( سورة قريش مكية ، وآياتها 4 آيات ، نزلت بعد سورة التين )
وهي امتداد لسورة الفيل ، فقد حفظ الله هذا البيت من كيد المعتدين ، ( وكان لحادث الفيل أثر مضاعف في زيادة حرمة البيت عند العرب في جميع أنحاء الجزيرة ، وزيادة مكانة أهله وسدنته من قريش ، مما ساعدهم على أن يسيروا في الأرض آمنين ، حيثما حلّوا وجدوا الكرامة والرعاية . وشجعهم ذلك على إنشاء خطين عظيمين من خطوط التجارة –عن طريق القوافل- إلى اليمن في الجنوب ، وإلى الشام في الشمال ، وإلى تنظيم رحلتين تجاريتين ضخمتين : إحداهما إلى اليمن في الشتاء ، والثانية إلى الشام في الصيف ) . i .
وكانت حالة الأمن مضطربة في شعاب الجزيرة ، يفتخر الناس فيها بالصعلكة والسلب والإغارة والنهب ، ويعتدون على قوافل التجارة ، إن أن حرمة البيت في أنحاء الجزيرة قد كفلت لجيرانه الأمن والسلامة ، وجعلت لقريش منزلة ظاهرة بين العرب ، وفتحت أمامها أبواب الرزق الواسع المكفول في أمان وسلامة وطمأنينة ، وألفت نفوسهم هاتين الرحلتين الآمنتين الرابحتين ، فصارتا لهم عادة وإلفا . وقد امتن الله على قريش بحادثة الفيل وحماية البيت ، وامتن عليهم بالأمان والحماية لهم ، وسعة الرزق ورغد العيش من ربح التجارة ، وبلادهم قفرة جفرة وهم طامعون هانئون من فضل الله .
لإيلاف قريش* إيلافهم رحلة الشتاء والصيف* فليعبدوا ربّ هذا البيت* الذي أطعمهم من جوع وآمنهن من خوف .
المعنى : ألفت قريش واعتادت ، أن ترحل إلى ما جاورها من البلاد ، سعيا وراء الرزق ، وجلبا لمعايشهم ، وترويجا لتجارتهم .
والله سبحانه يمتن عليهم بذلك ، ويقول لهم : من أجل إيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف ، فليعبدوا رب هذا البيت ، الذي كفل لهم الأمن فجعل نفوسهم تألف الرحلة ، وتنال من ورائها ما تنال .
فليعبدوا ربّ هذا البيت* الذي أطعمهم من جوع . . . وأنقذهم من الجماعات التي تنزل بهم وبأمثالهم من سكان البراري ، وآمنهم من خوف . العدو ، أو كوارث الحياة . وكان الأصل بحسب ما هم فيه من ضعف ، وبحسب حالة البيئة أن يكونوا في خوف ، فآمنهم من هذا الخوف .
فليشكر قومك يا محمد ربهم على هذه النعم ، وليؤمنوا بربوبيته ، وليقرّوا بعبوديتهم ، وليعبدوه بما هو أهل له من العبادة .
وقريب من هذه السورة قوله تعالى : أو لم نمكّن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون . ( القصص : 57 ) .
1- من نعمة الله على قريش أن منحهم الهيبة والأمان فألفوا رحلة الشتاء والصيف .
2- من الواجب أن يعترفوا بفضل الله عليهم في حماية بيته ، وحماية تجارتهم .
3- يجب عليهم أن يعبدوا ربهم ، وأن يستجيبوا لدعوة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فإنه رسول رب العالمين .
{ لإيلاف قريش 1 إيلافهم رحلة الشتاء والصيف 2 فليعبدوا ربّ هذا البيت 3 الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف 4 }
لإيلاف قريش : إلاف الشيء وإلفه : لزومه والعكوف عليه ، وقريش للقبائل العربية من ولد النضر بن كنانة ، وأصل الكلمة تصغير للقرش ، وهو نوع من السمك مشهور ، ويمتاز بقوته على سائر الأسماك ، كما امتازت قريش على سائر القبائل بخدمة البيت الحرام .
لقد ألفت قريش أن تخرج إلى الشام عند شدة الحرارة في فصل الصيف ، لتبيع وتشتري الحبوب الزراعية ، وأن ترحل إلى اليمن جنوبا في فصل الشتاء ، لجلب العطور والبهارات الآتية من الهند والخليج ، واليمن بلاد حارة تناسب فصل الشتاء .
إلفهم الخروج إلى الشام في تجارتهم ، وكانت لهم خرجتان : خرجة في الشتاء ، وخرجة في الصيف ، والعرب تقول : ألفت الشيء إلفا ، وألفته إيلافا ، أي : أحببته واسترحت إليه . اه .
ومنه قوله تعالى : وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألّفت بين قلوبهم ولكن الله ألّف بينهم إنه عزيز حكيم . ( الأنفال : 63 ) .
