فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَوَالِدٖ وَمَا وَلَدَ} (3)

{ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ } واعترض بينهما بهذه الجملة . والمعنى : ومن المكابد أن مثلك عليّ عظيم حرمته يستحل بهذا البلد كما يستحلّ الصيد في غير الحرم . وقال الواحدي : الحلّ والحلال والمحل واحد ، وهو ضدّ المحرّم ، أحلّ الله لنبيه صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح حتى قاتل ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : «لم تحلّ لأحد قبلي ، ولا تحلّ لأحد بعدي ، ولم تحلّ لي إلاّ ساعة من نهار » قال : والمعنى أن الله لما ذكر القسم بمكة دلّ ذلك على عظم قدرها مع كونها حراماً ، فوعد نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحلها له حتى يقاتل فيها ويفتحها على يده ، فهذا وعد من الله تعالى بأن يحلها له حتى يكون بها حلاً انتهى . فالمعنى : وأنت حلّ بهذا البلد في المستقبل ، كما في قوله : { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ } [ الزمر : 30 ] قال مجاهد : المعنى ما صنعت فيه من شيء فأنت حلّ . قال قتادة أنت حلّ به لست بآثم ، يعني : أنك غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه ، لا كالمشركين الذين يرتكبون فيه الكفر والمعاصي . وقيل المعنى : لا أقسم بهذا البلد وأنت حالّ به ومقيم فيه وهو محلك ، فعلى القول بأن لا نافية غير زائدة يكون المعنى : لا أقسم به وأنت حالّ به ، فأنت أحقّ بالإقسام بك ، وعلى القول بأنها زائدة يكون المعنى : أقسم بهذا البلد الذي أنت مقيم به تشريفاً لك وتعظيماً لقدرك لأنه قد صار بإقامتك فيه عظيماً شريفاً ، وزاد على ما كان عليه من الشرف والعظم ، ولكن هذا إذا تقرّر في لغة العرب أن لفظ «حلّ » يجيء بمعنى حالّ ، وكما يجوز أن تكون الجملة معترضة يجوز أن تكون في محل نصب على الحال . { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } عطف على البلد . قال قتادة ومجاهد والضحاك والحسن وأبو صالح { وَوَالِدٍ } أي آدم { وَمَا وَلَدَ } أي وما تناسل من ولده أقسم بهم ، لأنهم أعجب ما خلق الله على وجه الأرض لما فيهم من البيان والعقل والتدبير ، وفيهم الأنبياء والعلماء والصالحون . وقال أبو عمران الجوني : الوالد إبراهيم ، وما ولد : ذريته . قال الفرّاء : إن : «ما » عبارة عن الناس كقوله : { مَا طَابَ لَكُمْ } [ النساء : 3 ] . وقيل : الوالد إبراهيم ، والولد إسماعيل ومحمد صلى الله عليه وسلم . وقال عكرمة وسعيد بن جبير : { وَوَالِدٍ } يعني : الذي يولد له { وَمَا وَلَدَ } يعني العاقر الذي لا يولد له ، وكأنهما جعلا «ما » نافية ، وهو بعيد ، ولا يصح ذلك إلاّ بإضمار الموصول : أي ووالد والذي ما ولد ، ولا يجوز إضمار الموصول عند البصريين ، وقال عطية العوفي : هو عام في كل والد ومولود من جميع الحيوانات ، واختار هذا ابن جرير .

/خ20