سورة الحجرات مدنية ، وآياتها 18 آية ، نزلت بعد سورة المجادلة .
هذه سورة الآداب العامة ومكارم الأخلاق والتهذيب والتأديب ، سورة هذبت وجدان المسلمين وحركت فيهم دوافع الخير والمعروف ، وحاربت نوازع السخرية والاستهزاء بالآخرين ، وحثت على إزالة أسباب الخصام والبغضاء ، وحرصت على تأليف القلوب وإشاعة المحبة والمودة بين الناس ، ولذلك نهت عن ظن السوء بالمسلم المخلص ، وعن تتبع العورات المستورة ، وعن الغيبة واللمز والتنابز بالألقاب ، وبينت أن الناس جميعا عند الله سواء ، كلهم لآدم وآدم من تراب ، فهم يتفاضلون عنده بالتقوى ، ويدركون ثوابه بالعمل الصالح .
سورة الحجرات يمكن أن تكون دائرة معارف شاملة لتربية الفرد وتهذيب الجماعة ، فهي تقدم منهجا للحياة السليمة ، ونظاما تربويا ناجحا لخلق مواطن صالح مؤمن بربه ، يحترم دينه ويؤدي شعائره .
هذه سورة جليلة ضخمة ، تتضمن حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة ، ومن حقائق الوجود والإنسانية ، حقائق تفتح للقلب والعقل آفاقا عالية ، وآمادا بعيدة ، وتثير في النفس والذهن خواطر عميقة ومعاني كبيرة ، وتشمل من مناهج التكوين والتنظيم ، وقواعد التربية والتهذيب ، ومبادئ التشريع والتوجيه ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها مئات المرات .
وهي تبرز أمام النظر أمرين عظيمين للتدبير والتفكير .
وأول ما يبرز للنظر عند مطالعة السورة ، هو أنها تستقل بوضع معالم كاملة لعالم رفيع كريم نظيف سليم ، متضمنة القواعد والأصول والمبادئ والمناهج التي يقوم عليها هذا العالم ، والتي تكفل قيامه أولا وصيانته أخيرا ، عالم يصدر عن الله ، ويتجه إلى الله ، ويليق بأن ينتسب إلى الله ، عالم نقي القلب نظيف المشاعر ، عف اللسان ، وقبل ذلك عف السريرة ، وعالم له أدب مع الله وأدب مع رسوله ، وأدب مع نفسه ، وأدب مع غيره ، أدب في هواجس ضميره ، وفي حركات جوارحه ، وفي الوقت ذاته له شرائعه المنظمة لأوضاعه ، وله نظمه التي تكفل صيانته ، وهي شرائع ونظم تقوم على ذلك الأدب ، وتنبثق منه ، وتتسق معه ، فيتوافق باطن هذا العالم وظاهره ، وتتلاقى شرائعه ومشاعره ، وتتوازن دوافعه وزواجره ، وتتناسق أحاسيسه وخطاه وهو يتجه ويتحرك إلى الله . ومن ثم لا يوكل قيام هذا العالم الرفيع الكريم النظيف السليم وصيانته ، لمجرد أدب الضمير ونظافة الشعور ، ولا يوكل كذلك لمجرد التشريع والتنظيم ، بل يلتقي هذا بذاك في انسجام وتناسق ، كذلك لا يوكل لشعور الفرد وجهده كما لا يترك لنظم الدولة وإجراءاتها ، بل يلتقي فيه الأفراد بالدولة ، والدولة بالأفراد ، وتتلاقى واجباتهما ونشاطهما في تعاون واتساق1 .
اشتملت السورة على طائفة كريمة من المعاني الإسلامية والآداب الدينية ، فقد أمرت المسلمين ألا يصدروا في أحكامهم إلا عن طاعة الله والتزام أوامره ، ويجب ألا يسبقوا أحكام الله وأن يجعلوا اختيارهم وذوقهم الديني تابعا لهدى الله . ( الآية : 1 ) .
وهي تأمرهم بالتزام الأدب أمام النبي الكريم ، وبحسن المعاملة وخفض الصوت عند خطاب الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم ، لأنه هو خاتم المرسلين ، وهو الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة ، وربى المسلمين تربية إلهية حتى صاروا خير أمة أخرجت للناس ( الآيات : 2-5 ) .
