تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{لِّنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَمَن يُعۡرِضۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِۦ يَسۡلُكۡهُ عَذَابٗا صَعَدٗا} (17)

المفردات :

الطريقة : هي طريق الإسلام .

غدقا : كثيرا .

لنفتنهم فيه : لنختبرهم ، أيكفرون أم يشكرون .

يسلكه : يدخله .

صعدا : شاقّا ، يعلوه ويغلبه فلا يطيقه ، ومنه قول عمر : ( ما تصعّدني شيء كما تصعّدني في خطبة النكاح ) ، أي : ما شق عليّ .

التفسير :

16 ، 17- وألّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا* لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا .

يلتفت الخطاب ويتغير من الحديث على لسان الجن إلى خطاب موجّه من الله تعالى لنبيه وللبشرية كلها ، يدعوها إلى الهداية والإيمان بالله ، ويبين أن سعادة الدنيا والآخرة في طاعة اله ورسوله ، والتمسك بأهداف لتشريع الإلهي .

والمعنى :

لو أن الجن والإنس استقاموا على طريقة الإسلام لأغدق الله عليهم النّعم ، وحفّتهم بركات السماء ، فحيث يكون الماء يكون المال ، وحيث يكون المال تكون الفتنة والاختبار .

لنفتنهم فيه . . .

لنعاملهم معاملة المختبر ، حيث نعطيهم النعمة ونرى تصرّفهم حيالها .

ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا .

ومن أعرض عن هدى الله ، واختار العاجلة على الآجلة ، ترك الله قلبه للشقاء والعذاب المتصاعد الأليم ، الذي يعلوه ويغلبه ولا يطيق له حملا .

والآيتان تشيران إلى سنة من سنن الله ، وهي إسعاد من يختار طريق الهدى ، لأنه متناسق مع الكون ، خاضع لأمر الله ، متوافق مع سنن الله ، ومع نواميس الكون والحياة ، وأن من يعرض عن هداية الله وشرعه يصب بالتعاسة والعذاب الداخلي الذي لا يطيق حمله ، ولا التغلب عليه .

وقريب من ذلك قوله تعالى : ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون . ( الأنبياء : 105 ) .

وقوله عز شأنه : ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون . ( الأعراف : 96 ) .

وفي صحيح البخاري : ( إن هذا المال خضرة حلوة ، فمن أخذه بحقه فنعم المعونة هو ، ومن أخذه من غير حقّه كان كالذي يأكل ولا يشبع ، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلمّ ، إلا آكلة الخضراء ، أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها ( جنباها ) استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت )ii .

وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج لكم من زهرة الدنيا ) ، قالوا : وما زهرة الدنيا ؟ قال : ( بركات الأرض )iii .

وجاء في تفسير القرطبي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( والله ما الفقر أخشى عليكم ، وإنما أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، فتهلككم كما أهلكتهم )iv .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{لِّنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَمَن يُعۡرِضۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِۦ يَسۡلُكۡهُ عَذَابٗا صَعَدٗا} (17)

{ لنفتنهم فيه } لنختبرهم فيه ؛ أي لنعاملهم معاملة المختبر ؛ ليظهر للخلائق كيف شكرهم فيها خولناهم من النعم .

{ يسلكه عذابا صعدا } يدخله عذابا شديدا شاقا . والصعد : المشقة . يقال : فلان في صعد من أمره ، أي في مشقة . وهو مصدر صعد – كفرح – صعدا وصعودا وصف به العذاب مؤولا باسم الفاعل .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{لِّنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَمَن يُعۡرِضۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِۦ يَسۡلُكۡهُ عَذَابٗا صَعَدٗا} (17)

ولنختبرهم ، كيف يشكرون لله نِعمه عليهم .

{ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } . أي عذاباً شديداً .

ومن يغيّر أو يبدّل ، ولا يتّبع أوامرَ الله ونواهيَه يُدْخِله اللهُ عذاباً شاقاً لا يطيقُ له حملا .

