تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

أهداف سورة الملك

( سورة الملك مكية ، وآياتها 30 آية ، نزلت بعد سورة الطور ) .

وسورة الملك لها من اسمها أكبر نصيب ، إنها سورة تعرض بركات الله في هذه الدنيا ، وقدرته العالية ، وحكمته السامية ، فهو الخالق الرزاق المهيمن ، المدبر الحكيم المبدع ، الذي أبدع كل شيء خلقه .

وتستلفت السورة نظر الإنسان إلى خلق الأرض ، وخلق السماء والطير والرزق ، والسمع والأبصار ، والموت والحياة ، والزرع والثمار ، والماء والهواء والفضاء .

وتحث القلب على التفكير والتأمل ، والنظر في ملكوت السماوات والأرض ، وتهيج فيه البحث والاستنباط ليصل بنفسه إلى التعرف على قدرة الله وجلاله ، وسابغ فضله على الناس أجمعين .

مطلع السورة :

مطلع السورة مطلع جامع يهز القلب هزا ، وينبه إلى بركات الله ونعمه وقدرته :

تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير . ( الملك : 1 ) .

وعن حقيقة الملك والقدرة ، تتفرع سائر الصور التي عرضتها السورة ، وسائر الحركات المغيبة والظاهرة ، والتي نبهت القلوب إليها .

( فمن الملك ومن القدرة كان خلق الموت والحياة ، وكان الابتلاء بهما ، وكان خلق السماوات وتزيينها بالمصابيح ، وجعلها رجوما للشياطين ، وكان إعداد جهنم بوصفها وهيئتها وخزنتها ، وكان العلم بالسر والجهر ، وكان جعل الأرض ذلولا للبشر ، وكان الخسف والحاصب والنكير على المكذبين ، وكان إمساك الطير في السماء ، وكان القهر والاستعلاء ، وكان الرزق كما يشاء ، وكان الإنشاء ، وهبة السمع والأبصار والأفئدة ، وكان الخلق في الأرض والحشر ، وكان الاختصاص بعلم الآخرة ، وكان عذاب الكافرين ، وكان الماء الذي به الحياة ، فكل حقائق السورة وموضوعاتها مستمدة من ذلك المطلع ومدلوله الشامل الكبير )i .

مع آيات السورة

1- تبدأ السورة بتمجيد الله سبحانه بقوله : تبارك الذي بيده الملك . . . ( الملك : 1 ) . فهو كثير البركة تفيض بركته على عباده ، وهو المالك المهيمن على الخلق ، وهو القادر قدرة مطلقة بلا حدود ولا قيود ، يخلق ما يشاء ، ويفعل ما يريد ، وهو على كل شيء قدير .

2- ومن آثار قدرته أنه خلق الموت السابق على الحياة واللاحق بها ، وخلق الحياة وهي تشمل الحياة الأولى والحياة الآخرة ، ليمتحن الإنسان بالوجود والاختيار والعقل والكسب ، حتى يعمل في الحياة الأولى ليرى جزاء عمله في الحياة الآخرة .

3- يوجه القرآن النظر إلى خلق السماوات السبع ، ويذكر أنها طبقات على أبعاد متفاوتة ، وليس في خلقها خلل ولا اضطراب . وانظر إليها بعينيك فهل تستطيع أن تجد بها نقصا أو عيباّ ؟

4- تأمل كثيرا في هذا الكون وشاهد عجائبه ، فلن تجد فيه إلا الإبداع والتنسيق ، والضبط والإحكام .

5- لقد رفع الله السماء الدنيا ، وخلق فيها الكواكب والنجوم زينة السماء ، وهداية للمسافرين ، وهذه النجوم منها الباهر الزاهر والخافت ، والمنفرد والمجتمع ، ولكل نجم مكان ومسار وطريق خاص ، وهذه النجوم منها شهب تنزل على الشياطين الذين يحاولون استراق السمع ، والتنصت على كلام الملائكة ، فيرجمون بالشهب التي تقتلهم أو تخبلهم .

6- ومن كفر بالله فإنه يستحق عذاب جهنم ، وبئس هذا المصير .