وتأمر السورة المسلمين أن يتثبتوا في أحكامهم ، وألا يصدقوا أخبار الفاسقين وإشاعات المغرضين وأراجيف المرجفين ، فالرسول صلى الله عليه وسلم معهم ، وهدى القرآن والسنة بين أيديهم ، وحقائق الإيمان وأحكامه واضحة أمامهم ، وقد حبب الله إليهم الإيمان وحجب عنهم الكفر والعصيان ، فلله الفضل والمنة ، وهو العليم بعباده ، الحكيم في أفعاله . ( الآيات : 6-8 ) .
والمؤمنون أمة واحدة ، ربهم واحد ، وقبلتهم واحدة ، وكتباهم واحد ، ودينهم يقوم على التسامح والتعاون والتناصح ، فإذا حدث خلاف بين طائفتين ، أو قتال ونزاع ، فمن الواجب أن نحاول الصلح بينهما ، وإذا أصرت إحدى الطائفتين على البغي والعدوان فمن الواجب أن نقف في وجه المعتدي حتى يفيء إلى الحق ، وعلينا أن نؤكد مفاهيم الحق والعدل ، وأن نحث على الإصلاح ورأب الصدع حفاظا على وحدة الأمة وجمع شمل المسلمين . ( الآيتان : 9 ، 10 ) .
وتأمر الآيات بالبعد عن السخرية والاستهزاء بالآخرين ، فالإنسان إنسان بمخبره وإنسانيته لا بمظهره وتعاليه ، وهناك قيم حقيقية لمقادير الناس هي حسن صلتهم بالله ورضا الله عنهم ، فقد يسخر الغني من الفقير ، والقوي من الضعيف ، وقد تسخر الجميلة من القبيحة ، والشابة من العجوز ، والمعتدلة من المشوهة . ولكن هذه وأمثالها من قيم الأرض ليست المقياس ، فميزان الله يرفع ويخفض بغير هذه الموازين ، ورب أشعت أغبر لو أقسم على الله لأبره . وتحرم الآيات كذلك اللمز والسخرية بالآخرين ، والتنابز بالألقاب التي يكرهها أصحابها ويحسون فيها مهانة وعيبا . فشتان بين آداب الإيمان ، وبين الفسوق والعصيان وظلم الآخرين . ( الآية : 11 ) .
وتستمر الآيات فتنتهي عن ظن السوء ، وعن تتبع عورات الناس حتى يعيش الناس آمنين على بيوتهم وأسرارهم ، وحتى تصان حقوقهم وحرياتهم ، وتنهي عن الغيبة وتحذر منها ، وتبين أن الناس جميعا خلقوا من أصل واحد ثم تفرعت بهم الشعوب والقبائل ، والعلاقة بين الناس أساسها التعارف على الخير ، وأكرم الناس عند الله أكثرهم تقوى وطاعة لأمره والتزاما بهديه . ( الآيتان : 12 ، 13 ) .
وفي ختام السورة نجد لوحة هادفة ترسم معالم الإيمان ، فالمؤمن الحق من آمن بالله ورسوله ولم يتطرق الشك إلى قلبه ، وأتبع ذلك بالجهاد والعمل على نصرة الإسلام ، وسار في طريق العقيدة السليمة والتزم بآدابها وهديها .
ونجد صورة نابية للأعراب الذين افتخروا بالإيمان ، وتظاهروا به رياء وسمعة ، وجاءوا في تيه وخيلاء يمنون على النبي لأنهم دخلوا في الإسلام ، وهي صورة كريهة فيها الرياء والسمعة والمنة ، مع أن الله هو العليم بنفوسهم والبصير بخباياهم ، وهو صاحب الفضل والمنة عليهم إن كانوا صادقين .
إن المؤمنين الصادقين هم الذين آمنوا بالله ربا ، واختاروا الإسلام دينا ، وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا ، وجمعوا بين صدق اليقين وأدب السلوك . ( الآيات : 14-18 ) .
وفي الحديث الشريف : ( ليس الإيمان بالتمني ، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل ) .
معظم مقصود سورة الحجرات ما يأتي : المحافظة على أمر الحق تعالى ، ومراعاة حرمة الأكابر ، والتؤدة في الأمور ، واجتناب التهور ، والنجدة في إغاثة المظلوم ، والاحتراز عن السخرية بالخلق ، والحذر عن التجسس والغيبة ، وترك الفخر بالأحساب والأنساب ، والتحاشي عن المنة على الله بالطاعة .
