تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ} (4)

4

المفردات :

فضرب الرقاب : أصله : اضربوا الرقاب ضربا ، فحذف الفعل ، وقدم المصدر .

أثخنتموهم : أكثرتم قتلهم وأغلظتموه ، أي جعلتموه ثخينا غليظا .

فشدوا الوثاق : فأسروهم ، وأحكموا قيد من أسرتموهم ، بعد إثخانهم بكثرة القتل وإضعافهم بالجراح ، والوَثاق والوِثاق : ما يوثق به ، أي : ما يربط به .

المن : إطلاق الأسير بغير عوض .

والفداء : إطلاق الأسير بعوض .

حتى تضع الحرب أوزارها : آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح ، وهو كناية عن انتهاء الحرب .

لانتصر منهم : لانتقم منهم بغير الحرب كالزلزلة .

ليبلو : ليبتلي ويصيب .

فلم يضل أعمالهم : فلن يضيعها .

التفسير :

4- { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } .

تشجع الآية المسلمين على الجهاد ، والقوة عند الحرب مع المشركين ، وأهل الكتاب المعتدين .

والمعنى :

إذا لقيتم الكافرين في الحرب فاحصدوهم حصدا ، واضربوا رقابهم ضربا قاتلا بالسيف ، حتى إذا تمكنتم منهم ، وأكثرتم فيهم القتل والجراح واستسلموا لكم .

{ فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها . . . }

أي : إحكام وثاق الأسرى حتى لا يفلتوا من أيديكم ولا يهربوا ، والإمام مفوض في اتخاذ الحل الأمثل والأنسب ، فله أن يمن عليهم ويطلق سراحهم بدون فداء وله أن يأخذ الفداء من الأسرى ، أو يبادلهم بأسرى المسلمين ، ونلاحظ أن قتل الكافرين مقيد بفترة الحرب ، فإذا انتهت الحرب ووقع جانب منهم في الأسر فلا يجوز أن يقتل الأسير .

أخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، عن الحسن ، قال : أُتي الحجاج بأُسارى ، فدفع إلى ابن عمر رجلا يقتله ، فقال ابن عمر : ليس بهذا أُمرنا ، إنما قال الله تعالى : { حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء . . . }

ومن ذلك نلمح روح الإسلام في الحرص على السلام ، فالحرب في الإسلام ضرورة لوقف العدوان ، وإزالة طواغيت الكفر ، ثم ترك الناس أحرار في عقيدتهم .

قال تعالى : { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي . . . } ( البقرة : 256 ) .

وقال عز شأنه : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله . . . } ( الأنفال : 61 ) .

{ حتى تضع الحرب أوزارها . . . }

حتى تنتهي الحرب ، وبعد الحرب أحكام يجب احترامها ، ومعاهدات يجب المحافظة عليها .

{ ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض . . . }

أي : ذلك هو الحكم في قتال الكافرين ، والغلظة والشدة في حربهم ، ولو أراد الله لانتصر منهم ، بإهلاكهم وتعذيبهم بما شاء من أنواع العذاب ، كالخسف والرجفة والغرق ، دون قتال منكم أيها المؤمنون ، لكن الله تعالى أراد امتحان المؤمنين وابتلاءهم بإيجاب القتال عليهم ، حتى يرى منهم امتثال أوامره ، والرغبة في الشهادة ، واحتمال الجهاد والقتال والجراح والآلام .

قال تعالى : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } . ( البقرة : 216 ) .

فالله تعالى يريد إعداد المؤمنين ، وخلق روح الكفاح والقتال فيهم ، وفي غزوة بدر رغب بعض المؤمنين في الاستيلاء على تجارة قريش عوضا عن أموالهم التي اغتصبها الكفار بمكة ، وأراد الله أن يجعل من بدر ملحمة ، حتى يحق الحق وينصر الإسلام ، بسبب بطولة المسلمين وجهادهم وبلائهم .

قال تعالى : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * وليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون } . ( الأنفال : 7 ، 8 ) .

{ والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم } .

إن هؤلاء الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم وأنفسهم ، وجادوا بها لنصر دين الله ، هؤلاء لن يذهب عملهم سدى ، ولن يضيع عملهم ولن يحبط ، ولن يفقد ثوابه وجزاءه ، وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين )3 .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ} (4)