7- إن جهنم تتميز غيظا على من عصى الله ، وتغلي وتفور حنقا على الكفار .

8- كلما ألقى جماعة من الكفار في النار ، سألهم خزنة جهنم : ألم يأتكم رسول ينذركم هول هذا اليوم ؟

9- ويجيب الكفار بأن الرسول قد جاءنا ، ولكن العمى أضلنا فكذبنا بالرسول ، وقلنا : ما أنزل الله من وحي ولا رسالة ، واتهمنا الرسول بالضلال والكذب .

10- ولو حكمنا عقلنا وسمعنا لاهتدينا إلى الحق وآمنا ، وحفظنا أنفسنا من هذا الهلاك ومن هذا العذاب .

11- لقد جاء هذا الاعتراف بالذنب متأخرا في غير وقته ، فسحقا وعذابا لأصحاب جهنم ، حيث لا يؤمنون إلا بعد فوات الأوان .

12- إن المؤمن يحس برقابة الله عليه ، ويخشى عقابه وإن لم يره بعينه ، أو يخشى ربه وهو في خفية عن الأعين ، غائب عن أعين الناس . وله مغفرة وأجر كبير جزاء عمله .

13- ما يفعله العبد مكشوف أما الله ، وسيان أجهرتم بأقوالكم أم أسررتم بها فالله مطلع عليها .

14- ألا يعلم الخالق الأشياء التي خلقها ؟ وهو سبحانه عالم بخفيات الأمور ودقائقها ، وهو اللطيف الخبير .

15- ثم ينتقل بهم السياق من ذوات أنفسهم إلى الأرض التي خلقها الله لهم وذللها وأودعها أسباب الحياة .

فهذه الأرض تدور حول نفسها بسرعة ألف ميل في الساعة ، ثم تدور حول الشمس بسرعة حوالي خمسة وستين ألف ميل في الساعة ، ومع هذه السرعة يبقى الإنسان على ظهرها آمنا مستريحا مطمئنا .

وقد جعل الله الهواء المحيط بالأرض محتويا للعناصر التي تحتاج إليها الحياة بالنسب الدقيقة اللازمة . فنسبة الأكسجين 21% ونسبة الأزوت أو النتروجين 78% والبقية من ثاني أكسيد الكربون وعناصر أخرى . وهذه النسب هي اللازمة لقيام الحياة على الأرض .

وحجم الأرض وحجم الشمس وحجم القمر ، وبعد الأرض عن الشمس والقمر ، كل ذلك بنسب لازمة لاستمرار الحياة على ظهر الأرض .

إن الحيوان يستنشق الهواء فيمتص الأكسجين ويخرج ثاني أكسيد الكربون ، والنباتات تمتص ثاني أكسيد الكربون ، وبكيمياء سحرية يغذى النبات نفسه ، ويخرج الأكسجين الذي نتنفسه وبدونه تنتهي الحياة بعد خمس دقائق ، ولو كانت هذه المقايضة غير موجودة ، فإن الحياة الحيوانية أو النباتية كانت تستنفد في النهاية كل الأكسجين أو كل ثاني أكسيد الكربون تقريبا ، ومتى انقلب التوازن تماما ذوى النبات أو مات الإنسان .

والأرزاق المخبوءة في جوف الأرض من معادن جامدة وسائلة كلها ترجع إلى طبيعة تكوين الأرض والأحوال التي لابستها ، والله يتفضل على الإنسان بتخسير الأرض والنبات والفضاء والهواء له : فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه . . . ( الملك : 15 ) . وإلى الله النشور والرجوع في يوم الحساب .

16 ، 17- هذه الأرض الذلول التي يأمن الإنسان عليها ويهدأ ويستريح تتحول –إذا أراد الله- إلى دابة جامحة فيها الزلازل والبراكين ، كما يمكن أن ينزل الله الصواعق والعواصف الجامحة التي تعصف بالإنسان وتدمره : ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء . . . ( الرعد : 13 ) .

