مقرنين : أي : مطيقين ، قال عمرو بن معدي كرب :
لقد علم القبائل ما عقيل *** لنا في النائبات بمقرنينا
13- { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } .
أي : إذا ركبتم السفينة تأملتم في نعمة ربكم الذي سخر البحر والسفن لنا حتى نقول : { بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم } . ( هود : 41 ) .
وإذا ركبتم الدابة أو السيارة أو الطائرة أو أشباه ذلك قلتم : { سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون } .
وروح النص تفيد أن الإنسان عندما يستقر على ظهر السفينة ، أو على ظهر الدابة يذكر الله تعالى ، ويشكر أنعمه التي لا تحصى ويقول : { سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون } .
ومثل هذا الدعاء يقوله المؤمن عند ركوب المصعد إلى الأدوار العليا ، والسيارة والطيارة ؛ لأن هذا التسخير يذكرنا بأفضال الله علينا .
14- { وإنا إلى ربنا لمنقلبون } .
وإنا راجعون إلى الله ، ومصيرنا إليه .
ألا كل شيء ما خلا الله باطل *** وكل نعيم لا محالة زائل
جاء في حاشية شيخ زادة على تفسير البيضاوي ما يأتي : وليس المراد من ذكر النعمة تصورها وإخطارها في البال ، بل المراد تذكر أنها نعمة حاصلة بتدبير القادر العليم الحكيم ، مستدعية لطاعته وشكره ، فإن من تفكر في أن ما يركبه الإنسان من الفلك والأنعام أكثر قوة وأكبر جثة من راكبه ، ومع ذلك كان مسخرا لراكبه ، يتمكن من تصريفه إلى أي جانب شاء ، وتفكر أيضا في خلق البحر والريح وفي كونهما مسخرين للإنسان مع ما فيهما من المهابة والأهوال ، استغرق في معرفة عظمة الله تعالى وكبريائه ، وكمال قدرته وحكمته ، فيحمله ذلك الاستغراق على أن يقول متعجبا من عظمة الله : { سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون } .
ذكر الأحاديث الواردة عند ركوب الدابة :
روى الإمام أحمد ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركب راحلته كبّر ثلاثا ، ثم قال : { سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون } . ثم يقول : ( اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ، ومن العمل ما ترضى ، اللهم هوّن علينا السفر ، واطو لنا البعد ، اللهم أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل ، اللهم اصحبنا في سفرنا ، واخلفنا في أهلنا ) .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا رجع إلى أهله قال : ( آيبون تائبون إن شاء الله ، عابدون لربنا حامدون )2 .
هناك أذكار ثلاثة ما ينبغي لعبد أن يدع قولها ، وليس بواجب ذكرها في اللسان ، وهي :
دعاء السفر في البحر : { بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم } . ( هود : 41 ) .
ودعاء السفر في البر : { سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون } .
ودعاء دخول المنازل : { رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين } . ( المؤمنون : 29 ) .
{ لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ } حيث عبر عن القرار على الجميع بالاستواء على الظهور المخصوص بالدواب والضمير ل { ما تركبون } [ الزخرف : 12 ] وأفرد رعاية للفظ ، وجمع ظهور مع إضافته إليه رعاية لمعناه ، والظاهر أن لام { لِتَسْتَوُواْ } لام كي ، وقال الحوفي : من أثبت لام الصيرورة جاز له أن يقول به هنا ، وقال ابن عطية : هي لام الأمر ، وفيه بعد من حيث استعماله أمر المخاطب بتاء الخطاب ، وقد اختلف في أمره فقيل : إنه لغة رديئة قليلة لا تكاد تحفظ إلا في قراءة شاذة نحو { فَبِذَلِكَ فلتفرحوا } [ يونس : 58 ] أو شعر نحو قوله :
لتقم أنت يابن خير قريش *** وما ذكره المحدثون من قوله عليه الصلاة والسلام : لتأخذوا مصافكم يحتمل أنه من المروى بالمعنى ، وقال الزجاج : إنها لغة جيدة ، وأبو حيان على الأول وحكاه عن جمهور النحويين .
{ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ } أي تذكروها بقلوبكم معترفين بها مستعظمين لها ثم تحمدوا عليها بألسنتكم وهذا هو معنى ذكر نعمة الله تعالى عليهم على ما قال الزمخشري ، وحاصله أن الذكر يتضمن شعور القلب والمرور على اللسان فنزل على أكمل أحواله وهو أن يكون ذكراً باللسان مع شعور من القلب ، وأما الاعتراف والاستعظام فمن نعمة ربكم لاقتضائه الإحضار في القلب لذلك وهذا عين الحمد الذي هو شكر في هذا المقام لا أنه يوجبه وءن كان ذلك التقرير سديداً أيضاً ، ومنه يظهر إيثاره علي ثم تحمدوا إذا استويتم ، ومن جوز استعمال المشترك في معنييه جوز هنا أن يراد بالذكر الذكر القلبي والذكر اللساني وهو كما ترى .
