لا يرجون أيام الله : لا يتوقعون وقائعه بأعدائه ونقمته عليهم .
ليجزي قوما : ليكافئ المؤمنين الغافرين .
14- { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون } .
هذه السورة مكية ، وكان عدد المسلمين في مكة مائتي رجل وامرأة ، فأمرهم الله بالصبر والاحتمال في فترة الضعف ، ثم لما استمر عناد المشركين ، وقوى عود المسلمين ، أمرهم الله بالجهاد والجلاد في المدينة .
وليس هذا من النسخ ولكنه من باب التدرج في التشريع ، فكلما كان المسلمون ضعافا أمروا بالصبر والاحتمال ، وكلما كانوا أقوياء أمروا بالجهاد ، وقد تعددت أقوال العلماء في سبب نزول هذه الآية ، فقيل : إنها نزلت في عمر بن الخطاب ، شتمه مشرك من غفار بمكة قبل الهجرة ، فهم أن يبطش به ، فنزلت هذه الآية .
وروى الواحدي والقشيري عن ابن عباس :
أن الآية نزلت في عمر بن الخطاب مع عبد الله بن أبي ، في غزوة بني المصطلق ، فإنهم نزلوا على بئر يقال لها : المُرَيْسِيع ، فأرسل عبد الله غلامه ليسقي فأبطأ عليه ، فقال : ما حسبك ؟ قال : غلام عمر قعد على فم البئر ، فما ترك أحدا يسقي حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقرب أبي بكر ، وملأ لمولاه ، فقال عبد الله : ما مثلنا ومثل هؤلاء ، إلا كما قيل : ( سمن كلبك يأكلك ) فبلغ عمر قوله ، فاشتمل على سيفه يريد التوجه إليه ليقتله ، فأنزل الله هذه الآية ، وقيل غير ذلك في سبب نزولها ، لكن العبرة في الآية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فهي دعوة عامة للمؤمنين أن يصفحوا ويغفروا ، ويسامحوا هؤلاء المشركين الذين لا يتوقعون وقائع الله تعالى ، ولا يخافون نقمته عليهم لكفرهم ، كما انتقم الله منهم في بدر وأمثالها ، وكما ينتقم منهم يوم القيامة ، فيجزيهم على قبيح أفعالهم عند الحساب والجزاء ، فالجزاء عادل يوم القيامة .
ولما علمت دلائل التوحيد على وجه علم منه أنه قد بسط نعمه على جميع خلقه طائعهم وعاصيهم ، فعلمت بواسطة ذلك الأخلاق الفاضلة والأفعال الحميدة ، وكان على المقبل عليه المحب له-{[58009]} التخلق بأوصافه ، أنتج قوله مخاطباً لأفهم خلقه عنه وأطوعهم له الذي الأوامر إنما هي له من شدة طواعته تكوين لا تكليف{[58010]} : { قل } أي بقالك وحالك { للذين آمنوا } أي ادعوا التصديق بكل ما جاءهم من الله : اغفروا تسنناً{[58011]} به من أساء إليكم . ولما كان هذا الأمر في الذروة من اقتضاء الإحسان إلى المسيء فكيف بالصفح عنه ، كان كأنه علة مستقلة في الإقبال عليه والقبول منه والإعراض عن مؤاخذة المسيء ، فإن ذلك يقدح في كمال الإقبال عليه مع أن من كان يريد هو سبحانه الانتقام منه فهو يكفي أمره ، ومن{[58012]} لم يرد ذلك منه فلا{[58013]} حيلة في كفه بوجه فالاشتغال{[58014]} به عبث فنبه على ذلك بأن جعل جواب الأمر قوله : { يغفروا } أي يستروا ستراً بالغاً .
ولما كان العاقل من سعى جهده في نفع نفسه ، وكان الأذى لعباد الله مظنة لتوقع الغضب منه وقادحاً فيما يرجى من إحسانه قال : { للذين } وعبر في موضع { أساؤوا إليهم } بقوله تعالى : { لا يرجون } أي حقيقة ومجازاً ، والتعبير في موضع الخوف بالرجاء لما فيه من الاستجلاب والترغيب والتأليف والاستعطاف ، وقال بعد ما نبه عليه-{[58015]} بتلك العبارة من جليل الإشارة : { أيام الله } أي مثل وقائع الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال في{[58016]} الأمم الخالية بإدالة الدول تارة لهم وأخرى عليهم ، وفيه أعظم ترغيب{[58017]} في الحث على الغفران للموافق{[58018]} في الدين ، وتنبيه على أنه لا يقدم على الإساءة إلى{[58019]} عبيده إلا من أعرض عنه ، فصار حاله حال الآئس من صنائعه{[58020]} سبحانه في جزائه للمسيء والمحسن في الأيام والليالي ، وعبر بالاسم الشريف تنبيهاً على ما له من الجلال والجمال في معاملة كل منهما ، قال ابن-{[58021]} برجان : وهذه الآية وشبهها من النسي المذكور في قوله تعالى
{ ما ننسخ من آية أو ننسها{[58022]} }[ البقرة : 106 ] وليس بنسخ بل هو حكم يجيء{[58023]} ويذهب بحسب القدرة على الانتصار ، وكان ينزل مثل هذا بمكة والمسلمون في ضعف ، ونزل بعد الهجرة آية الجهاد والأمر بالمعروف ، وتركت{[58024]} هذه وأمثالها مسطورة في القرآن{[58025]} لما عسى أن يدور من دوائر أيام الله ومن أيامه إزالة أهل الكفر تنبيهاً للمسلمين ليراجعوا أمرهم ويصلحوا ما بينهم وبين ربهم{[58026]} .