18- ولقد كذب الكفار السابقون رسلهم ، فعاقبهم الله أشد العقوبة ، لقد غرق قوم نوح ، وأهلكت ثمود بصاعقة ، وأهلكت عاد بريح عاتية ، وأهلك فرعون وقومه بالغرق في بحر القلزم ( البحر الأحمر ) .

إن الإنسان قوى بالقدر الذي وهبه الله من القوة ، ولكن هذا الكون الهائل زمامه في يد خالقه ، ونواميسه من صنعه ، وما يصيب الإنسان منها مقدر مرسوم ، إنا كل شيء خلقناه بقدر . ( القمر : 49 ) .

19- فليتأمل الإنسان أسراب الطير ترتفع وتنخفض ، وتبسط أجنحتها وتقبضها ، في حركة ممتعة تدعو إلى التأمل والتدبر ، فقدرة الله ممسكة بهذا الطائر ، في قبضه وبسطه ، والله سبحانه ييسر له أمره ، ويهيئ وينسق ويعطي القدرة ، ويرعى كل شيء في كل لحظة ، رعاية الخبير البصير .

20- من هذا الذي يحميكم من بطش الله وغضبه ؟ من هذا الذي يدفع عنكم بأس الرحمان إلا الرحمان ؟ إن الكافر في غرور ، يظن أنه آمن بعيد عن بطش الله به ، وما هو ببعيد .

21- من يرزق البشر إن أمسك الله الماء ، أو أمسك الهواء ، أو أمسك الحياة عنهم ؟ إن بعض النفوس تعرض عن الله في طغيان وتبجج ونفور ، مع أنها تعيش عالة على الله في حياتها ورزقها .

22- ترسم الآية مشهد جماعة يمشون على وجوههم ، أو يتعثرون وينكبون على وجوههم لا هدف لهم ولا طريق ، ومشهد جماعة أخرى تسير مرتفعة الهامات مستقيمة الخطوات في طريق مستقيم لهدف مرسوم ، ثم تستفهم أيهما أهدى ؟ .

23 – لقد خلق الله الناس ، وجعل لهم السمع ليسمعوا ، والأبصار ليروا ، والأفئدة ليتفكروا في جليل قدرة الله ، ولكن الإنسان قلما يفكر في شكر نعمة الله عليه ، وامتثال أمره واجتناب نواهيه ، والاعتراف له بالفضل والمنة .

( ويذكر العلم أن حاسة السمع تبدأ بالأذن الخارجية ، والصوت ينتقل منها إلى طبلة الأذن ثم ينتقل إلى التيه داخل الأذن ، والتيه يشتمل على أربعة آلاف قوس صغيرة ، متصلة بعصب السمع في الرأس ، وفي الأذن مائة ألف خلية سمعية ، وتنتهي الأعصاب بأهداب دقيقة ، دقة وعظمة تحير الألباب .

ومركز حاسة الإبصار العين ، التي تحتوي على مائة وثلاثين مليونا من مستقبلات الضوء ، وهي أطراف أعصاب الإبصار ، وتتكون العين من الصلبة والقرنية والمشيمة والشبكية . . وذلك بخلاف العدد الهائل من الأعصاب والأوعية )ii .

أما الأفئدة فهي هذه الخاصية التي صار بها الإنسان إنسانا ، وهي قوة الإدراك والتمييز ، والمعرفة التي استخلف الله بها الإنسان في هذا الملك العريض .

24- إن ربكم هو الذي برأكم في الأرض ، وبعثكم في أرجائها على اختلاف ألسنتكم وألوانكم ، وأشكالكم وصوركم ، وكما بدأكم يعيدكم ، وإليه تحشرون وترجعون .

25- ويسألون سؤال الشاك المستريب عن يوم الجزاء والحساب .

26- قل علم هذا اليوم عند الله ، وما علي إلا البلاغ والبيان ، أما العلم فعند صاحب العلم ، الواحد بلا شريك .