قوله تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } نصب على الإغراء ، أي : فاضربوا رقابهم يعني أعناقهم . { حتى إذا أثخنتموهم } بالغتم في القتل وقهرتموهم ، { فشدوا الوثاق } يعني في الأسر حتى لا يفلتوا منكم ، والأسر يكون بعد المبالغة في القتل ، كما قال : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } ( الأنفال-67 ) ، { فإما مناً بعد وإما فداءً } يعني : بعد أن تأسروهم فإما أن تمنوا عليهم مناً بإطلاقهم من غير عوض ، وإما أن تفادوهم فداء . واختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فقال قوم : هي منسوخة بقوله : { فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم }( الأنفال-57 ) ، وبقوله : { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ( التوبة-5 ) وإلى هذا القول ذهب قتادة والضحاك والسدي وابن جريج ، وهو قول الأوزاعي وأصحاب الرأي ، قالوا : لا يجوز المن على من وقع في الأسر من الكفار ولا الفداء . وذهب آخرون إلى أن الآية محكمة ، والإمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا وقعوا في الأسر بين أن يقتلهم أو يسترقهم أو يمن عليهم ، فيطلقهم بلا عوض أو يفاديهم بالمال ، أو بأسارى المسلمين ، وإليه ذهب ابن عمر ، وبه قال الحسن ، وعطاء ، وأكثر الصحابة والعلماء ، وهو قول الثوري والشافعي ، وأحمد وإسحاق . قال ابن عباس : لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل الله عز وجل في الأسارى : { فإما مناً بعد وإما فداء } وهذا هو الأصح والاختيار ، لأنه عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سعيد بن أبي سعيد سمع أبا هريرة قال : " بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له : ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة ، فربطوه بسارية من سواري المسجد ، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ماذا عندك يا ثمامة ؟ فقال : عندي يا محمد خير إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت ، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان الغد ، فقال له : ما عندك يا ثمامة ؟ فقال : ما عندي إلا ما قلت لك : إن تنعم تنعم على شاكر ، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد ، فقال له : ما عندك يا ثمامة ؟ فقال : عندي ما قلت لك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أطلقوا ثمامة ، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ، ثم دخل المسجد ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي ، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك ، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي ، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة ، فماذا ترى ؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر ، فلما قدم مكة قال له قائل : أصبوت ؟ فقال : لا ، ولكن أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم " .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، حدثنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ، عن أيوب ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن حصين قال : " أسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني عقيل فأوثقوه ، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ففداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف " . قوله تعالى : { حتى تضع الحرب أوزارها } أي : أثقالها وأحمالها ، يعني حتى يضع أهل الحرب السلاح ، فيمسكوا عن الحرب . وأصل الوزر : ما يحمله الإنسان ، فسمى الأسلحة أوزاراً لأنها تحمل . وقيل : الحرب هم المحاربون ، كالشرب والركب . وقيل : الأوزار الآثام ، ومعناه حتى يضع المحاربون آثامها ، بأن يتوبوا من كفرهم فيؤمنوا بالله ورسوله . وقيل : حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين وقبائح أعمالهم بأن يسلموا ، ومعنى الآية : أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يدخل أهل الملل كلها في الإسلام ، ويكون الدين كله لله فلا يكون بعده جهاد ولا قتال ، وذلك عند نزول عيسى بن مريم عليهما السلام ، وجاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال " . وقال الكلبي : حتى يسلموا أو يسالموا . وقال الفراء : حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم . { ذلك } الذي ذكرت وبينت من حكم الكفار ، { ولو يشاء الله لانتصر منهم } فأهلكهم كفاكم أمرهم بغير قتال ، { ولكن } أمركم بالقتال ، { ليبلو بعضكم ببعض } فيصير من قتل من المؤمنين إلى الثواب ومن قتل من الكفار إلى العذاب ، { والذين قتلوا في سبيل الله } قرأ أهل البصرة وحفص : ( قتلوا ) بضم القاف وكسر التاء خفيف ، يعني الشهداء ، وقرأ الآخرون : ( قاتلوا ) بالألف من المقاتلة ، وهم المجاهدون ، { فلن يضل أعمالهم } قال قتادة : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد ، وقد فشت في المسلمين الجراحات والقتل .

 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ} (4)

{ فضرب الرقاب } أصله فاضربوا الرقاب ضربا ثم حذف الفعل وأقام المصدر مقامه والمراد اقتلوهم ولكن عبر عنه بضرب الرقاب لأنه الغالب في صفة القتل .

{ حتى إذا أثخنتموهم } أي : هزمتموهم والإثخان أن يكثر فيهم القتل والأسر

{ فشدوا الوثاق } عبارة عن الأسر .

{ فإما منا بعد وإما فداء } المن العتق والفداء فك الأسير بمال وهما جائزان فإن مذهب مالك أن الإمام مخير في الأسارى بين خمسة أشياء وهي المن والفداء والقتل والاسترقاق وضرب الجزية وقيل : لا يجوز المن ولا الفداء لأن الآية منسوخة بقوله : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] فلا يجوز على هذا إلا قتلهم والصحيح أنها محكمة وانتصب منا وفداء على المصدرية والعامل فيهما فعلان مضمران .

{ حتى تضع الحرب أوزارها } الأوزار في اللغة الأثقال فالمعنى : حتى تذهب وتزول أثقالها وهي آلاتها وقيل : الأوزار الآثام لأن الحرب لابد أن يكون فيها إثم في أحد الجانبين واختلف في الغاية المرادة هنا فقيل : حتى يسلم الجميع فحينئذ تضع الحرب أوزارها وقيل : حتى تقتلوهم وتغلبوهم وقيل : حتى ينزل عيسى ابن مريم قال ابن عطية : ظاهر اللفظ أنها استعارة يراد بها التزام الأمر أبدا كما تقول أنا فاعل ذلك إلى يوم القيامة .

{ ذلك } تقديره : الأمر ذلك .

{ ولو يشاء الله لانتصر منهم } أو لو شاء الله لأهلك الكفار بعذاب من عنده ولكنه تعالى أراد اختبار المؤمنين وأن يبلو بعض الناس ببعض .