لما كان ما فعله سبحانه - من منع هذا الجيش العظيم - الذي من قوته طاعة أكبر ما خلق الله من الحيوان البري فيما نعلمه له - من دخول الحرم الذي هو مظهر قدرته ، ومحل عظمته الباهرة ، وعزته ، والمذكر بخليله عليه الصلاة والسلام ، وما كان من الوفاء بعظيم خلته - كرامة لقريش عظيمة ظاهرة عاجلة ، حماية لهم عن أن تستباح ديارهم ، وتسبى ذراريهم ، لكونهم أولاد خليله ، وخدام بيته ، وقطان حرمه ، ومتعززين به ، ومنقطعين إليه ، وعن أن يخرب موطن عزهم ، ومحل أمنهم وعيشهم وحرزهم ، ذكرهم سبحانه وتعالى ما فيه من النعمة الآجلة إكراماً ثانياً بالنظر في العاقبة ، فقال مشيراً إلى أن من تعاظم عليه قصمه ، ومن ذل له وخدمه أكرمه وعظمه : { لإيلاف قريش * } أي لهذا الأمر لا غيره فعلنا ذلك ، وهو إيقاعهم الإيلاف ، وهو ألفهم لبلدهم الذي ينشأ عنه طمأنينتهم ، وهيبة الناس لهم ، وذلك ملزوم لألفهم أولاً في أنفسهم ، فإذا كان لهم الألف بحرمهم بما حصل لهم من العز والمكنة به بما دافع عنهم فيه مع ما له من بعد الآفات عنه ، وكان لهم الألف بينهم ، فكان بعضهم يألف بعضاً ، قوي أمرهم فألفوا غيرهم ، أي جعلوه يألف ما ألفوه إياه ، أي سنوه له وأمروه به ، أو يكون اللام متعلقاً بفعل العبادة بدلالة { فليعبدوا } أي ليعبدونا لأجل ما أوقعنا من ألفهم وإيلافهم ، وعلى التقديرين الألف علة للعبادة ، أو لما يوجب الشكر بالعبادة ، وفي هذا إشارة إلى تمام قدرته سبحانه وتعالى ، وأنه إذا أراد شيئاً يسر سببه ؛ لأن التدبير كله له يخفض من يشاء وإن عز ، ويرفع من يشاء وإن ذل ، ليثمر اعتقاد ذلك حبه ، والانقطاع لعبادته ، والاعتماد عليه في كل نفع ودفع ، وقريش ولد النضر بن كنانة ، واسمهم واسم قبيلتهم مشتق من القرش والتقرش وهو التكسب والجمع ، يقال : فلان يقرش لعياله ويقترش أي يكتسب ، وقال البغوي : وقال أبو ريحانة : سأل معاوية ابن عباس رضي الله عنهما : لم سموا بهذا ؟ فقال : لدابة تكون في البحر هي أعظم دوابه ، يقال لها : القرش ، لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته ، وهي تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلى ، قال : وهل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟ قال : نعم ، وأنشد للجمحي :
وقريش هي التي تسكن البح ***ر بها سميت قريش قريشا
سلطت بالعلو في لجة البح ***ر على سائر الجيوش جيوشا
وقال الزمخشري : هي دابة عظيمة تعبث بالسفن ولا تطاق إلا بالنار ، والتصغير للتعظيم ، انتهى . وقيل : سموا بذلك لتجمعهم إلى الحرم بعد تفرقهم ، فإن القرش - كما تقدم - الجمع ، وكان المجمع لهم قصياً ، والقرش أيضاً الشديد ، وقيل : هو من تقرش الرجل ، إذا تنزه عن مدانيس الأمور ، ومن تقارشت الرماح في الحرب ، إذا دخل بعضها في بعض .
والمادة كلها للشدة والاختلاط ، والتعبير بهذا الاسم لمدحهم . وكما أجرى سبحانه وتعالى مدحهم على الألسنة جعلهم موضعاً للمدح ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم " . وقال صلى الله عليه وسلم : " الأئمة من قريش " . قال العلماء : وذلك أن طيب العنصر يؤدي إلى محاسن الأخلاق ، ومحاسن الأخلاق تؤدي إلى صفاء القلب ، وصفاء القلب عون على إدراك العلوم ، وبإدراك العلوم تنال الدرجات العلا في الدنيا والآخرة . وصرف الاسم هنا على معنى الحي ليكون الاسم بمادته دالاًّ على الجمع ، وبصرفه دالاًّ على الحياة إشارة إلى كمال حياتهم ظاهراً وباطناً ، قال سيبويه في معد وقريش وثقيف : صرف هذه الأحياء أكثر ، وإن جعلتها اسماً للقبائل - يعني فمنعتها - فجائز حسن ، والذي يدل على تعلق اللام بفعل دلت عليه ( الفيل ) أن السورتين في مصحف أبيّ رضي الله عنه سورة واحدة من غير فصل ، وأن عبد الرزاق وابن أبي شيبة رويا عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال : صلى بنا عمر رضي الله عنه المغرب فقرأ في الأولى ب( التين والزيتون ) ، وفي الثانية ( ألم تر كيف ) و( لإيلاف قريش ) .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لا خفاء في اتصالهما ، أي أنه سبحانه وتعالى فعل ذلك بأصحاب الفيل ، ومنعهم عن بيته وحرمه لانتظام شمل قريش ، وهم سكان الحرم ، وقطان بيت الله الحرام ، وليؤلفهم بهاتين الرحلتين ، فيقيموا بمكة ، وتأمن ساحتهم . انتهى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.