وقد تكرر خطاب المؤمنين في السورة خمس مرات بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا . . . } والمخاطبون هم المؤمنون في الآيات : 1 و2 و6 و11 و12 ، والمخاطب به أمر ونهي ، وفي الآية 13 : { يا أيها الناس . . . } والمخاطب به المؤمنون والكافرون . حيث قال سبحانه : { إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } . والناس كلهم في ذلك سواء2 .
لا تقدموا : لا تتقدموا ، من قولهم : مقدمة الجيش ، لمن تقدم منهم ، قال أبو عبيدة : العرب تقول : لا تقدِّم بين يدي الإمام ، وبين يدي الأب ، أي : لا تعجل بالأمر دونه ، وقيل : المراد لا تقولوا بخلاف الكتاب والسنة .
1- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
طلب الله تعالى من المسلمين توقير الرسول الله صلى الله عليه وسلم ، واحترامه وإتباعه ، وعدم التقدم عليه .
ولا تسبقوا بأحكامكم أحكام الله ، وأحكام رسوله ، وراقبوا الله إن الله ، { سميع } . لأقوالكم ، { عليم } . بأحوالكم فنحن في حياتنا نقتدي بالكتاب والسنة وعمل الصحابة ، ونجعل أحكام الإسلام سابقة غير مسبوقة ، مقدمة غير متأخرة .
والأصل أن العبد لا يجوز أن يتقدم على سيده ، والخادم لا يجوز أن يتقدم على مخدومه ، فإن ذلك عيب مذموم ، فضرب الله ذلك مثلا لمن يقدم رأيه وحكمه ، على رأى الله وحكمه تعالى ، أي لا تسبقوا بأحكامكم أحكام الله وأحكام رسوله ، واتقوا الله وراقبوه ، إن الله سميع لكل شيء ، عليم بكل شيء ، وفي معنى هذه الآية -أي تقديم حكم الله وحكم رسوله على اجتهاد الإنسان- ورد الحديث الذي رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى اليمن ، وقال له : ( بم تحكم ) ؟ ، قال : بكتاب الله تعالى ، قال صلى الله عليه وسلم : ( فإن لم تجد ) ؟ ، قال : بسنة رسوله ، قال صلى الله عليه وسلم : ( فإن لم تجد ) ؟ ، قال : أجتهد رأيي ، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر معاذ ، وقال : ( الحمد لله الذي وفق رسول رسوله ، لما يرضي رسول الله )3 .
وهذا يعني أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة ، ولو قدمه لكان تقديما بين يدي الله ورسوله .
اختلف الرواة في سبب نزول هذه الآية ، فقال بعضهم : سببها أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : يا رسول الله أمِّر القعقاع بن معبد ، وقال عمر : أمّر الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ، وقال عمر : ما أردت خلافك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما ، فنزل في ذلك قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله . . . } إلى قوله تعالى : { ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم } . ( الحجرات : 5 ) ، رواه البخاري ، عن محمد بن الصباح ، وقيل في سبب النزول أسباب أخرى ، ويمكن الجمع بينها ، بأنها نزلت بعد وقوع هذه الأسباب جميعها ، فتكون من باب تعدد الأسباب والمنزل واحد .
ويقول بعض العلماء : لعلها نزلت من غير سبب ، لتكون دستورا للمسلمين في أعمالهم وأقوالهم ، فيلتزموا بهدي القرآن ، وبتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم ، ويتخذوه القدوة والمثل الأعلى .
قال تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا } . ( الأحزاب : 21 ) .
{ لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } لا تقطعوا أمرا ، وتجترئوا على ارتكابه قبل أن يحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم به ويأذنا فيه . وهو إرشاد عام في كل شيء . ومنع من الافتئات على الله ورسوله في أي أمر . و{ تقدموا } من قدم المتعدي . تقول : قدمت فلان على فلان ، جعلته متقدما عليه وحذف مفعوله قصدا إلى التعميم . و " بين يدي الله ورسوله " تمثيل للتعجل في الإقدام على قطع الحكم في أمر من أمور الدين بغير إذن من الله ورسوله – بحالة من تقدم بين يدي متبوعه إذا سار في طريق ؛ فإنه في العادة مستهجن . أو المراد : بين يدي رسول الله ؛ وذكر لفظ الجلالة تعظيما للرسول ، وإشعارا بأنه من الله تعالى بمكان يوجب إجلاله .
