( سورة القدر مكية ، وآياتها 5 آيات ، نزلت بعد سورة عبس )
والحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة ، التي سجلها الوجود كله ، في فرح وغبطة وابتهال ، ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى ، ليلة بدء نزول القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم . ليلة ذلك الحديث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته وفي دلالته ، وفي آثاره في حياة البشرية ، جميعا ، العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري .
وهي ليلة نزل فيها القرآن ذو قدر ، على نبي ذي قدر ، لأمة ذات قدر .
هي ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك ، قال تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . . . ( البقرة : 185 ) .
وقد وردت في تعيين هذه الليلة آثار كثيرة ، منها ما ورد في البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إني رأيت ليلة القدر ثم نسّيتها و أنسيتها ، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان )i .
ويتوقع طلبها في أوتار الليالي العشر الأواخر ، أي : 21 ، 23 ، 25 ، 27 ، 29 ، وفي كثير من الروايات أنها ليلة 27 من رمضان .
وعظمة هذه الليلة مستمدة من نزول القرآن الكريم فيها ، ذلك الكتاب الخالد الذي وصل الأرض بالسماء ، وكان هديه رب العباد للعباد ، وكان النور والهدى ، والسلامة والسلام للخلق أجمعين .
1- إنّا أنزلناه في ليلة القدر . نزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا جملة واحدة ، ثم نزل منجما على ثلاث وعشرين سنة ، وبدأ الإنزال في ليلة مقدرة لها شرفها عند الله ، وزادها شرفا بدء نزول القرآن فيها .
2- وما أدراك ما ليلة القدر . إن شأنها لعظيم عظمة لا تقدر ، ففيها فاض النور على الوجود كله ، وأسبغ الله فيها السلام والبشرى على البشرية بما تضمنه هذا القرآن من عقيدة وتصور ، وشريعة وآداب ، تشيع السلام في الأرض والضمير .
3- ليلة القدر خير من ألف شهر . أي هي –بما نزل فيها من ذكر وقرآن وهداية- أفضل من ألف شهر من شهور الجاهلية ، أو العبادة والعمل الصالح فيها أفضل من العبادة في ألف شهر .
روي عن مجاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ، فتعجب المسلمون من ذلك ، فأنزل الله عز وجل : إنّا أنزلناه في ليلة القدر* وما أدراك ما ليلة القدر* ليلة القدر خير من ألف شهر .
4- تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر . تنزل الملائكة وجبريل الأمين في هذه الليلة بالسلام والأمان والرحمة لعباد الله ، وتنزل بأمر الله وتقديره ، من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى عام قابل .
5- سلام هي حتى مطلع الفجر . هي سلام وأمان ، وثواب موصول ، وعبادة مضاعفة الثواب إلى طلوع الفجر .
وفي الصحيحين : ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) .
فهي ليلة التجرد والإخلاص لله ، ليلة نزول القرآن ، وعبادة الرحمان ، ليلة تغمر الملائكة الأرض بالسلام والأمان من غروب الشمس إلى طلوع الفجر .
{ إنّا أنزلناه في ليلة القدر 1 وما أدراك ما ليلة القدر 2 ليلة القدر خير من ألف شهر 3 تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر 4 سلام هي حتى مطلع الفجر 5 }
ليلة القدر : القدر : الشرف والقيمة والمقام .
1- إنّا أنزلناه في ليلة القدر .
أنزل الله تعالى هذا القرآن الكريم من علياء السماء في ليلة مباركة ، هي ليلة القدر .
قال تعالى : إنّا أنزلناه في ليلة مباركة إنّا كنا منذرين . ( الدخان : 3 ) .
وقد أضاف الحق سبحانه وتعالى إنزال القرآن الكريم إليه سبحانه تشريفا لهذا الكتاب ، وتأكيدا لصدق محمد صلى الله عليه وسلم حين يبلّغ عن ربه ، وأنه حقا من عند الله .
قال تعالى : وبالحق أنزلناه وبالحق نزل . . . ( الإسراء : 105 ) .
وسميت بلية القدر لأن القدر يطلق على الشّرف والرفعة ، تقول : فلان ذو قدر ، أي : ذو منزلة عالية وقدر عظيم ، وأيضا لأنه نزل فيها قرآن ذو قدر ، على نبيّ قدر ، لأمة ذات قدر .