قراءات :

قرأ هل الكوفة ويعقوب : يسلكه بالياء . والباقون نسلكه بالنون .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{لِّنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَمَن يُعۡرِضۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِۦ يَسۡلُكۡهُ عَذَابٗا صَعَدٗا} (17)

وقوله تعالى :{ لنفتنهم فيه } أي : لنختبرهم كيف شكرهم فيما خولوا . وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والضحاك وقتادة ومقاتل والحسن . وقال آخرون : معناه وأن لو استقاموا على طريقة الكفر والضلالة لأعطيناهم مالاً كثيراً ، ولوسعنا عليهم لنفتنهم فيه ، عقوبةً لهم واستدراجاً حتى يفتتنوا بها فنعذبهم ، وهذا قول الربيع بن أنس وزيد بن أسلم والكلبي وابن كيسان ، كما قال الله : { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء } الآية ( الأنعام- 44 ) . { ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه } قرأ أهل الكوفة ويعقوب : { يسلكه } بالياء وقرأ الآخرون بالنون ، أي : ندخله ، { عذاباً صعداً } قال ابن عباس : شاقاً ، والمعى ذا صعد ، أي : ذا مشقة . قال قتادة : لا راحة فيه . وقال مقاتل : لا فرح فيه . قال الحسن : لا يزداد إلا شدة . والأصل فيه أن الصعود يشق على الإنسان .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{لِّنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَمَن يُعۡرِضۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِۦ يَسۡلُكۡهُ عَذَابٗا صَعَدٗا} (17)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{لنفتنهم فيه} يقول لكي نبتليهم فيه بالخصب، والخير،

{ومن يعرض عن ذكر ربه} القرآن.

{يسلكه عذابا صعدا} يعني شدة العذاب الذي لا راحة له فيه.

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

قال مالك: عن زيد بن أسلم: {لنفتنهم} لنبتليهم من يستمر على الهداية ممن يستمر على الغواية.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابا صَعَدا "يقول عزّ وجل: ومن يُعرض عن ذكر ربه الذي ذكره به، وهو هذا القرآن، ومعناه: ومن يعرض عن استماع القرآن واستعماله، يسلكه الله عذابا صعدا: يقول: يسلكه الله عذابا شديدا شاقا.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{لنفتنهم فيه} فالفتنة المحنة التي فيها الشدة؛ فإن كان هذا في أهل الكفر ففي بسط الرزق عليهم محنة شديدة لأن ذلك يمنعهم عن الخضوع والانقياد لرسوله الله صلى الله عليه وسلم لما يرون من الفضل على من دونهم في المال والسعة. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون} [سبأ: 34].

{ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا}... والإعراض ههنا عبارة عن الإيثار والاختيار، أي من يختر غير ذكر الله تعالى على ما ذكره أو طاعة غيره على طاعته.

{يسلكه عذابا صعدا} على التحقيق كما ذكره أهل التفسير أنهم يكلفون الصعود على جبل من نار، لا يقدرون إلا بعد شدة عظيمة، ثم إذا بلغوا أعلاها يهوون فيها. فذلك دأبهم.

وجائز أن يكون على التمثيل، وذلك لأن الصعود أشد من الهبوط، فيكون الصعود عبارة عن المشقة ههنا: أن يستقبله ما يشق عليه.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

... {عَن ذِكْرِ رَبِّهِ} عن عبادته أو عن موعظته أو عن وحيه {يَسْلُكْهُ} وقرئ بالنون مضمومة ومفتوحة، أي: ندخله {عَذَاباً} والأصل: نسلكه في عذاب، كقوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42]

والصعد: مصدر صعد، فوصف به العذاب، لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كانت نعمه فضلاً منه وليس مستحقة عليه بعبادة ولا غيرها، قال تعالى معرفاً أن غايتها استحقاق الثواب أو العقاب على ما كتبه على نفسه سبحانه ولا يبدل القول لديه وأن جميع ما يعامل به عباده سبحانه وتعالى من نفع وضر إنما هو فتنة لهم يستخرج ما جبلوا عليه من حسن أو قبيح: {لنفتنهم} أي نعاملهم معاملة المختبر بما لنا من العظمة {فيه} أي في ذلك الماء الذي تكون عنه أنواع النعم لينكشف حال الشاكر والكافر.