ولما كانت تلك النعمة متضمنة لأمر عجيب قال سبحانه : { وَتَقُولُواْ سبحان الذى سَخَّرَ لَنَا هذا } أي وتقولوا سبحان الذي ذلله وجعله منقاداً لنا متعجبين من ذلك ، وليس الإشارة للتحقير بل لتصوير الحال وفيها مزيد تقرير لمعنى التعجب ، والكلام وإن كان إخباراً على ما سمعت أولاً يشعر بالطلب .
أخرج عبد بن حميد . وابن جرير . وابن المنذر عن أبي مجلز قال : رأى الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وكرم وجههما رجلاً ركب دابة فقال : سبحان الذي سخر لنا هذا فقال : أو بذلك أمرت ؟ فقال : فكيف أقول ؟ قال : الحمد لله الذي هدانا للإسلام الحمد لله الذي من علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي جعلني في أخير أمة أخرجت للناس ثم تقول : { سبحان الذى سَخَّرَ لَنَا هذا } إلى { مُقْرِنِينَ } وهذا يومي إلى أن ليس المراد من النعمة نعمة التسخير ، وأخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب أنه فسرها بنعمة الإسلام .
وأخرج أحمد . وأبو داود . والترمذي وصححه . والنسائي . وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه أتى بدابة فلما وضع رجله في الركاب قال : بسم الله فلما استوى على ظهرها قال : الحمد لله ثلاثاً والله أكبر ثلاثاً سبحان الذي سخر لنا هذا إلى لمنقلبون سبحانك لا إله إلا أنت قد ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم شحك فقيل له : مم ضحكت يا أمير المؤمنين ؟ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت ثم ضحك فقلت : يا رسول الله مم ضحكت ؟ فقال : يتعجب الرب من عبده إذا قال : رب اغفر لي ويقول : علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري ، وفي حديث أخرجه مسلم .
والترمذي . وأبو داود . والدارمي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر حمد الله تعالى وسبح وكبر ثلاثاً ثم قال : سبحان الذي سخر لنا هذا إلى لمنقلبون ، وفي حديث أخرجه أحمد . وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من بعير إلا في ذروته شيطان فاذكروا اسم الله تعالى إذا ركبتموه كما أمركم ، وظاهر النظم الجليل أن تذكر النعمة والقول المذكور لا يخصان ركوب الأنعام بل يعمانها والفلك ، وذكر بعضهم أنه يقال : إذا ركبت السفينة { بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } إلى { رَّحِيمٌ } [ هود : 41 ] ويقال : عند النزول منها «اللهم أنزلنا منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين { وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أي مطيقين ، وأنشد قطرب لعمرو بن معدي كرب :
لقد علم القبائل ما عقيل *** لنا في النائبات بمقرنينا
وهو من أقرن الشيء إذا أطاقه ، قال ابن هرمة :
وأقرنت ما حملتني ولقلما *** يطاق احتمال الصد يا دعد والهجر
وحقيقة أقرنه وجده قرينته وما يقرن به لأن الصعب لا يكون قرينة للضعيف ألا ترى إلى قولهم في الضعيف لا تقرن به الصعبة ، والقرن الحبل الذي يقرن به ، قال الشاعر :
وابن اللبون إذا ما لز في قرن *** لم يستطع صولة البزل القنا عيس
وحاصل المعنى أنه ليس لنا من القوة ما يضبط به الدابة والفلك وإنما الله تعالى هو الذي سخر ذلك وضبطه لنا .
أخرج عبد بن حميد . وابن المنذر عن سليمان بن يسار أن قوماً كانوا في سفر فكانوا إذا ركبوا قالوا : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وكان فيهم رجل له ناقة رزام فقال : أما أنا فلهذه مقرن فقمصت به فصرعته فاندقت عنقه ، وقرىء { مُقْرِنِينَ } بتشديد الراء مع فتحها وكسرها وهما بمعنى المخفف .
وهذا شامل لظهور الفلك ولظهور الأنعام ، أي : لتستقروا عليها ، { ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ } بالاعتراف بالنعمة لمن سخرها ، والثناء عليه تعالى بذلك ، ولهذا قال : { وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أي : لولا تسخيره لنا ما سخر من الفلك ، والأنعام ، ما كنا مطيقين لذلك وقادرين عليه ، ولكن من لطفه وكرمه تعالى ، سخرها وذللها ويسر أسبابها .