27- ولو أذن الله لرأى البشر يوم الحساب واقعا لا محالة ، وعند هذه المفاجأة ورؤية الحساب والجزاء ، سيظهر الحزن والاستياء عليهم ، وتؤنبهم الملائكة ، وتقول لهم : هذا هو اليوم الذي كنتم تستعجلون وقوعه . والآية جرت على طريقة القرآن في عرض ما سيكون حاضرا مشاهدا ، بمفاجأة شعورية تصويرية ، تقف المكذب والشاك وجها لوجه مع مشهد حاضر لما يكذب به أو يشك فيه .

28- روى أن كفار مكة كانوا يتربصون بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يهلك فيستريحوا منه ومن دعوته ، فقال لهم القرآن : سواء أهلك النبي حسب أمانيهم ، أو رحمه الله ومن معه ، فلن يغير ذلك من وضعهم ، لأن عذابا أليما ينتظرهم ، ولن تجيرهم الأصنام ، ولن يجيرهم من الرحمان إلا الإيمان .

29- إن المؤمنين في قربى من الرحمان ، فهم يؤمنون به ويتوكلون عليه ، وهم موصولون بالله ، منتسبون إليه . وسيتبين للكافرين من الضال ومن المهتدي ، ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة .

30- أخبروني إن ذهب ماؤكم في الأرض ، ولم تصل إليه الدلاء ، من يأتيكم بماء جار نابع فائض متدفق ، تشربونه عذبا زلالا .

وهكذا تختم السورة بهذه اللمسة القريبة من القلب ، تذكره بفضل الله الذي أجرى الماء ، ولو شاء لحرم الإنسان مصدر الحياة ، ولا ينقذ الإنسان من الله إلا الله ، قال تعالى : ففرّوا إلى الله . . . ( الذاريات : 50 ) .

المعنى الإجمالي للسورة

قال الفيروزبادي :

معظم مقصود السورة : بيان استحقاق الله الملك ، وخلق الحياة والموت للتجربة والاختبار ، والنظر إلى السماوات للعبرة ، واشتعال النجوم والكواكب للزينة ، وما أعد للمنكرين من العذاب والعقوبة ، وما وعد به المتقون من الثواب والكرامة ، وتأخير العذاب عن المستحقين بالفضل والرحمة ، وحفظ الطيور في الهواء بكمال القدرة ، واتصال الرزق إلى الخليقة بالنوال والمنة ، وبيان حال أهل الضلالة والهداية ، وتعجيل الكفار بمجيء يوم القيامة ، وتهديد المشركين بزوال النعمة بقوله : فمن يأتيكم بماء معين . ( الملك : 30 ) .

أسماء السورة

لسورة تبارك في القرآن والسنة سبعة أسماء :

( سورة الملك لمفتتحها . والمنجية لأنها تنجي قارئها من العذاب . والمانعة لأنها تمنع قارئها من عذاب القبر . والدافعة لأنها تدفع بلاء الدنيا وعذاب الآخرة عن قارئها . والشافعة لأنها تشفع في القيامة لقارئها . والمجادلة لأنها تجادل منكرا ونكيرا ، فتناظرهما كيلا يؤذيا قارئها ، والمخلصة لأنها تخاصم زبانية جهنم ، لئلا يكون لهم يد على قارئها )iii .

وفي شأن السورة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية ، شفعت لرجل فأخرجته من النار وأدخلته الجنة ، وهي سورة تبارك )iv .

من دلائل القدرة

بسم الله الرحمان الرحيم

{ تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير 1 الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور 2 الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور 3 ثم ارجع البصر كرّتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير 4 ولقد زيّنّّّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير5 }

المفردات :

تبارك : تعالى وتمجّد ، أو تكاثر خيره .

الذي بيده الملك : له الأمر والنهي والسلطان .

1

التفسير :

1-تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير .

تعاظمت بركة الله تعالى ، فهو سبحانه مالك الملك ، يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء ، بيده الخلق والأمر ، كل يوم هو في شأن ، يضع رفيعا ويرفع وضيعا ، يفقر غنيّا ويغني فقيرا ، يبتلي معافى ويعافي مبتلى ، يخفض أقواما ويرفع آخرين .

وهو على كل شيء قدير .

