( سورة الزلزلة مدنية ، وآياتها 8 آيات ، نزلت بعد سورة النساء ) .
وهي سورة تهز القلب هزّا عنيفا ، يشترك في هذه الهزة الموضوع والمشهد ، والإيقاع اللفظي ، وصيحة قوية مزلزلة للأرض ومن عليها ، فما يكادون يفيقون حتى يواجههم الحساب والوزن والجزاء في بضع فقرات قصار ، وهذا هو طابع الجزء كله يتمثل في هذه السورة تمثلا قويا .
1-5- إذا زلزلت الأرض زلزالها* وأخرجت الأرض أثقالها* وقال الإنسان ما لها* يومئذ تحدّث أخبارها* بأن ربك أوحى لها .
تصف الآيات مشهد القيامة حين تضطرب اضطرابا شديدا ، وترتجف الأرض الثابتة ارتجافا ، وتزلزل زلزالا ، وتنفض ما في جوفها نفضا ، وتخرج ما يثقلها من الكنوز والدفائن والأموات ، وهو مشهد يخلع القلوب ، ويهز كل ثابت ، ويخيل للسامعين أنهم يترنحون ويتأرجحون ، والأرض من تحتهم تهتز وتمور . ومثال هذا ما نراه في حياتنا من جبال النار الثائرة ( البراكين ) ، كما حدث في إيطاليا سنة 1909 م من ثوران بركان فيزوف ، وابتلاعه مدينة مسينا ، ولم يبق من أهلها أحد .
فإذا شاهد الإنسان القيامة بأهوالها ، والأرض تتحرك في زلزال عنيف ، وتخرج ما فيها ، فإنه يتساءل من شدة هول ما يرى : وقال الإنسان ما لها . وهو سؤال المتحير الذي يرى ما لم يعهد ، وكأنه يتمايل على ظهرها ويترنح معها ، ويحاول أن يمسك بأي شيء يشده ويثيبه ، وكل ما حوله يمور مورا شديدا .
يومئذ تحدّث أخبارها . في ذلك اليوم تنطق الأرض بلسان الحال ، أي أن حالها وما يقع فيها من الاضطراب والانقلاب ، وما لم يعهد له نظير من الخراب ، يعلم السائل ويفهمه الخبر : بأن ربك أوحى لها . وأمرنا أن تمور مورا ، وأن تزلزل زلزالها ، وأن تخرج أثقالها ، وأن تحدّث أخبارها ، فهذا الحال حديث واضح عما وراءه ، من أمر الله ووحيه إليها .
6- يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم . في ذلك اليوم الذي تحدث فيه الزلزلة والهول ، يقوم الناس من القبور أشتاتا متفرقين ، فالمحسنون فريق ، والمسيئون فريق آخر ، ويرى كل إنسان جزاء عمله .
7 ، 8- فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره . فمن يعمل من الخير أدنى عمل وأصغره فإنه يجد جزاءه ، ومن يعمل من الشر ولو شيئا قليلا فإنه يجد جزاءه .
اشتملت هذه السورة الكريمة على ثلاثة مقاصد :
1- اضطراب الأرض يوم القيامة ، ودهشة الناس حينئذ .
2- ذهاب الناس لموقف العرض والحساب أشتاتا متفرقين ليروا أعمالهم .
3- يكافأ الإنسان على عمله من خير وإن كان مثال ذرة ، ويجازى على ما عمل من شر مهما كان صغيرا .
أخرج الترمذي -وقال : هذا حديث حسن- عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه ، ( هل تزوجت يا فلان ) ؟ قال : لا والله يا رسول الله ، ولا عندي ما أتزوج ! ! قال : ( أليس معك : قل هو الله أحد ) ؟ قال : بلى ، قال : ( ثلث القرآن ) ، قال : ( أليس معك : إذا جاء نصر الله والفتح ) ؟ قال : بلى ، قال : ( ربع القرآن ) ، قال : ( أليس معك : قل يا أيها الكافرون ) ؟ قال : بلى ، قال : ( ربع القرآن ) ، قال : ( أليس معك : إذا زلزلت الأرض زلزالها ) ؟ قال : بلى ، قال : ( ربع القرآن ، تزوّج )i . [ مختصر تفسير ابن كثير بتحقيق الصابوني ] .
أمارة القيامة ، والجزء على الخير والشر .
