عند من لا يميز بين الصحيح والسقيم ، فكم في بطون دفاتر التفاسير من أكاذيب وبلايا ، وأقاصيص كلها حديث خرافة ، وما أحق من لا تمييز عنده لفنّ الرواية ولا معرفة به أن يدع التعرّض لتفسير كتاب الله ، ويضع هذه الحماقات والأضحوكات في المواضع المناسبة لها ، من كتب القصاص .

قوله : { فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا داخلون } هذا تصريح بما هو مفهوم من الجملة التي قبل هذه الجملة ، لبيان أن امتناعهم من الدخول ليس إلا لهذا السبب .

/خ26