هو سبحانه القادر على كلّ شيء ، له القدرة التامة ، والتصرف الكامل في كلّ الأمور ، من غير منازع ولا مدافع .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (1)

{ تبارك } تعالى وتعاظم جل وعلا . أو كثر خيره ودام [ آية 54 الأعراف ص 264 ]{ الملك } بالضم : السلطان والقدرة ، ونفاذ الأمر .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الملك مكية وآياتها ثلاثون ، نزلت بعد سورة الطور . ويحتوي هذا الجزء على إحدى عشرة سورة ، كلها مكية ما عدا سورة الإنسان فإنها مدنية ، وكانت سور الجزء الذي قبله كلها مدنية . وفيه بعض سور من أوائل ما نزل من القرآن مثل المدثر ، والمزمّل والقلم . وقد سميت من قوله تعالى { تبارك الذي بيده الملك } وتسمى " الواقية " و " المنجية " لأنها تقي قارئها من عذاب القبر ، لما روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " هي المانعة ، وهي المنجية ، تنْجي من عذاب القبر " .

وموضوع السورة كشأن سائر السور المكية التي تعالج موضوع العقيدة في أصولها الكبرى . وقد تناولت أهدافا رئيسية ثلاثة هي : إثبات عظمة الله ، وقدرته على الخلق والحياة والموت .

وإقامة الأدلة على وحدانية رب العالمين .

وبيان عاقبة المكذبين الجاحدين .

فقد وُجّهت الأفكار في مطلع السورة إلى آثار قدرة الله الباهرة في الأنفس والآفاق ، وذكرت أن الله تعالى بيده المُلك والسلطان ، وهو المتصرف في هذا الكون العجيب الواسع ، وفي الكائنات بالخلق والإيجاد ، والإحياء والإماتة . وأكدت على الناس أن يفكروا في هذا الكون وما فيه من عجائب . وهنا يكرر التأكيد { ثم ارجع البصر كرّتين . . . } .

وهي تهز في النفوس جميع الصور والانطباعات والرواسب الجامدة المتخلفة من تصور الجاهلية وركودها ، وتطلق الحواس والعقل والبصيرة لترتاد آفاق الكون وأغوار النفس ، وطباق الجو ، ومسارب الماء ، وخفايا الغيوب ، فترينا يد الله المبدعة { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح } . ويُحس المرء حركة الوجود المنبعثة من قدرة الله ، وعندما يتأمل في ذلك كله يجد أن الأمر أكبر ، وأن المجال أوسع ، وأن التسليم أسلم . وكانت الحياة الدنيا تبدو في نظر أهل الجاهلية غاية الوجود ، ونهاية المطاف . وتكشف السورة الستار عن عالم آخر ما كانوا يعلمون عنه شيئا ، فتحدثهم عن الآخرة وما فيها من مواقف وعذاب وجزاء ، وتنبه إلى أن الظاهر من الدنيا ليس كل شيء ، فتشدّد أنظارهم وقلوبهم إلى عالم الغيب وإلى السماء والقدرة التي لم ترها عين ، ولم تخطر لهم على بال .

ثم يمنّ الله على هذا الخلق بأنه جعل هذه الأرض ذلولا لهم { فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور } ، والطير في السماء يرونها فوقهم باسطات أجنحتهنّ ، ولولا أن الله يمسكهن لوقعن على الأرض .

ثم تتحدث السورة عن نعم الله التي لا تحصى على الإنسان ، ومع ذلك

لا يصدّقون ويقولون : { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ؟ } . ويأتي الرد بلطافة ورزانة وأناة { قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين } .

والله سبحانه وتعالى دائما هو الرحمن الرحيم { قل هو الرحمن آمنا به ، وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين } .

ويأتي في ختام السورة إنذار شديد لهؤلاء المكذبين { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين } .

ومفتاح السورة كلها ، ومحورها الذي تشدّ إليه تلك الحركة فيها ، هو مطلعها العظيم الجامع الموحي : { تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير } .

تبارك : تعالى ربنا عما لا يليق به .

بيده الملك : له التصرف المطلق في هذا الكون .

