فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الأنعام

قال الثعلبي : سورة الأنعام مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة وهي { وما قدروا الله حق قدره } إلى آخر ثلاث آيات ، و { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } إلى آخر ثلاث آيات . قال ابن عطية : وهي الآيات المحكمات ، يعني في هذه السورة . وقال القرطبي : هي مكية إلا آيتين هما { وما قدروا الله حق قدره } نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين ، وقوله تعالى : { وهو الذي أنشأ جنات معروشات } نزلت في ثابت بن قيس بن شماس . وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : أنزلت سورة الأنعام بمكة . وأخرج أبو عبيد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عنه ، قال : أنزلت سورة الأنعام بمكة ليلاً جملة وحولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح . وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفاً من الملائكة . وأخرج ابن مردويه عن أسماء قال : نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير في زجل من الملائكة . وقد نظموا ما بين السماء والأرض . وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد نحوه . وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد " وهو من طريق إبراهيم بن نائلة شيخ الطبراني عن إسماعيل بن عمرو عن يوسف بن عطية بن عون عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكره . وابن مردويه رواه عن الطبراني عن إسماعيل المذكور به . وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نزلت سورة الأنعام ومعها موكب من الملائكة يسد ما بين الخافقين ، لهم زجل بالتسبيح والتقديس ، والأرض ترتج ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سبحان الله العظيم سبحان الله العظيم " . وأخرج الحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم ، والإسماعيلي في معجمه والبيهقي عن جابر قال : لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق " . وأخرج البيهقي وضعفه والخطيب في تاريخه عن علي بن أبي طالب قال : أنزل القرآن خمساً خمساً ، ومن حفظه خمساً خمساً لم ينسه ، إلا سورة الأنعام فإنها نزلت جملة يشيعها من كل سماء سبعون ملكاً حتى أدوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ما قرئت على عليل إلا شفاه الله . وأخرج أبو الشيخ عن أبي بن كعب مرفوعاً نحو حديث ابن عمر . وأخرج النحاس في تاريخه عن ابن عباس قال : سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة ، فهي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة { قل تعالوا أتل ما حرم } إلى تمام الآيات الثلاث . وأخرج الديلمي بسند ضعيف عن أنس مرفوعاً " ينادي مناد : يا قارئ سورة الأنعام هلم إلى الجنة بحبك إياها وتلاوتها " . وأخرج ابن المنذر عن أبي جحيفة قال : نزلت سورة الأنعام جميعها معها سبعون ألف ملك كلها مكية إلا { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة } فإنها مدنية . وأخرج أبو عبيد في فضائله والدارمي في مسنده ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب قال : الأنعام من نواجب القرآن . وأخرج محمد بن نصر عن ابن مسعود مثله . وأخرج السلفي بسند واه عن ابن عباس مرفوعاً : " من قرأ إذا صلى الغداة ثلاث آيات من أول سورة الأنعام إلى { ويعلم ما تكسبون } نزل إليه أربعون ألف ملك يكتب له مثل أعمالهم ، ونزل إليه ملك من فوق سبع سموات ومعه مرزبة من حديد ، فإن أوحى الشيطان في قلبه شيئاً من الشر ضربه ضربة حتى يكون بينه وبينه سبعون حجاباً ، فإذا كان يوم القيامة ، قال الله تعالى : أنا ربك وأنت عبدي ، امش في ظلي واشرب من الكوثر واغتسل من السلسبيل وادخل الجنة بغير حساب ولا عذاب " . وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى الفجر في جماعة وقعد في مصلاه وقرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام وكل الله به سبعين ملكاً يسبحون الله ويستغفرون له إلى يوم القيامة " . وفي فضائل هذه السورة روايات عن جماعة من التابعين مرفوعة وغير مرفوعة . قال القرطبي : قال العلماء : هذه السورة أصل في محجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور ، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة ، وعليها بنى المتكلمون أصول الدين .

بدأ سبحانه هذه السورة بالحمد لله ، للدلالة على أن الحمد كله لله ، ولإقامة الحجة على الذين هم بربهم يعدلون . وقد تقدّم في سورة الفاتحة ما يغني عن الإعادة له هنا ، ثم وصف نفسه بأنه الذي خلق السموات والأرض إخباراً عن قدرته الكاملة ، الموجبة لاستحقاقه لجميع المحامد ، فإن من اخترع ذلك وأوجده ، هو الحقيق بإفراده بالثناء وتخصيصه بالحمد ، والخلق يكون بمعنى الاختراع ، وبمعنى التقدير . وقد تقدّم تحقيق ذلك ، وجمع السموات لتعدد طباقها ، وقدّمها على الأرض لتقدّمها في الوجود { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها } . قوله : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } معطوف على خلق . ذكر سبحانه خلق الجواهر بقوله : { خَلقَ السموات والأرض } ثم ذكر خلق الأعراض بقوله : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } لأن الجواهر لا تستغني عن الأعراض .

واختلف أهل العلم في المعنى المراد بالظلمات والنور ؛ فقال جمهور المفسرين : المراد بالظلمات سواد الليل ، وبالنور ضياء النهار . وقال الحسن : الكفر والإيمان . قال ابن عطية : وهذا خروج عن الظاهر انتهى . والأولى أن يقال : إن الظلمات تشمل كل ما يطلق عليه اسم الظلمة ، والنور يشمل كل ما يطلق عليه اسم النور ، فيدخل تحت ذلك ظلمة الكفر ونور الإيمان { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي الناس كَمَن مثلهُ فِي الظلمات } وأفرد النور لأنه جنس يشمل جميع أنواعه ، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها وتعدد أنواعها . قال النحاس : جعل هنا بمعنى خلق ، وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعدّ إلا إلى مفعول واحد ، وقال القرطبي : جعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره . قال ابن عطية : وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق ، فيكون الجمع معطوفاً على الجمع ، والمفرد معطوفاً على المفرد ، وتقديم الظلمات على النور لأنها الأصل ، ولهذا كان النهار مسلوخاً من الليل .

قوله : { ثمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } معطوف على الحمد لله ، أو على خلق السموات والأرض ، وثم لاستبعاد ما صنعه الكفار من كونهم بربهم يعدلون مع ما تبين من أن الله سبحانه حقيق بالحمد على خلقه السموات والأرض والظلمات والنور ، فإن هذا يقتضي الإيمان به وصرف الثناء الحسن إليه ، لا الكفر به واتخاذ شريك له ، وتقديم المفعول للاهتمام ، ورعاية الفواصل ، وحذف المفعول لظهوره ، أي يعدلون به مالا يقدر على شيء مما يقدر عليه ، وهذا نهاية الحمق وغاية الرقاعة حيث يكون منه سبحانه تلك النعم ، ويكون من الكفرة الكفر .

/خ2