سورة الحجرات مدنية وآياتها ثماني عشرة ، نزلت بعد سورة المجادلة . وهي من آخر ما نزل من القرآن الكريم ، إذ نزلت في السنة التاسعة من الهجرة . وتتضمن هذه السورة الكريمة حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة ، وتشمل مناهج التكوين والتنظيم وقواعد التربية والتهذيب ومبادئ التشريع والتوجيه ، ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها بمرات كثيرة ، حتى لقد سمّاها بعضهم " سورة الأخلاق " . وقد سميت " سورة الحجرات " لأن الله تعالى ذكر فيها بيوت النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وهي الحجرات التي كان يُسكن فيها أزواجه الطاهرات ، وذلك في عام الوفود . وكان بعض الوافدين أعرابا جفاة ، فكانوا ينادون من وراء الحجرات بأصواتهم الجافية : يا محمد ، اخرج إلينا . فكره النبي صلى الله عليه وسلم هذه الغلظة والجفوة ، ونزل القرآن الكريم بتعليم الناس حسن الأدب مع الرسول الكريم . { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون . . } .
والسورة مشتملة على تهذيب وتشريع من شأنها رسم معالم كاملة لعالم رفيع كريم . وذلك لما تحويه السورة من القواعد والأصول والمبادئ التي يقوم عليها هذا العالم ، وما فيها من جهد ضخم رصين ، تمثله توجيهات القرآن الكريم والتربية النبوية الحكيمة ، لإنشاء الجماعة المسلمة وتربيتها لإبداع ذلك العالم الرفيع الكريم .
وقد جاء في السورة الكريمة خمسة نداءات بلفظ { يا أيها الذين آمنوا } وجاء نداء واحد بلفظ { يا أيها الناس } لأن الخطاب كان عاما للمؤمنين والكافرين ، وذلك في الآية العظيمة التي تضع مبدأ أن الشرف والعظمة هو بالتقوى ، لا بالأحساب والأنساب ، في قوله تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم } .
افتتحت السورة بنهي المؤمنين عن الحكم بأي شيء قبل أن يأمر به الله ورسوله ، وعن رفع أصواتهم فوق صوت النبي الكريم ، وأثنت على الذين يخفضون أصواتهم في حضرته ، وندّدت بمن لا يتأدبون فينادونه من وراء الحجرات بأصواتهم الجافية . ثم أمرت المؤمنين بالتثبت من أخبار الفاسقين وضعاف الإيمان ، وبينت الحكم عندما يتقاتل فريقان من المؤمنين وماذا يفعل الباقون إزاء ذلك . ونهت المؤمنين عن استهزاء بعضهم ببعض ، وتعييب بعضهم بعضا ، وعن ظن السوء بأهل الخير ، وعن تتبع بعضهم بعضا ، ونهت الأعراب عن ادّعاء الإيمان قبل أن يستقر في قلوبهم . ثم بينت من هم المؤمنون الصادقون ، وختمت الحديث بالنهي عن المن على رسول الله بالإسلام ، فالمنة لله عليهم بهدايتهم إلى الإيمان ، إن كانوا صادقين { إن الله يعلم غيب السموات والأرض ، والله بصير بما تعملون } .
لا تقَدموا بين يدي الله ورسوله : لا تعجلوا بالأمر قبل أن يأمر به الله ورسوله . يا أيها الذين آمنوا لا تعجَلوا بأي أمر قبل أن يقضيَ الله ورسوله لكم فيه ، فلا تقترحوا على الله ورسوله أي شيء قبل أن يقول الله ورسوله فيه ، واتقوا الله وراقِبوه خَشيةَ أن تقولوا ما لم يأذن لكم الله ورسوله به . إن الله سميع لما تقولون ، عليم بما تريدون .
في هذه الآية الكريمة وما يليها تأديبٌ للصحابة وتعليم وتهذيب ، فقد طلَب الله إليهم أن ينقادوا لأوامر الله ونواهيه ، ولا يعجَلوا بقولٍ أو فعل قبل الرسول الكريم .
قرأ يعقوب : لا تقدموا بفتح التاء والدال ، والباقون : لا تُقْدموا بضم التاء وكسر الدال المشدَّدة .
قوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } قرأ يعقوب : ( لا تقدموا ) بفتح التاء والدال من التقدم أي : لا تتقدموا ، وقرأ الآخرون بضم التاء وكسر الدال ، من التقديم ، وهو لازم بمعنى التقدم مثل بين وتبين ، قيل : هو متعد على ظاهره ، والمفعول محذوف ، أي : لا تقدموا القول والفعل بين يدي الله ورسوله . قال أبو عبيدة : تقول العرب : لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب ، أي : لا تعجل بالأمر والنهي دونه ، والمعنى : بين اليدين الأمام . والقدام ، أي : لا تقدموا بين يدي أمرهما ونهيهما . واختلفوا في معناه : روى الشعبي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى ، وهو قول الحسن ، أي لا تذبحوا قبل أن يذبح محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن ناساً ذبحوا قبل صلاة محمد صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا محمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سليمان بن رحب ، حدثنا شعبة ، عن زيد ، عن الشعبي ، عن البراء قال خطبنا محمد صلى الله عليه وسلم يوم النحر ، قال : " إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ، ثم نرجع فننحر ، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ، ومن ذبح قبل أن نصلي فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النسك في شيء " .
وروى مسروق عن عائشة أنه في النهي عن صوم يوم الشك ، أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم عن ابن أبي مليكة ، أن عبد الله بن الزبير أخبرهم ، أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : أمر القعقاع بن معبد بن زرارة ، قال عمر : بل أمر الأقرع بن حابس ، قال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ، قال عمر : ما أردت خلافك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما ، فنزلت في ذلك : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } حتى انقضت . ورواه نافع عن ابن عمر ، عن ابن أبي مليكة ، قال فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } إلى قوله : { أجر عظيم } ، وزاد : قال ابن الزبير : فما كان عمر يسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه ، ولم يذكر عن أبيه ، يعني أبا بكر . وقال قتادة : نزلت الآية في ناس كانوا يقولون : لو أنزل في كذا ، أو صنع في كذا وكذا ، فكره الله ذلك . وقال مجاهد : لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه . وقال الضحاك : يعني في القتال وشرائع الدين لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله . { واتقوا الله } ، في تضييع حقه ومخالفة أمره ، { إن الله سميع } لأقوالكم ، { عليم } بأفعالكم .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } أي لا تقدموا خلاف الكتاب والسنة وقيل لا تذبحوا قبل أن يذبح النبى عليه السلام في الأضحى وقيل لا تصوموا قبل صومه نزلت في النهي عن صوم يوم الشك والمعنى لا تسبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يكون هو الذي يأمركم به { واتقوا الله } في مخالفة أمره { إن الله سميع } لأقوالكم { عليم } بأحوالكم
الأولى- قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " قال العلماء : كان في العربي جفاء وسوء أدب في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وتلقيب الناس . فالسورة في الأمر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب . وقرأ الضحاك ويعقوب الحضرمي : " لا تَقَدَّموا " بفتح التاء والدال من التقدم . الباقون " تُقدِموا " بضم التاء وكسر الدال من التقديم . ومعناهما ظاهر ، أي لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا . ومن قدم قوله أو فعله على الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قدمه على الله تعالى ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يأمر عن أمر الله عز وجل .
الثانية- واختلف في سبب نزولها على أقوال ستة : الأول : ما ذكره الواحدي من حديث ابن جريج قال : حدثني ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : أمر القعقاع بن معبد . وقال عمر : أمر الأقرع بن حابس . فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي . وقال عمر : ما أردت خلافك . فتماديا حتى ارتفعت أصواتهما ، فنزل في ذلك : " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله - إلى قوله - ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم " . رواه البخاري عن الحسن بن محمد بن الصباح ، ذكره المهدوي أيضا .
الثاني : ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستخلف على المدينة رجلا إذا مضى إلى خيبر ، فأشار عليه عمر برجل آخر ، فنزل : " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " . ذكره المهدوي أيضا .
الثالث : ما ذكره الماوردي عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ أربعة وعشرين رجلا من أصحابه إلى بني عامر فقتلوهم ، إلا ثلاثة تأخروا عنهم فسلموا وانكَفَؤُوا{[14044]} إلى المدينة ، فلقوا رجلين من بني سليم فسألوهما عن نسبهما فقالا : من بني عامر ، لأنهم أعز من بني سليم فقتلوهما ، فجاء نفر من بني سليم إلى رسول الله صلى فقالوا : إن بيننا وبينك عهدا ، وقد قتل منا رجلان ، فوَدَاهُمَا النبي صلى الله عليه وسلم بمائة بعير ، ونزلت عليه هذه الآية في قتلهم الرجلين . وقال قتادة : إن ناسا كانوا يقولون لو أنزل في كذا ، لو أنزل فيّ كذا ؟ فنزلت هذه الآية . ابن عباس : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه . مجاهد : لا تفْتَاتُوا{[14045]} على الله ورسول حتى يقضي الله على لسان رسوله ، ذكره البخاري أيضا .