ولما كان التقدير: فمن يقبل على ذكر ربه ننعمه في دار السلام أبداً، عطف عليه قوله: {ومن يعرض} أي إعراضاً مستمراً إلى الموت {عن ذكر ربه} أي مجاوزاً عن عبادة المحسن إليه المربي له الذي لا إحسان عنده من غيره {نسلكه} أي ندخله {عذاباً} يكون مطرفاً له كالخيط يكون في ثقب الخرزة في غاية الضيق {صعداً} أي شاقاً شديداً يعلوه ويغلبه ويصعد عليه، ويكون كل يوم أعلى مما قبله جزاء وفاقاً، فإن الإعراض كلما تمادى زمانه كان أقوى مما كان.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 16]

وإلى هنا كان الوحي يحكي قول الجن بألفاظهم المباشرة عن أنفسهم؛ ثم عدل عن هذا النسق إلى تلخيص مقالة لهم عن فعل الله مع الذين يستقيمون على الطريقة إليه، وذكرها بفحواها لا بألفاظها: (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه، ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا).. يقول الله -سبحانه- إنه كان من مقالة الجن عنا: ما فحواه أن الناس لو استقاموا على الطريقة، أو أن القاسطين لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم نحن ماءا موفورا نغدقه عليهم، فيفيض عليهم بالرزق والرخاء.. (لنفتنهم فيه).. ونبتليهم أيشكرون أم يكفرون. وهذا العدول عن حكاية قول الجن إلى ذكر فحوى قولهم في هذه النقطة، يزيد مدلولها توكيدا بنسبة الإخبار فيها والوعد إلى الله سبحانه. ومثل هذه اللفتات كثير في الأسلوب القرآني، لإحياء المعاني وتقويتها وزيادة الانتباه إليها. وهذه اللفتة تحتوي جملة حقائق، تدخل في تكوين عقيدة المؤمن، وتصوره عن مجريات الأمور وارتباطاتها. والحقيقة الأولى: هي الارتباط بين استقامة الأمم والجماعات على الطريقة الواحدة الواصلة إلى الله، وبين إغداق الرخاء وأسبابه؛ وأول أسبابه توافر الماء واغدوداقه. وما تزال الحياة تجري على خطوات الماء في كل بقعة. وما يزال الرخاء يتبع هذه الخطوات المباركة حتى هذا العصر الذي انتشرت فيه الصناعة، ولم تعد الزراعة هي المصدر الوحيد للرزق والرخاء. ولكن الماء هو الماء في أهميته العمرانية.. وهذا الارتباط بين الاستقامة على الطريقة وبين الرخاء والتمكين في الأرض حقيقة قائمة. وقد كان العرب في جوف الصحراء يعيشون في شظف، حتى استقاموا على الطريقة، ففتحت لهم الأرض التي يغدودق فيها الماء، وتتدفق فيها الأرزاق. ثم حادوا عن الطريقة فاستلبت منهم خيراتهم استلابا. وما يزالون في نكد وشظف، حتى يفيئوا إلى الطريقة، فيتحقق فيهم وعد الله. والحقيقة الثانية التي تنبثق من نص هذه الآية: هي أن الرخاء ابتلاء من الله للعباد وفتنة. ونبلوكم بالشر والخير فتنة. والصبر على الرخاء والقيام بواجب الشكر عليه والإحسان فيه أشق وأندر من الصبر على الشدة! على عكس ما يلوح للنظرة العجلى.. فكثيرون هم الذين يصبرون على الشدة ويتماسكون لها، بحكم ما تثيره في النفس من تجمع ويقظة ومقاومة؛ ومن ذكر لله والتجاء إليه واستعانة به، حين تسقط الأسناد في الشدة فلا يبقى إلا ستره. فأما الرخاء فينسي ويلهي، ويرخي الأعضاء وينيم عناصر المقاومة في النفس، ويهيئ الفرصة للغرور بالنعمة والاستنامة للشيطان! إن الابتلاء بالنعمة في حاجة ملحة إلى يقظة دائمة تعصم من الفتنة.. نعمة المال والرزق كثيرا ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر، مع السرف أو مع البخل، وكلاهما آفة للنفس والحياة... ونعمة القوة كثيرا ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر مع الطغيان والجور، والتطاول بالقوة على الحق وعلى الناس، والتهجم على حرمات الله.. ونعمة الجمال كثيرا ما تقود إلى فتنة الخيلاء والتيه وتتردى في مدارك الإثم والغواية.. ونعمة الذكاء كثيرا ما تقود إلى فتنة الغرور والاستخفاف بالآخرين وبالقيم والموازين.. وما تكاد تخلو نعمة من الفتنة إلا من ذكر الله فعصمه الله.. والحقيقة الثالثة إن الإعراض عن ذكر الله، الذي قد تنتهي إليه فتنة الابتلاء بالرخاء، مؤد إلى عذاب الله. والنص يذكر صفة للعذاب (يسلكه عذابا صعدا).. توحي بالمشقة مذ كان الذي يصعد في المرتفع يجد مشقة في التصعيد كلما تصعد. وقد درج القرآن على الرمز للمشقة بالتصعيد. فجاء في موضع: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء. وجاء في موضع: سأرهقه صعودا. وهي حقيقة مادية معروفة. والتقابل واضح بين الفتنة بالرخاء وبين العذاب الشاق عند الجزاء!