وللقرآن الكريم ثلاثة تنزّلات :
التنزل الأول : من عند الله تعالى إلى اللوح المحفوظ في السماء السابعة .
قال تعالى : بل هو قرآن مجيد* في لوح محفوظ . ( البروج : 21 ، 22 ) .
التنزل الثاني : من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، جملة واحدة في ليلة القدر .
قال تعالى : إنّا أنزلناه في ليلة القدر .
التنزل الثالث : من بيت العزة في السماء الدنيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم منجّما حسب الوقائع والحوادث في خلال ثلاثة وعشرين عاما .
قال تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزّلناه تنزيلا . ( الإسراء : 106 ) .
وقال تعالى : وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبّت به فؤادك ورتّلناه ترتيلا* ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا . ( الفرقان : 32 ، 33 ) .
والسر في تكرار نزول القرآن الكريم هو تكريم هذا الكتاب ، باعتباره آخر الكتب السماوية ، فنزل من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، جملة واحدة في ليلة القدر ، إحدى ليالي شهر رمضان .
ثم نزل منجما أي سورة أو بعض سورة ، أو آية أو آيات ، حتى كمل نزوله في ثلاثة وعشرين عاما هي مدة رسالته صلى الله عليه وسلم ، منها ثلاثة عشر عاما في مكة وعشرة أعوام في المدينة المنورة ، ثم لقى صلى الله عليه وسلم ربه في المدينة وعمره ثلاثة وستون عاما .
اختلف الناس في ليلة القدر على ستة عشر قولا ، وهي : أنها ليلة إحدى وعشرين من رمضان ، وليلة ثلاث وعشرين ، وليلة خمس وعشرين ، وليلة سبع وعشرين ، وليلة تسع وعشرين ، فهذه خمسة أقوال في ليالي الأوتار من العشر الأواخر من رمضان على قول من ابتدأ عدتها من أول العشر ، وقد ابتدأ بعضهم عدتها من آخر الشهر ، فجعل ليالي الأوتار ليلة ثلاثين لأنها الأولى ، وليلة ثمان وعشرين لأنها الثانية ، وليلة ستة وعشرين لأنها الخامسة ، وليلة أربع وعشرين لأنها السابعة ، وليلة اثنين وعشرين لأنها التاسعة ، فهذه خمسة أقوال أخر فتلك عشرة أقوال ، والقول الحادي عشر : أنها تدور في العشر الأواخر ولا تثبت في ليلة واحدة منه . الثاني عشر : أنها مخفية في رمضان كله . وهذا ضعيف لقوله صلى الله عليه وسلم : " التمسوها في العشر الأواخر " . الثالث عشر : أنها مخفية في العام كله . الرابع عشر أنها ليلة النصف من شعبان وهذان القولان باطلان ؛ لأن الله تعالى قال : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } وقال : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } [ البقرة : 185 ] فدل ذلك على أن ليلة القدر في رمضان . القول الخامس عشر : أنها رفعت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا ضعيف . القول السادس عشر أنها ليلة سبعة عشر من رمضان ؛ لأن وقعة بدر كانت صبيحة هذه الليلة ، وأرجح الأقوال أنها ليلة إحدى وعشرين من رمضان ، أو ليلة ثلاث وعشرين ، أو ليلة سبع وعشرين ، فقد جاءت في هذه الليالي الثلاث أحاديث صحيحة خرجها مسلم وغيره ، والأشهر أنها ليلة سبع وعشرين .
{ إنا أنزلناه في ليلة القدر } الضمير في أنزلناه للقرآن دل على ذلك سياق الكلام ، وفي ذلك تعظيم للقرآن من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه ذكر ضميره دون اسمه الظاهر دلالة على شهرته ، والاستغناء عن تسميته .
والثاني : أنه اختار لإنزاله أفضل الأوقات .
والثالث : أن الله أسند إنزاله إلى نفسه ، وفي كيفية إنزاله في ليلة القدر قولان :
أحدهما : أنه ابتدأ إنزاله فيها .
والآخر : أنه أنزل القرآن فيها جملة واحدة إلى السماء ، ثم نزل به جبريل إلى الأرض بطول عشرين سنة .
وقيل : المعنى أنزلناه في شأن ليلة القدر وذكرها ، وهذا ضعيف ، وسميت ليلة القدر من تقدير الأمور فيها ، أو من القدر بمعنى الشرف ، ويترجح الأول بقوله : { فيها يفرق كل أمر حكيم } [ الدخان : 4 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.