الحسن : نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح . ابن جريج : لا تقدموا أعمال الطاعات قبل وقتها الذي أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم .
قلت : هذه الأقوال الخمسة المتأخرة ذكرها القاضي أبو بكر بن العربي ، وسردها قبله الماوردي . قال القاضي : وهي كلها صحيحة تدخل تحت العموم ، فالله أعلم ما كان السبب المثير للآية منها ، ولعلها نزلت دون سبب ، والله أعلم . قال القاضي : إذا قلنا إنها نزلت في تقديم الطاعات على أوقاتها فهو صحيح ، لأن كل عبادة مؤقتة بميقات لا يجوز تقديمها عليه كالصلاة والصوم والحج ، وذلك بين . إلا{[14046]} أن العلماء اختلفوا في الزكاة ، لما كانت عبادة مالية وكانت مطلوبة لمعنى مفهوم ، وهو سد خلة الفقير ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم استعجل من العباس صدقة عامين ، ولما جاء من جمع صدقة الفطر قبل يوم الفطر حتى تعطى لمستحقيها يوم الوجوب وهو يوم الفطر ، فاقتضى ذلك كله جواز تقديمها العام والاثنين . فإن جاء رأس العام والنصاب بحاله وقعت موقعها . وإن جاء رأس العام وقد تغير النصاب تبين أنها صدقة تطوع . وقال أشهب : لا يجوز تقديمها على الحول لحظة كالصلاة ، وكأنه طرد الأصل في العبادات فرأى أنها إحدى دعائم الإسلام فوفاها حقها في النظام وحسن الترتيب . ورأى سائر علمائنا أن التقديم اليسير فيها جائز ، لأنه معفو عنه في الشرع بخلاف الكثير . وما قاله أشهب أصح ، فإن مفارقة اليسير الكثير في أصول الشريعة صحيح ، ولكنه لمعان تختص باليسير دون الكثير . فأما في مسألتنا فاليوم فيه كالشهر ، والشهر كالسنة . فإما تقديم كلي كما قال أبو حنيفة والشافعي ، وإما حفظ العبادة على ميقاتها كما قال أشهب .
الثالثة- قوله تعالى : " لا تقدموا بين يدي الله " أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم ، وإيجاب اتباعه والاقتداء به ، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه : [ مروا أبا بكر فليصل بالناس ] . فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما : قولي له إن أبا بكر رجل أسيف{[14047]} وإنه متى يقم مقامك لا يُسْمع الناس من البكاء ، فَمُرْ عمر فليصل بالناس . فقال صلى الله عليه وسلم : [ إنكن لأنتن صواحب يوسف{[14048]} . مروا أبا بكر فليصل بالناس ] . فمعنى قول [ صواحب يوسف ] الفتنة بالرد عن الجائز إلى غير الجائز . وربما احتج بُغَاةُ القياس بهذه الآية . وهو باطل منهم ، فإن ما قامت دلالته فليس في فعله تقديم بين يديه . وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع ، فليس إذاً تقدمٌ بين يديه . " واتقوا الله " يعني في التقدم المنهي عنه . " إن الله سميع " لقولكم " عليم " بفعلكم .
بسم الله الرحمن الرحيم{[1]} .
سورة الحجرات{[2]} .
مقصودها الإرشاد إلى مكارم الأخلاق بتوقير النبي صلى الله عليه وسلم بالأدب معه في نفسه وفي أمته ، وحفظ ذلك من إجلاله بالظاهر [ ليكون-{[3]} ] دليلا على الباطن فيسمى إيمانا ، كما أن الإيمان [ بالله- ] يشترط فيه فعل{[4]} الأعمال الظاهرة والإذعان لفعلها بشرائطها وأركانها وحدودها لتكون{[5]} بينة على الباطن وحجة شاهدة له { ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا [ و-{[6]} ] هم لا يفتنون } فحاصل مقصودها مراقبة النبي صلى الله عليه وسلم في الأدب معه لأنها أول المفصل الذي هو{[7]} ملخص القرآن كما كان مقصود الفاتحة التي هي أول القرآن مراقبة الله ، وابتدئي ثاني{[8]} المفصل بحرف من الحروف المقطعة كما ابتدئي ثاني{[9]} ما عداه بالحروف المقطعة ، واسمها الحجرات واضح الدلالة على ذلك بما{[10]} دلت عليه [ آيته-{[11]} ] { بسم الله } الملك الجبار المتكبر الذي من أخل بتعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم لم يرض عنه عملا { الرحمن } الذي من عموم رحمته إقامة الآداب للتوصل إلى حسن المآب { الرحيم } الذي خص أولى الألباب بالإقبال على ما يوجب [ لهم-{[12]} ] جميل الثواب{[13]} .