افتتح الله تعالى هذه السورةَ الكريمة بتمجيد نفسه ، وأخبر أنّ بيدِه الملكَ والتصرفَ في جميع المخلوقات { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

مكية في قول الجميع . وتسمى الواقية والمنجية . وهي ثلاثون آية .

روى الترمذي عن ابن عباس قال : ضرب رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر ، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة " الملك " حتى ختمها ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر ، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة " الملك " حتى ختمها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر ) . قال : حديث حسن غريب . وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وددت أن " تبارك الذي بيده الملك " في قلب كل مؤمن ) ذكره الثعلبي . وعن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى أخرجته من النار يوم القيامة وأدخلته الجنة وهي سورة " تبارك " ) . خرجه الترمذي بمعناه ، وقال فيه : حديث حسن . وقال ابن مسعود : إذا وضع الميت في قبره فيؤتى من قبل رجليه ، فيقال : ليس لكم عليه سبيل ، فإنه كان يقوم بسورة " الملك " على قدميه . ثم يؤتى من قبل رأسه ، فيقول لسانه : ليس لكم عليه سبيل ، إنه كان يقرأ بي سورة " الملك " ثم قال : هي المانعة من عذاب الله ، وهي في التوراة سورة " الملك " من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب . وروي أن من قرأها كل ليلة لم يضره الفَتّان .

قوله تعالى : " تبارك " تفاعل من البركة وقد تقدم{[15174]} . وقال الحسن : تقدس . وقيل دام . فهو الدائم الذي لا أول لوجوده ولا آخر لدوامه . " الذي بيده الملك " أي ملك السموات والأرض في الدنيا والآخرة . وقال ابن عباس : بيده الملك يعز من يشاء ويذل من يشاء ، ويحيي ويميت ، ويغني ويفقر ، ويعطي ويمنع . وقال محمد بن إسحاق : له ملك النبوة التي أعز بها من اتبعه وذل بها من خالفه . " وهو على كل شيء قدير " من إنعام وانتقام .


[15174]:راجع جـ 7 ص 223.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الملك{[1]}

وتسمى تبارك والمانعة والواقية والمنجية ، قال الولي الملوي : هذه السورة كان النبي صلى الله عليه وسلم/ يحبها لكثرة علومها ، وقال : وددت لو كانت في صدر كل مسلم . مقصودها الخضوع لله لاتصافه {[2]}بكمال الملك{[3]} الدال عليه [ تمام القدرة الدال عليه- ]{[4]} قطعا أحكام المكونات الدال عليه تمام{[5]} العلم الدال عليه مع إحكام المصنوعات علم{[6]} ما في الصدور{[7]} لينتج ذلك العلم بتحتم البعث لدينونة العباد على ما هم عليه من الصلاح والعناد كما هي عادة الملوك في دينونة رعاياهم لتكمل الحكمة ، وتتم النعمة وتظهر سورة الملك ، واسمها الملك واضح في ذلك لأن الملك محل الخضوع من كل من{[8]} يرى الملك وكذا تبارك لأن من كان كذلك كان له تمام الثبات والبقاء ، وكان له من كل شيء كمال{[9]} الخضوع والاتقاء ، وكذا اسمها المانعة والواقية والمنجية لأن الخضوع حامل على لزوم طريق السعادة ، ومن لزمها نجا مما يخاف ومنع من كل هول ووقي{[10]} كل محذور ، {[11]}و ترد السؤال عمن لازم عليها وهذا من أهم الأمور{[12]} ( بسم الله ) الذي خضعت لكمال عظمته الملوك ( الرحمان ) الذي عم بنعمة الإيجاد وتبيان محل السلوك ( الرحيم ) الذي خص أولياءه بتمام الهداية وزوال الشكوك{[13]} .