ولما كان من قوصص على جنايته في الدنيا ، سقط {[58027]}عنه أمرها{[58028]} في الآخرة ، وكان المسلط للجاني في الحقيقة إنما هو الله تعالى وكان تسليطه إياه لحكم بالغة تظهر غاية الظهور في الآخرة ، علل الأمر بالغفران مهدداً{[58029]} للجاني ومسلياً للمجني عليه : { ليجزي } أي الله في قراءة الجماعة{[58030]} بالتحتانية والبناء للفاعل ، ونحن بما لنا من العظمة في قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي بالنون ، وبناه أبو جعفر للمفعول فيكون النائب عن الفاعل الخير أو الشر{[58031]} بتقدير حرف الجر لجزائهم في الدنيا وفي الآخرة حيث يظهر الحكم وينجلي الظلم .
ولما كان ربما جوزي جميع الجناة ، وربما عفي عن بعضهم بالتوبة عليه أو غيرها تفضلاً لحكم أخرى ويثاب المظلوم على ظلامته لمثل{[58032]} ذلك قال : { قوماً } أي من الجناة وإن كانوا في غاية العلو الكبرياء{[58033]} والجبروت ومن المجني عليهم وإن كانوا في غاية الضعف { بما } أي بسبب الذي { كانوا } أي في جبلاتهم وأبرزوه إلى الخارج { يكسبون * } أي يفعلون على ظن أنه ينفعهم أو بسبب كسبهم من خير أو شر ، والحاصل أنه تعالى يقول : أعرض عمن ظلمك ، وكل أمره إليّ فإني لا أظلمك {[58034]}ولا أظلم{[58035]} أحداً ، فسوف أجزيك على صبرك ، أجزيه على بغيه وأنا قادر ، وأفادت قراءة أبي جعفر{[58036]} الإبلاغ في تعظيم الفاعل و-{[58037]} أنه معلوم ، وتعظيم ما أقيم مقامه وهو الجزاء بجعله عمدة مسنداً إليه ؛ لأن عظمته على حسب ما أقيم مقامه ، فالتقدير لكون الفعل يتعدى إلى مفعولين كما قال تعالى ( وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً }[ الدهر : 12 ] ليجزي الملك الأعظم الجزاء الأعظم من الخير للمؤمن والشر للكافر قوماً ، فجعل الجزاء كالفاعل وإن-{[58038]} كان مفعولاً كما جعل " زيد " فاعلاً في مات زيد وإن كان مفعولاً في المعنى : تنبيهاً على عظيم تأثير الفعل فإنه لا انفكاك عنه ؛ لأنه يجعل متمكناً من المجزي تمكن المجزي-{[58039]} من جزائه ومحيصاً به ؛ لأن الله تعالى{[58040]} بعظيم قدرته يجعل عمل الإنسان نفسه جزاء له ، قال الله تعالى{ سيجزيهم وصفهم }[ الأنعام : 139 ] بما{[58041]} كانوا يعملون ، ويجوز أن يكون النائب عن الفاعل ضمير " الذين " بالنظر إلى لفظه فيكون المعنى : سيجزي الذين آمنوا ناساً كانوا أقوياء على القيام في أذاهم بسبب أذاهم لهم-{[58042]} فيجعل كلاًّ{[58043]} منهم فداء لكل منهم من النار ، وربما{[58044]} رأوا بعض آثار ذلك في الدنيا . روى مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً{[58045]} بعفو إلا عزاً ، وما تواضع أحد إلا رفعه الله عز وجل " ولأحمد والترمذي واللفظ له وقال حسن صحيح{[58046]} عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه : ما نقص مال عبد{[58047]} من صدقة ، وما ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزاً ، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله باب فقر " - أو كلمة نحوها ، وروى الحاكم وصحح إسناده ، قال المنذري : وفيه انقطاع عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : " من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه ويعط من حرمه ويصل من قطعه{[58048]} " .