ولما نوه سبحانه في القتال بذكر النبي صلى الله عليه وسلم وصرح في ابتدائها باسمه الشريف وسمى السورة به ، وملأ سورة محمد بتعظيمه ، وختمها{[60614]} باسمه ، ومدح أتباعه لأجله ، افتتح هذه باشتراط الأدب معه في القول والفعل للعد{[60615]} من حزبه والفوز بقربه ، ومدار ذلك معالي الأخلاق ، وهي إما مع الله سبحانه وتعالى أو مع رسوله صلى الله عليه وسلم أو مع غيرهما وإن كان كل قسم لا يخلو عن لحظ الآخر ، وغيرهما إما أن يكون داخلاً مع المؤمنين في رتبة الطاعة أو خارجاً عنها ، وهو الفاسق ، والداخل في طاعة المؤمنين السالك لطريقتهم إما أن يكون حاضراً عندهم أو غائباً عنهم ، فهذه خمسة أقسام ، فصل النداء بسببها خمس مرات ، كل مرة لقسم منها ، وافتتح بالله لأن الأدب معه هو الأصل الجامع للكل والأس{[60616]} الذي لا يبنى إلا عليه ، فقال منادياً للمتسمين بأول أسنان القلوب تنبيهاً{[60617]} على أن سبب نزولها من أفعالهم لا-{[60618]} من أفعال أهل الكمال ، فهو هفوة تقال ، وما كان-{[60619]} ينبغي أن يقال{[60620]} ، وليشمل الخطاب المعهود للأدنى - ولو مع النفاق - من فوقه من باب الأولى : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان { لا تقدموا } وحذف المفعول ليعم{[60621]} كل ما يصح تقديمه فيذهب الوهم-{[60622]} كل مذهب ، ويجوز أن يكون حذفه من قصد إليه أصلاً ، بل يكون النهي موجهاً إلى {[60623]}نفس التقدمة{[60624]} أي لا تتلبسوا{[60625]} بهذا الفعل ، ويجوز أن يكون من قدم - بالتشديد بمعنى أقدم وتقدم أي شجع نفسه على التقدم ، ومنه مقدمة الجيش ، وهم متقدموه{[60626]} ، وأشار إلى تهجين{[60627]} ما نهوا عنه وتصوير شناعته ، وإلى أنهم في القبضة{[60628]} ترهيباً لهم{[60629]} فقال : { بين يدي الله } أي الملك الذي لا يطاق انتقامه .
ولما كان السياق للنهي عن التقديم والتقدم ، وكان مقتضى الرسالة إنفاذ الأوامر والنواهي عن الملك من غير أن يكون من المرسل إليهم اعتراض{[60630]} أصلاً ، وبذلك استحق أن لا يتكلم بحضرته في مهم ولا يفعل مهم إلا بإذنه ، لأن العبيد{[60631]} لما لهم من النقص لا استقلال لهم بشيء أصلاً ، عبر بالرسول دون النبي بعد أن ذكر اسمه تعالى الأعظم زيادة في تصوير التعظيم فقال : { ورسوله } أي الذي عظمته ظاهرة جداً ، ولذلك قرن اسمه باسمه وذكره بذكره ، فهو تمهيد لما يأتي من تعظيمه ، فالتعبير بذلك إشارة إلى أن النفس إذا خليت وفطرتها الأولى ، امتلأت بمجرد رؤيته هيبة منه ، وإجلالاً له ، فلا يفعل أحد غير ذلك إلا بتشجيع منه لنفسه وتكليفها ضد{[60632]} ما تدعو إليه الفطرة الأولى القويمة ، فالمعنى : لا تكونوا{[60633]} متقدمين في شيء من الأشياء والله يقول الحق ويهدي السبيل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغ عنه لا ينطق عن الهوى ، فعلى الغير{[60634]} الاقتداء والاتباع ، لا الابتداء والابتداع ، سواء كان النبي صلى الله عليه وسلم غائباً أو حاضراً بموت أو غيره .
