تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{۞قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (53)

الدعوة إلى التوبة النصوح

{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ( 53 ) وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون ( 54 ) واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ( 55 ) أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين ( 56 ) أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين ( 57 ) أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين ( 58 ) بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ( 59 ) }

المفردات :

الإسراف : تجاوز الحد في كل ما يفعله المرء ، وكثر استعماله في إنفاق المال وتبذيره ، والمراد هنا : الإفراط في المعاصي .

لا تقنطوا : لا تيأسوا .

53

التفسير :

53-{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } .

يا أيها الناس ، ويا عباد الله تعالى ، يا أيها العباد الذين أكثروا من الذنوب ، وتجاوزوا الحدود في المعاصي أو في الكفر ، لا تيأسوا من رحمة الله ، ولا تجبنوا وتمتنعوا عن التوبة يأسا أو قنوطا ، فتصابوا بالإحباط والتردد ، وعدم الإقدام على الإسلام أو على التوبة ، فإن باب الله مفتوح للتائبين ، وهو سبحانه يغفر الذنوب جميعا للمستغفرين ، وهو سبحانه واسع المغفرة وعظيم الرحمة .

وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله ، ونلمح أن الله تفضل على عباده في هذه الآية بالبشارات التالية :

1- نسب العباد إلى نفسه فقال سبحانه : { قل يا عبادي . . . } .

2- وصفهم بالإسراف في المعاصي .

3- دعاهم إلى عدم القنوط من رحمة الله ، ودعاهم إلى الأمل والرجاء في مغفرته .

4- إخبارهم بأن الله تعالى يغفر الذنوب جميعا .

5- تأكيد ذلك بأنه سبحانه هو الغفور الرحيم .

سبب النزول :

أخرج البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، عن ابن عباس ، أن ناسا من أهل الشرك قَتلوا فأكثروا ، وزَنوا فأكثروا ، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن ، أو تخبرنا أن لنا توبة ، أو أن لما عملنا كفارة ؟ فنزلت : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما } {[607]} . ( الفرقان : 68-70 ) .

ونزل قوله تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . . . } .

وأخرج ابن جرير ، عن عطاء بن يسار قال : نزلت هذه الآيات : { قل يا عبادي . . . } إلى : { وأنتم لا تشعرون } . بالمدينة في وحشي قاتل حمزة لأنه ظنّ أن الله لا يقبل إسلامه .

وقد فرح النبي صلى الله عليه وسلم بنزول هذه الآية ، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده وابن جرير ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، وغيرهم ، عن ثوبان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما أحبّ أن لي في الدنيا وما فيها بهذه الآية : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . . . } {[608]} إلى آخر الآية .

فلسفة التوبة

يفتح الإسلام باب الرجاء في وجه الله أمام الحيارى والمسرفين ، وجميع المذنبين ، آملا في توبتهم واستقامتهم وهدايتهم ، وبذلك تكسب البشرية إنسانا تائبا مستقيما ، معتدلا مهتديا ، وفي نفس الوقت نطارد اليأس والإحباط في نفوس العصاة ، ونخبر الناس بأن باب الله مفتوح للتائبين بالليل والنهار ، وفي الحديث الصحيح : " ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الأخير ، فينادي : يا عبادي ، هل من داع فأستجيب له ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من تائب فأتوب عليه ؟ هل من طالب حاجة فأقضيها له ؟ حتى يطلع الفجر " ، وقد تردد في القرآن سعة رحمة الله ، وعظيم مغفرته وتوبته على عباده ، وأنه سبحانه يغفر الذنوب جميعا .

قال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . . . } ( النساء : 48 ) .

وقال تعالى : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين } . ( آل عمران : 135 ، 136 ) .

وقال ابن كثير : هذه الآية دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة ، وإخبار بأن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها مهما كثرت . ا ه .

وقد أورد ابن كثير طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة فيها نفى القنوط ، ومحاربة اليأس .

من ذلك ما ورد في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الذي قتل تسعا وتسعين نفسا ، ثم ندم وسأل عابدا من عبّاد بني إسرائيل هل له من توبة ؟ فقال لا ، فقتله وأكمل به مائة ، ثم سأل عالما من علمائهم هل له من توبة ؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة ، ثم أمره بالذهاب إلى قرية يعبد الله فيها ، وكان ذلك سبيلا إلى قبول التوبة وحسن الخاتمة ، لأنه قصد باب الله مخلصا فقبله الله تعالى {[609]} .


[607]:أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا: رواه البخاري في التفسير (4810) ومسلم في الإيمان(122) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما علمنا كفارة فنزلت:{والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون} ونزلت: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله}.
[608]:ما أحب أن لي الدنيا: رواه أحمد في مسنده (21857) من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية{يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم}، فقال رجل: يا رسول الله فمن أشرك ؟، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: " إلا من أشرك " ثلاث مرات.
[609]:كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعون إنسانا: رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (3470) ومسلم في التوبة(2766) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا ثم خرج يسأل فأتى راهبا فسأله فقال له: هل من توبة ؟ قال: لا، فقتله فجعل يسأل فقال له رجل: ائت قرية كذا وكذا فأدركه الموت فناء بصدره نحوها فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله إلى هذه أن تقربي وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وقال: قيسوا ما بينهما فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له "
 
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{۞قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (53)

{ قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } أي أفرطوا في المعاصي جانين عليها ، وأصل الإسراف الإفراط في صرف المال ثم استعمل فيما ذكر مجازاً بمرتبتين على ما قيل ، وقال الراغب : هو تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر وهذا ظاهر في أنه حقيقة فيما ذكرنا وهو حسن .