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(لنفتنهم) هل أنّ كثرة النعم تتسبب في غرورهم وغفلتهم؟ أم أنّها تجعلهم يفيقون ويشكرون ويتوجهون أكثر من ذي قبل إلى اللّه؟

ومن هنا يتّضح أن وفور النعمة من إحدى الأسباب المهمّة في الامتحان الإلهي، وما يُتفق عليه هو أنّ الاختبار بالنعمة أكثر صعوبة وتعقيداً من الاختبار بالعذاب، لأنّ طبيعة ازدياد النعم هو الانحلال والكسل والغفلة، والغرق في الملذات والشهوات، وهذا ما يُبعد الإنسان عن اللّه تعالى ويهيئ الأجواء لمكائد الشيطان، والذين يستطيعون أن يتخلصوا من شراك النعم الوافرة هم الذاكرون للّه على كلّ حال، غير الناسين له تعالى، حيث يحفظون قلوبهم بالذكر من نفوذ الشياطين.

ولذا يضيف تعقيباً على ذلك: (ومن يعرض عن ذكر ربّه يسلكه عذاباً صعداً).

«صعد»: وتعني الصعود إلى الأعلى، وأحياناً الشِعب المتعرجة في الجبل، وبما أنّ الصعود من الشعاب المتعرجة عمل شاق، فإنّ هذه اللفظة تستعمل بمعنى الأُمور الشّاقة، وفسّرها الكثير بمعنى العذاب الشّاق، وهو مماثل لما جاء في الآية (17) من سورة المدّثر حول بعض المشركين: (سأُرهقه صعوداً).

ولكن، أنّه مع أنّ التعبير أعلاه يبيّن كون هذا العذاب شاقّاً شديداً فإنّه يحتمل أن يشير إلى اليوم الطويل، وعلى هذا الأساس فإنّه يبيّن في الآيات أعلاه رابطة الإيمان والتقوى بكثرة النعم من جهة، رابطة كثرة النعم بالاختبارات الإلهية من جهة أُخرى ورابطة الإعراض عن ذكر اللّه تعالى بالعذاب الشاق الطويل من جهة ثالثة، وهذه حقائق أشير إليها في الآيات القرآنية الأُخرى كما نقرأ في الآية (124) من سورة طه: (ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً).