فإن {[60635]}آثاره كعينه{[60636]} ، فمن بذل الجهد فيها هدي للأصلح{[60637]} ،
{ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا }[ العنكبوت : 69 ] .
ولما استعار للدلالة على القدرة التعبير باليدين وصور البينة ترهيباً من انتقام القادر إذا خولف ، صرح بذلك بقوله تعالى : { واتقوا الله } أي اجعلوا بينكم وبين غضب-{[60638]} الملك الأعظم وقاية ، فإن التقوى مانعة من أن تضعيوا حقه وتخالفوا أمره وتقدموا على شيء لم تعلموا رضاه فيه .
ولما كان سبحانه مع كل بعلمه ، وأقرب إليه من نفسه ، فكان مع ذلك غيباً محضاً لكونه محتجباً برداء الكبر وإزار العظمة والقهر ، وكان الإنسان لما غاب عنه نساء{[60639]} ، ذكره مرهباً{[60640]} بقوله مستأنفاً أو معللاً مؤكداً{[60641]} تنبيهاً على ما في ذلك من الغرابة والعظمة التي يحق للإنسان مجاهدة نفسه لأجلها في الإيمان به{[60642]} والمواظبة على الاستمرار على استحضاره ، لأن أفعال العاصي أفعال من ينكره : { إن الله } أي الذي له الإحاطة بصفات{[60643]} الكمال . ولما كان-{[60644]} ما يتقدم{[60645]} فيه إما قولاً أو فعلاً قال : { سميع } أي لأقوالكم أن تقولوها{[60646]} { عليم * } أي بأعمالكم{[60647]} قبل أن تعملوها .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما وصف سبحانه عباده المصطفين صحابة نبيه والمخصوصين {[60648]}بفضيلة مشاهدته{[60649]} وكريم عشرته فقال{ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم }[ الفتح : 29 ] " {[60650]}إلى آخره{[60651]} " ، فأثنى سبحانه عليهم وذكر وصفه تعالى بذلك في التوراة والإنجيل ، وهذه خصيصة {[60652]}انفردوا بمزية تكريمها{[60653]} وجرت على واضح قوله تعالى{ كنتم خير أمة أخرجت{[60654]} للناس تأمرون بالمعروف }[ آل عمران : 110 ] إلى آخره{[60655]} ، وشهدت لهم بعظيم{[60656]} المنزلة لديه ، ناسب هذا طلبهم بتوفية الشعب الإيمانية{[60657]} قولاً وعملاً ظاهراً وباطناً على أوضح عمل وأخلص نية ، وتنزيههم{[60658]} عما وقع من{[60659]} قبلهم في{[60660]} مخاطبات أنبيائهم كقول بني إسرائيل{ يا موسى ادع لنا ربك }[ الأعراف : 134 ] إلى-{[60661]} ما شهد من هذا الضرب بسوء حالهم فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } الآية و-{[60662]} { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول } - إلى قوله - { والله غفور رحيم } فطلبوا بآداب تناسب عليّ إيمانهم{[60663]} وإن اغتفر بعضه لغيرهم من ليس في درجتهم وقد قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين فكأن قد قيل-{[60664]} لهم : لا تغفلوا ما منح{[60665]} لكم في التوراة والإنجيل ، فإنها{[60666]} درجة لم ينلها غيركم{[60667]} من الأمم فقابلوها بتنزيه أعمالكم عن أن يتوهم في ظواهرها أنها صدرت عن عدم اكتراث{[60668]} في الخطاب ، أو{[60669]} سوء قصد في الجواب ، وطابقوا بين {[60670]}ظواهركم وبواطنكم{[60671]} و{[60672]}ليكن علنكم{[60673]} منبئاً بسليم سرائركم { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } ثم عرفوا بسوء حال من عدل به عن هذه الصفة فقال تعالى { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } ثم أمروا بالتثبت عند نزغة الشيطان ، أو تقول ذي بهتان { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ } الآية ، ثم أمرهم بصلاح ذات بينهم والتعاون في ذلك بقتال الباغين العتاة{[60674]} وتحسين العشرة والتزام{[60675]} ما يثمر الحب والتودد الإيماني والتواضع ، وأن الخير كله في التقوى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وكل ذلك محذر لعلي صفاتهم التي وصفوا بها في خاتمة سورة الفتح .