وضمن معنى الجناية ليصح تعديه بعلى والمضمن لا يلزم فيه أن يكون معناه حقيقياً ، وقيل : هو مضمن معنى الحمل ، وحمل غير واحد الإضافة في { عِبَادِى } على العهد أو على التشريف ، وذهبوا إلى أن المراد بالعباد المؤمنون وقد غلب استعماله فيهم مضافاً إليه عز وجل في القرآن العظيم فكأنه قيل : أيها المؤمنون المذنبون { لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } أي لا تيأسوا من مغفرته سبحانه وتفضله عز وجل على أن المغفرة مدرجة في الرحمة أو أن الرحمة مستلزمة لها لأنه لا يتصور الرحمة لمن لم يغفر له ، وتعليل النهي بقوله تعالى :

{ إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } يقتضي دخولها في المعلل ، والتذييل بقوله سبحانه : { إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } كالصريح في ذلك ، وجوز أن يكون في الكلام صنعة الاحتباك كأنه قيل : لا تقنطوا من رحمة الله ومغفرته إن الله يغفر الذنوب جميعاً ويرحم ، وفيه بعد ، وقالوا : المراد بمغفرة الذنوب التجافي عنها وعدم المؤاخذة بها في الظاهر والباطن وهو المراد بسترها ، وقيل : المراد بها محوها من الصحائف بالكلية مع التجافي عنها وأن الظاهر إطلاق الحكم وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر كيف لا وقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 ] ظاهر في الإطلاق فيما عدا الشرك ، ويشهد للإطلاق أيضاً أمور ، الأول : نداؤهم بعنوان العبودية فإنها تقتضي المذلة وهي أنسب بحال العاصي إذا لم يتب واقتضاؤها للترحم ظاهر . الثاني : الاختصاص الذي تشعر به الإضافة إلى ضميره تعالى فإن السيد من شأنه أن يرحم عبده ويشفق عليه . الثالث : تخصيص ضرر الإسراف المشعرة به { على } بأنفسهم فكأنه قيل : ضرر الذنوب عائد عليهم لا علي فيكفي ذلك من غير ضرر آخر كما في المثل أحسن إلى من أساء كفى المسيء إساءته ، فالعبد إذا أساء ووقف بين يدي سيده ذليلاً خائفاً عالماً بسخط سيده عليه ناظراً لإكرام غيره ممن أطاع لحقه ضرر إذ استحقاق العقاب عقاب عند ذوي الألباب .

الرابع : النهي عن القنوط مطلقاً عن الرحمة فضلاً عن المغفرة وإطلاقها . الخامس : إضافة الرحمة إلى الاسم الجليل المحتوي على جميع معاني الأسماء على طريق الالتفات فإن ذلك ظاهر في سعتها وهو ظاهر في شمولها التائب وغيره .

السادس : التعليل بقوله تعالى : { إِنَّ الله } الخ فإن التعليل يحسن مع الاستبعاد وترك القنوط من الرحمة مع عدم التوبة أكثر استبعاداً من تركه مع التوبة . السابع : وضع الاسم الجليل فيه موضع الضمير لإشعاره بأن المغفرة من مقتضيات ذاته لا لشيء آخر من توبة أو غيرها . الثامن : تعريف الذنوب فإنه في مقام التمدح ظاهر في الاستغراق فتشمل الذنب الذي يعقبه التوبة والذي لا تعقبه . التاسع : التأكيد بالجميع . العاشر : التعليل بأنه هو الخ . الحادي عشر : التعبير بالغفور فإنه صيغة مبالغة وهي إن كانت باعتبار الكم شملت المغفرة جميع الذنوب أو باعتبار الكيف شملت الكبائر بدون توبة . الثاني عشر : حذف معمول { الغفور } فإن حذف المعمول يفيد العموم . الثالث عشر : إفادة الجملة الحصر فإن من المعلوم أن الغفران قد يوصف به غيره تعالى فالمحصور فيه سبحانه إنما هو الكامل العظيم وهو ما يكون بلا توبة . الرابع عشر : المبالغة في ذلك الحصر .

الخامس عشر : الوعد بالرحمة بعد المغفرة فإنه مشعر بأن العبد غير مستحق للمغفرة لولا رحمته وهو ظاهر فيما إذا لم يتب . السادس عشر : التعبير بصيغة المبالغة فيها . السابع عشر : إطلاقها ، ومنع المعتزلة مغفرة الكبائر والعفو عنها من غير توبة وقالوا : إنها وردت في غير موضع من القرآن الكريم مقيدة بالتوبة فإطلاقها هنا يحمل على التقييد لاتحاد الواقعة وعدم احتمال النسخ ، وكون القرآن في حكم كلام واحد

وأيدوا ذلك بقوله تعالى : { وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ يَأْتِيَكُمُ العذاب ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } فإنه عطف على { لا تقنطوا }