وكذا في الآية (40) من سورة النمل عن لسان سليمان (عليه السلام): (هذا من فضل ربّي ليبلوني أأشكر أم أكفر)، وما جاء في الآية (28) من سورة الأنفال: (واعلموا أنّما أموالكم وأولادكم فتنة).

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{لِّنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَمَن يُعۡرِضۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِۦ يَسۡلُكۡهُ عَذَابٗا صَعَدٗا} (17)

" لنفتنهم فيه " أي لنختبرهم كيف شكرهم فيه على تلك النعم . وقال عمر في هذه الآية : أينما كان الماء كان المال ، وأينما كان المال كانت الفتنة . فمعنى " لأسقيناهم " لوسعنا عليهم في الدنيا ، وضرب الماء الغدق الكثير لذلك مثلا ؛ لأن الخير والرزق كله بالمطر يكون ، فأقيم مقامه ، كقوله تعالى : " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " [ الأعراف : 96 ] وقوله تعالى : " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " [ المائدة : 66 ] أي بالمطر . والله أعلم . وقال سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والضحاك وقتادة ومقاتل وعطية وعبيد بن عمير والحسن : كان والله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين ، ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر والمقوقس والنجاشي ، ففتنوا بها ، فوثبوا على إمامهم فقتلوه . يعني عثمان بن عفان .

وقال الكلبي وغيره : " وأن لو استقاموا على الطريقة " التي هم عليها من الكفر فكانوا كلهم كفارا لوسعنا أرزاقهم مكرا بهم واستدراجا لهم ، حتى يفتتنوا بها ، فنعذبهم بها في الدنيا والآخرة . وهذا قول قال الربيع بن أنس وزيد بن أسلم وابنه والكلبي والثمالي ويمان بن رباب وابن كيسان وأبو مجلز ، واستدلوا بقوله تعالى : " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء " [ الأنعام : 44 ] الآية . وقوله تعالى : " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة " [ الزخرف : 33 ] الآية ؛ والأول أشبه ؛ لأن الطريقة معرفة بالألف واللام ، فالأوجب أن تكون طريقته طريقة الهدى ؛ ولأن الاستقامة لا تكون إلا مع الهدى .

وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا ) قالوا : وما زهرة الدنيا ؟ قال : ( بركات الأرض ) وذكر الحديث . وقال عليه السلام : ( فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، وإنما أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من{[15464]} قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ) .

قوله تعالى : " ومن يعرض عن ذكر ربه " يعني القرآن ، قاله ابن زيد . وفي إعراضه عنه وجهان : أحدهما عن القبول ، إن قيل إنها في أهل الكفر . الثاني عن العمل ، إن قيل إنها في المؤمنين . وقيل : " ومن يعرض عن ذكر ربه " أي لم يشكر نعمه " يسلكه عذابا صعدا " قرأ الكوفيون وعياش عن أبي عمرو " يسلكه " بالياء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ؛ لذكر اسم الله أولا فقال : " ومن يعرض عن ذكر ربه " . الباقون " نسلكه " بالنون . وروي عن مسلم بن جندب ضم النون وكسر اللام . وكذلك قرأ طلحة والأعرج وهما لغتان ، سلكه وأسلكه بمعنى ، أي ندخله . " عذابا صعدا " أي شاقا شديدا . قال ابن عباس : هو جبل ، في جهنم . أبو سعيد الخدري{[15465]} : كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت . وعن ابن عباس : أن المعنى مشقة من العذاب . وذلك معلوم في اللغة أن الصعد : المشقة ، تقول : تصعدني الأمر : إذا شق عليك ، ومنه قول عمر : ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح ، أي ما شق علي . وعذاب صعد أي شديد .