لما ختمت تلك بأن من أعرض عنه سبحانه أهلكه ولم يغن عنه أحد ، ومن أقبل عليه رفعه واستخلصه ولم يضره أحد ، وختم بأنه قوى مريم عليها السلام حتى كانت في درجة الكملة{[66623]} ورزقها الرسوخ في الإخلاص ، وكان مثل هذا لا يقدر على فعله إلا من{[66624]} لا كفوء له ، وكان من لا كفوء له أهلاً لأن{[66625]} يخلص له الأعمال ولا يلتفت إلى سواه بحال ، لأنه الملك الذي يملك الملك{[66626]} قال مثيراً للهمم إلى الاستبصار المثير للإرادة إلى رياضة تثمر جميع أبواب{[66627]} السعادة : { تبارك } أي تكبر وتقدس وتعالى وتعاظم{[66628]} وثبت ثباتاً لا مثل له مع اليمن والبركة وتواتر الإحسان والعلى .

ولما كان من له الملك قد لا يكون متمكناً من إبقائه في يده ، أو إعطاء ما يريد منه لغيره ونزعه منه متى أراد قال : { الذي بيده } أي بقدرته وتصرفه لا بقدرة غيره { الملك } أي أمر ظاهر العالم فإليه كل تدبير له وتدبير فيه وبقدرته إظهار ما يريد ، لا مانع له من شيء ، ولا كفوء له بوجه ، وهو كناية عن الإحاطة والقهر ، وذكر اليد إنما هو تصوير للإحاطة ولتمام القدرة لأنها محلها{[66629]} مع التنزه عن الجارحة{[66630]} وعن كل ما يفهم حاجة أو شبهاً بالخلق .

وقال الإمام{[66631]} أبو جعفر بن الزبير : ورود ما افتتحت به هذه السورة من التنزيه وصفات التعالي ، إنما يكون عقيب تفصيل وإيراد عجائب من صنعه سبحانه ، كورود قوله تعالى " فتبارك الله أحسن الخالقين " عقيب تفصيل التقلب{[66632]} الإنساني من لدن خلقه من سلالة من طين إلى إنشائه خلقاً آخر وكذا كل {[66633]}ما ورد{[66634]} من هذا ما لم يرد أثناء أي قد جردت للتنزيه والإعلام بصفات{[66635]} التعالي و{[66636]}الجلال .

ولما كان قد{[66637]} أوقع في آخر سورة التحريم ما فيه أعظم عبرة لمن تذكر ، وأعلى آية لمن استبصر ، من ذكر امرأتين كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين قد بعثهما الله تعالى رحمة لعباده{[66638]} واجتهدا في دعاء الخلق ، فحرم الاستنارة بنورهما والعياذ بهداهما من لم يكن أحد من جنسهما أقرب إليهما منه ولا أكثر مشاهدة لما مدا به من الآيات وعظيم المعجزات ، ومع ذلك فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً ، ثم أعقبت{[66639]} هذه العظة بما جعل في طرف منها ونقيض من حالها{[66640]} ، وهو ذكر امرأة فرعون ، التي لم يغرها مرتكب صاحبها وعظيم جرأته ، مع شدة الوصلة واستمرار الألفة ، لما سبق لها في العلم القديم من{[66641]} السعادة وعظيم الرحمة فقالت :

{ رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة }[ التحريم : 11 ] وحصل في هاتين القصتين تقديم سبب رحمة حرم التمسك به أولى الناس في ظاهر الأمر وتقديم سبب امتحان{[66642]} عصم منه أقرب الناس إلى التورط فيه{[66643]} ، ثم أعقب ذلك بقصة{[66644]} عريت عن مثل هذين السببين{[66645]} وانفصلت في{[66646]} مقدماتها عن تينك القصتين ، وهو ذكر مريم ابنة عمران ، ليعلم العاقل حيث يضع الأسباب ، وأن القلوب بيد العزيز الوهاب ، أعقب تعالى ذلك .

بقوله الحق { تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير } [ الملك : 1 ] وإذا كان الملك سبحانه وتعالى بيده الملك ، فهو الذي يؤتي الملك والفضل من يشاء ، وينزعه ممن يشاء ، ويعز من يشاء ويذل من يشاء ، كما صرحت به الآية الأخرى في آل عمران ، فقد اتضح اتصال سورة الملك بما قبلها ، ثم بنيت سورة الملك على التنبيه {[66647]}والاعتبار{[66648]} ببسط الدلائل ونصب البراهين ، حسبما يبسطه التفسير - انتهى .