{ إذا زلزلت الأرض زلزالها 1 وأخرجت الأرض أثقالها 2 وقال الإنسان ما لها 3 يومئذ تحدّث أخبارها 4 بأن ربك أوحى لها 5 يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم 6 فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره 7 ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره 8 }
زلزلت الأرض : اهتزت واضطربت بعنف وشدة .
زلزالها : المقدر لها ، وذلك عند النفخة الثانية .
إذا كان يوم القيامة ينفخ إسرافيل في الصّور النفخة الأولى ، فيصعق الناس جميعا ، وتموت الخلائق ، ويمكثون أربعين سنة ، ثم ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الثانية ، فتهتز الأرض اهتزازا شديدا ، ولا يبقى فوقها جبل ولا مرتفع ، بل تدكّ الجبال دكّا ، وتضطرب الأرض وتفقد تماسكها .
قال تعالى : يا أيها الناس اتقوا ربكم إنّ زلزلة الساعة شيء عظيم* يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ) . ( الحج : 1 ، 2 ) .
وقال تعالى : إذا رجّت الأرض رجّا . ( الواقعة : 4 ) .
وشبيه بذلك ما شاهدته البشرية من وقوع الزلازل والبراكين التي تبتلع قرى بأكملها ، وينقلب أعلاها أسفلها ، وأسفلها أعلاها .
سورة الزلزلة مدنية ، وآياتها ثمان ، نزلت بعد سورة النساء . وهي في أسلوبها تشبه السور المكية ، لما فيها من أهوال يوم القيامة وشدائده . فقد كان الكفار كثيرا ما يسألون عن البعث وتحديد يوم القيامة ، ويقولون : متى هذا الوعد ، وما أشبه ذلك . فذكر الله تعالى في هذه السورة بعض علامات ذلك . . بأنه إذا حصلت الزلزلة الشديدة ، حيث تنهار الجبال وتتطاير كالعهن المنفوش ، وينتشر الناس كالفراش المبثوث ، وتحصل من الأمور العجيبة ما تخلع قلوب الناس ، وتخرج الأرض كنوزها والناس . { وترى الناس سكارى وما هم بسكارى } فإنه في ذلك اليوم يحاسَب كل إنسان . { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } .
إذا اهتزّت الأرضُ واضطربت اضطراباً عظيما حتى لم يبقَ فوقَها أثرٌ بارز .
لما ختم تلك بجزاء الصالح والطالح في دار البقاء على ما أسلفوه في مواطن الفناء ، ذكر في هذه أول مبادىء تلك الدار وأوائل غاياتها ، وذكر في القارعة ثواني مبادئها وآخر غاياتها ، وأبلغ في التحذير بالإخبار بإظهار ما يكون عليه الجزاء ، فقال معبراً بأداة التحقق ؛ لأن الأمر حتم لا بد من كونه : { إذا } .
ولما كان المخوف الزلزلة ولو لم يعلم فاعلها ، وكان البناء للمفعول يدل على سهولة الفعل ويسره جداً ، بنى للمفعول قوله : { زلزلت الأرض } أي حركت واضطربت زلزلة البعث بعد النفخة الثانية بحيث يعمها ذلك لا كما كان يتفق قبل ذلك من زلزلة بعضها دون بعض وعلى وجه دون ذلك ، وعظم هذا الزلزال وهوّله بإبهامه لتذهب النفس فيه كل مذهب ، فقال كاسراً الزاء - لأنه مصدر ، ولو فتحها لكان اسماً للحركة ، قال البيضاوي : وليس إلا في المضاعف- : { زلزالها * } أي تحركها واضطرابها الذي يحق لها في مناسبته لعظمة جرم الأرض وعظمة ذلك اليوم ، ولو شرح بما يليق به لطال الشرح ، وذلك كما تقول : أكرم التقي إكرامه ، وأهن الفاسق الشقي إهانه ، أي على حسب ما يليق به .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : وردت عقب سورة البرية ليبين بها حصول جزاء الفريقين ومآل الصنفين المذكورين في قوله تعالى : { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } إلى قوله : { أولئك شر البرية } ، وقوله : { إن الذين آمنوا } إلى آخر السورة . ولما كان حاصل ذلك افتراقهم على صنفين ولم يقع تعريف بتباين أحوالهم ، أعقب ذلك بمآل الصنفين واستيفاء جزاء الفريقين المجمل ذكرهم ، فقال تعالى : { يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم } إلى آخر السورة . انتهى .