والصعد : مصدر صعد ، يقال : صعد صعدا وصعودا ، فوصف به العذاب ؛ لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه . وقال أبو عبيدة : الصعد مصدر ، أي عذابا ذا صعد ، والمشي في الصعود يشق . والصعود : العقبة الكؤود . وقال عكرمة : هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها ، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم . وقال الكلبي : يكلف الوليد بن المغيرة أن يصعد جبلا في النار من صخرة ملساء ، يجذب من أمامه بسلاسل ، ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها ، ولا يبلغ في أربعين سنة . فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها ، ثم يكلف أيضا صعودها ، فذلك دأبه أبدا ، وهو قوله تعالى : " سأرهقه صعودا " [ المدثر : 17 ] .


[15464]:الزيادة من صحيح الترمذي.
[15465]:زيادة من أ، ح ، ل.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{لِّنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَمَن يُعۡرِضۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِۦ يَسۡلُكۡهُ عَذَابٗا صَعَدٗا} (17)

ولما كانت نعمه فضلاً منه وليس مستحقة عليه بعبادة ولا غيرها ، قال تعالى معرفاً /أن غايتها استحقاق الثواب أو العقاب على ما كتبه على نفسه سبحانه ولا {[69162]}يبدل القول لديه{[69163]} وأن جميع ما يعامل به عباده سبحانه وتعالى من نفع وضر إنما هو فتنة لهم يستخرج ما جبلوا عليه من حسن أو قبيح : { لنفتنهم } أي نعاملهم معاملة المختبر بما لنا من العظمة { فيه } أي في ذلك الماء الذي تكون عنه أنواع النعم لينكشف حال الشاكر والكافر{[69164]} ، قال الرازي : وهذا بعد ما حبس عنهم المطر سنين{[69165]} - انتهى . وقال غيره : قال عمر رضي الله تعالى عنه : أينما كان الماء كان المال ، وأينما كان المال كانت الفتنة . وقال الحسن وغيره : كانوا سامعين مطيعين ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر ففتنوا بها فوثبوا بإمامهم فقتلوه - يعني عثمان رضي الله تعالى عنه ويجوز أن يكون مستعاراً للعلم وأنواع المعارف الناشئة عن العبادات التي هي للنفوس كالنفوس للأبدان و{[69166]}تكون الفتنة بمعنى التخليص {[69167]}من الهموم الرذائل{[69168]} في الدنيا والنقم في الآخرة ، من فتنت الذهب{[69169]} - إذا خلصته{[69170]} من غشه{[69171]} .

ولما كان التقدير : فمن يقبل على ذكر ربه ننعمه {[69172]}في دار السلام{[69173]} أبداً ، عطف عليه قوله : { ومن يعرض } أي إعراضاً مستمراً إلى الموت { عن ذكر ربه } أي مجاوزاً عن عبادة المحسن إليه المربي له الذي لا إحسان عنده من غيره { نسلكه{[69174]} } أي ندخله { عذاباً } يكون مطرفاً{[69175]} له كالخيط يكون{[69176]} في ثقب الخرزة في غاية الضيق { صعداً * } أي شاقاً شديداً يعلوه ويغلبه ويصعد عليه ، ويكون كل يوم أعلى مما قبله جزاء وفاقاً ، فإن الإعراض كلما تمادى زمانه كان أقوى مما كان .


[69162]:- من ظ وم، وفي الأصل: ما.
[69163]:- من ظ وم، وفي الأصل: لدى.
[69164]:- زيدت الواو في الأصل ولم نكن في ظ وم فحذفناها.
[69165]:- راجع أيضا قول مقاتل في المعالم 7/ 134.
[69166]:- من ظ وم، وفي الأصل: أو.
[69167]:- من ظ وم، وفي الأصل: بالعموم.
[69168]:- من ظ وم، وفي الأصل: بالعموم.
[69169]:- في ظ: فتنة.
[69170]:- من ظ وم، وفي الأصل: خلصت.
[69171]:- من ظ وم، وفي الأصل: عيشة.
[69172]:- -من ظ وم، وفي الأصل: لنعمة.
[69173]:- من ظ وم، وفي الأصل: الإسلام.
[69174]:- وقراءة حفص عن عاصم.
[69175]:- من ظ وم، وفي الأصل: طرفا.
[69176]:سقط من ظ وم.