ولما كان المتصرف في الملك قد لا يكون قدرته تامة ولا عامة ، قال تعالى : { وهو } أي وحده له عظمة تستولي على القلوب ، وسياسة تعم كل جلب نفع{[66649]} ودفع ضرر{[66650]} لأنه { على كل شيء } أي يمكن يشاؤه من الملك وغيره من باطنه و{[66651]}هو الملكوت وغيره{[66652]} مما وجد وما لم يوجد { قدير * } أي تام القدرة .


[1]:- هكذا ثبتت العبارة في النسخة المخزونة بالرباط – المراقش التي جعلناها أصلا وأساسا للمتن، وكذا في نسخة مكتبة المدينة ورمزها "مد" وموضعها في نسخة دار الكتب المصرية ورمزها "م": رب زدني علما يا فتاح.
[2]:- في م ومد: قال أفقر الخلائق إلى عفو الخالق؛ وفي الأصل: أبو إسحاق – مكان: أبو الحسن، والتصحيح من الأعلام للزركلي ج1 ص 50 وعكس المخطوطة أمام ص 56 وهامش الأنساب للسمعاني ج2 ص280.
[3]:- ضبطه في الأعلام بضم الراء وتخفيف الباء.
[4]:- ضبطه الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله في تعليقه على الأنساب ج2 ص280 وقال: البقاعي يكسر الموحدة وفتح القاف مخففة وبعد الألف عين مهملة بلد معروف بالشام ينسب إليه جماعة أشهرهم الإمام المفسر إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي أبو الحسن برهان الدين من أجلة أهل القرن التاسع له عدة مؤلفات ولد سنة 809 وتوفي سنة 885 – اهـ.
[5]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[6]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[7]:- في م ومد وظ: برسالته.
[8]:- ليس في م ومد وظ.
[9]:- سورة 38 آية 29.
[10]:- في م وظ: اخرجه.
[11]:- ليس في م.
[12]:- ليس في م.
[13]:- في النسخ كلها: لا، وفي البخاري: ما، وقول علي رضي الله عنه نقل من البخاري فأثبتناها.
[66623]:- من ظ وم، وفي الأصل: الكلمة.
[66624]:- زيد في الأصل: كان، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[66625]:- من ظ وم، وفي الأصل: بان.
[66626]:- من ظ وم، وفي الأصل: الممالك.
[66627]:-من ظ وم، وفي الأصل: الذارع أرباب.
[66628]:- زيد من ظ.
[66629]:- زيد من ظ وم.
[66630]:- من ظ وم، وفي الأصل: الحاجة.
[66631]:- زيد من ظ وم.
[66632]:- من ظ وم، وفي الأصل: القلب.
[66633]:- من ظ وم، وفي الأصل: ورود.
[66634]:- من ظ وم، وفي الأصل: ورود.
[66635]:- من ظ وم، وفي الأصل: صفات.
[66636]:- زيد من ظ وم.
[66637]:- سقط من ظ وم.
[66638]:- زيد من ظ.
[66639]:- من ظ وم، وفي الأصل: أعقب.
[66640]:- من ظ وم، وفي الأصل: حالهما.
[66641]:- سقط من ظ وم.
[66642]:- من ظ وم، وفي الأصل: الامتحان.
[66643]:- زيد من ظ.
[66644]:- من ظ وم، وفي الأصل: قصة.
[66645]:- زيد من ظ وم.
[66646]:- من ظ وم، وفي الأصل: عن.
[66647]:- من ظ وم، وفي الأصل: بالاعتبار.
[66648]:- من ظ وم، وفي الأصل: بالاعتبار.
[66649]:- سقط من ظ وم.
[66650]:- سقط من ظ وم.
[66651]:- من ظ وم، وفي الأصل: هم الملوك وغيرهم.
[66652]:- من ظ وم، وفي الأصل: هم الملوك وغيرهم.