اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّ فِيهَا قَوۡمٗا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَا حَتَّىٰ يَخۡرُجُواْ مِنۡهَا فَإِن يَخۡرُجُواْ مِنۡهَا فَإِنَّا دَٰخِلُونَ} (22)

قوله : { قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } والجبَّارُ : فعَّالٌ من جَبرهُ على الأمْرِ ، بمعنى : أجْبَرهُ عليه ، وهو الذي يُجْبِرُ النَّاس على ما يُرِيدُ ، وهذا اخْتِيَارُ الفَرَّاء والزَّجَّاج{[11359]} .

قال الفرَّاء{[11360]} : لا أسْمَع فعَّالاً من أفعل إلاَّ في حَرْفَيْن وهما : جَبَّارٌ من أجْبَر ، ودَرّاك من أدْرَكَ .

وقيل : مأخوذٌ من قَولِهِم : نَخْلةٌ جَبَّارَةٌ ، إذا كانت طَويلَةً مُرْتَفِعَةً لا تَصِلُ الأيْدِي إلَيْها ، ويُقَال : رَجُلٌ جَبَّارٌ ، إذا كان طَوِيلاً عَظِيماً قويّاً تَشْبِيهاً بالجبَّار مِن النَّخْلِ ، والقَوْمُ كانوا في غَايَةِ القُوَّة وعِظَمِ الإجْسَامِ ، بِحَيْثُ ما كَانَتْ أيْدِي قوم مُوسَى تَصِلُ إليهم ، فَسَموهم جَبَّارِين لِهذَا المَعْنى .

فصل

قال المُفَسِّرُون{[11361]} : لما خَرَجَ مُوسَى من مِصْر ، وعدَهُم الله - تعالى - إسكان أرْضِ الشَّام ، وكان بَنُو إسرائِيل يُسَمُّون أرْضَ الشَّام أرْضَ المَوَاعِيد ، ثم بَعَثَ مُوسى - عليه السلام - اثْنَي عَشَر نَقِيباً من الأنبياء ، يَتَجسَّسُون لَهُمْ أحْوَال تلك الأرَاضي{[11362]} .

فلمَّا دَخَلُوا تلك الأمَاكِن رَأوْا أجْساماً عَظِيمَة ، قال المُفَسِّرُون : فأخذَهُم أحَدُ أولئك الجبَّارِين ، وجَعَلَهُم في كُمّهِ مع فَاكِهَةٍ كان قد حَمَلَها من بُسْتَانِه ، وأتى بهم المَلِك فَنَثَرَهُم بين يديه ، وقال مُتَعجِّباً للملك : هؤلاء يُرِيدُون قِتالَنا ، فقال المَلِكُ : ارْجِعُوا إلى صاحِبِكُم ، وأخْبِرُوه بما شَاهَدْتُم .

قال ابْنُ كَثِير : وهذه هذياناتٌ من وضْعِ جُهَّالِ{[11363]} بني إسرائيل ، ولو كان هذا صَحِيحاً لكَان بَنُوا إسرائيل معذُورين في امْتِنَاعِهِم عن القتال{[11364]} ، وقد ذَمَّهُمُ اللَّهُ تعالى على مُخَالَفَتِهِم وتَرْكِ جِهَادِهِم ، وعَاقَبَهُم بالتِّيهِ ، ثمَّ انْصَرَف أولَئِكَ النُّقَبَاءُ إلى مُوسَى وأخْبَرُوه بالوَاقِعَة ، وأمَرَهُم أنْ يَكْتُمُوا ما شَاهَدُوهُ ، فلم يَقْبَلُوا قوله إلا رَجُلان مِنْهُم ، وهم : يُوشَعُ ابن نُون ، وكَالِب بن يُوقنا فإنهما سَهَّلا الأمْر ، وقالا : هي بلادٌ طَيِّبَةٌ كثيرة النعم والأقوام{[11365]} ، وإن كانت أجْسَامُهُم عَظِيمَة ، إلاَّ أنَّ قلوبَهُم ضَعِيفَةٌ .

وأما العَشْرُة البَاقِية فإنَّهم أوْقَعُوا الجُبْن في قُلُوب النَّاسِ حتَّى أظْهَرُوا الامْتِنَاع من غَزْوِهِم ، وقالُوا لِمُوسَى : { إِنَّا لَنْ ندخُلَهَا أبداً ما دامُوا فِيهَا ، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ، فدَعا عَلَيْهم مُوسَى ، فعاقَبَهُم الله تعالى بأن أبْقَاهُم في التِّيهِ أرْبَعِين سنة .

وقالوا : وكَانَتْ مُدَّة غَيْبَة النُّقَبَاءِ المُتَجَسِّسِين أرْبعين يَوْماً ، فعُوقِبُوا بالتِّيهِ أرْبَعِين سنة .

قالوا : ومَاتَ أولَئِك العُصَاةُ بالتِّيهِ ، وأهْلِكَ النُّقَبَاءُ العَشْرَة في التِّيهِ بعُقُوبَةٍ غَلِيظَةٍ{[11366]} ، وقال بَعْضُهُم : إنَّ مُوسَى وهَارُون مَاتَا - أيضاً - في التِّيهِ .

وقال آخرون : إنَّ مُوسَى بَقِي ، وخرج مَعَهُ يُوشَعُ بن نُون وكَالِب ، وقاتَلَ الجبَّارِين وغَلَبَهُم ، ودَخَلُوا تلك البِلاَد .

ورُويَ أنَّهُ لم يَخْرُجْ من التِّيهِ [ أحدٌ ]{[11367]} ممن دَخَلهُ ، [ بل ]{[11368]} ماتوا كُلُّهُم في مُدَّةِ أربعين سنة ، ولَمْ يَبْقَ إلا ذَرَارِيهم يُوشعُ بن نُون وكالِب - عليهما الصلاة والسلام - .

قال المُفَسِّرُون : إنَّ بَني إسْرَائيل دَخَلُوا البريَّة عند سيناء في الشَّهْرِ الثالث من خُرُوجهم من " مِصْر " ، وكان خُرُوجُهُمْ في أوَّلِ السَّنَة التي شُرِعَت لَهُمْ ، وَهِيَ أوَّل فَصْلِ الرَّبيع ، فكأنَّهُم دَخَلُوا التِّيهَ في أوَّل فَصْلِ الصَّيْف .

قوله تعالى : { وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } .

قالُوا هذا القول على سبيل الاسْتِبْعَاد ، كقوله تعالى : { وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } [ الأعراف : 40 ] .

وقوله : " فإنَّا دَاخِلُون " أي : فإنَّا دَاخِلُون الأرْضَ ، فحذف المَفْعولَ لِلدلالَةِ عَلَيْه .


[11359]:ينظر: تفسير الرازي 11/157.
[11360]:ينظر: المصدر السابق.
[11361]:ينظر: تفسير الرازي 11/155.
[11362]:في ب: الأرض.
[11363]:في أ: جهالة.
[11364]:في ب: قتالهم.
[11365]:في أ: والأقوان.
[11366]:في ب: عظيمة.
[11367]:سقط في أ.
[11368]:سقط في أ.