تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

أهداف سورة الملك

( سورة الملك مكية ، وآياتها 30 آية ، نزلت بعد سورة الطور ) .

وسورة الملك لها من اسمها أكبر نصيب ، إنها سورة تعرض بركات الله في هذه الدنيا ، وقدرته العالية ، وحكمته السامية ، فهو الخالق الرزاق المهيمن ، المدبر الحكيم المبدع ، الذي أبدع كل شيء خلقه .

وتستلفت السورة نظر الإنسان إلى خلق الأرض ، وخلق السماء والطير والرزق ، والسمع والأبصار ، والموت والحياة ، والزرع والثمار ، والماء والهواء والفضاء .

وتحث القلب على التفكير والتأمل ، والنظر في ملكوت السماوات والأرض ، وتهيج فيه البحث والاستنباط ليصل بنفسه إلى التعرف على قدرة الله وجلاله ، وسابغ فضله على الناس أجمعين .

مطلع السورة :

مطلع السورة مطلع جامع يهز القلب هزا ، وينبه إلى بركات الله ونعمه وقدرته :

تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير . ( الملك : 1 ) .

وعن حقيقة الملك والقدرة ، تتفرع سائر الصور التي عرضتها السورة ، وسائر الحركات المغيبة والظاهرة ، والتي نبهت القلوب إليها .

( فمن الملك ومن القدرة كان خلق الموت والحياة ، وكان الابتلاء بهما ، وكان خلق السماوات وتزيينها بالمصابيح ، وجعلها رجوما للشياطين ، وكان إعداد جهنم بوصفها وهيئتها وخزنتها ، وكان العلم بالسر والجهر ، وكان جعل الأرض ذلولا للبشر ، وكان الخسف والحاصب والنكير على المكذبين ، وكان إمساك الطير في السماء ، وكان القهر والاستعلاء ، وكان الرزق كما يشاء ، وكان الإنشاء ، وهبة السمع والأبصار والأفئدة ، وكان الخلق في الأرض والحشر ، وكان الاختصاص بعلم الآخرة ، وكان عذاب الكافرين ، وكان الماء الذي به الحياة ، فكل حقائق السورة وموضوعاتها مستمدة من ذلك المطلع ومدلوله الشامل الكبير )i .

مع آيات السورة

1- تبدأ السورة بتمجيد الله سبحانه بقوله : تبارك الذي بيده الملك . . . ( الملك : 1 ) . فهو كثير البركة تفيض بركته على عباده ، وهو المالك المهيمن على الخلق ، وهو القادر قدرة مطلقة بلا حدود ولا قيود ، يخلق ما يشاء ، ويفعل ما يريد ، وهو على كل شيء قدير .

2- ومن آثار قدرته أنه خلق الموت السابق على الحياة واللاحق بها ، وخلق الحياة وهي تشمل الحياة الأولى والحياة الآخرة ، ليمتحن الإنسان بالوجود والاختيار والعقل والكسب ، حتى يعمل في الحياة الأولى ليرى جزاء عمله في الحياة الآخرة .

3- يوجه القرآن النظر إلى خلق السماوات السبع ، ويذكر أنها طبقات على أبعاد متفاوتة ، وليس في خلقها خلل ولا اضطراب . وانظر إليها بعينيك فهل تستطيع أن تجد بها نقصا أو عيباّ ؟

4- تأمل كثيرا في هذا الكون وشاهد عجائبه ، فلن تجد فيه إلا الإبداع والتنسيق ، والضبط والإحكام .

5- لقد رفع الله السماء الدنيا ، وخلق فيها الكواكب والنجوم زينة السماء ، وهداية للمسافرين ، وهذه النجوم منها الباهر الزاهر والخافت ، والمنفرد والمجتمع ، ولكل نجم مكان ومسار وطريق خاص ، وهذه النجوم منها شهب تنزل على الشياطين الذين يحاولون استراق السمع ، والتنصت على كلام الملائكة ، فيرجمون بالشهب التي تقتلهم أو تخبلهم .

6- ومن كفر بالله فإنه يستحق عذاب جهنم ، وبئس هذا المصير .

7- إن جهنم تتميز غيظا على من عصى الله ، وتغلي وتفور حنقا على الكفار .

8- كلما ألقى جماعة من الكفار في النار ، سألهم خزنة جهنم : ألم يأتكم رسول ينذركم هول هذا اليوم ؟

9- ويجيب الكفار بأن الرسول قد جاءنا ، ولكن العمى أضلنا فكذبنا بالرسول ، وقلنا : ما أنزل الله من وحي ولا رسالة ، واتهمنا الرسول بالضلال والكذب .

10- ولو حكمنا عقلنا وسمعنا لاهتدينا إلى الحق وآمنا ، وحفظنا أنفسنا من هذا الهلاك ومن هذا العذاب .

11- لقد جاء هذا الاعتراف بالذنب متأخرا في غير وقته ، فسحقا وعذابا لأصحاب جهنم ، حيث لا يؤمنون إلا بعد فوات الأوان .

12- إن المؤمن يحس برقابة الله عليه ، ويخشى عقابه وإن لم يره بعينه ، أو يخشى ربه وهو في خفية عن الأعين ، غائب عن أعين الناس . وله مغفرة وأجر كبير جزاء عمله .

13- ما يفعله العبد مكشوف أما الله ، وسيان أجهرتم بأقوالكم أم أسررتم بها فالله مطلع عليها .

14- ألا يعلم الخالق الأشياء التي خلقها ؟ وهو سبحانه عالم بخفيات الأمور ودقائقها ، وهو اللطيف الخبير .

15- ثم ينتقل بهم السياق من ذوات أنفسهم إلى الأرض التي خلقها الله لهم وذللها وأودعها أسباب الحياة .

فهذه الأرض تدور حول نفسها بسرعة ألف ميل في الساعة ، ثم تدور حول الشمس بسرعة حوالي خمسة وستين ألف ميل في الساعة ، ومع هذه السرعة يبقى الإنسان على ظهرها آمنا مستريحا مطمئنا .

وقد جعل الله الهواء المحيط بالأرض محتويا للعناصر التي تحتاج إليها الحياة بالنسب الدقيقة اللازمة . فنسبة الأكسجين 21% ونسبة الأزوت أو النتروجين 78% والبقية من ثاني أكسيد الكربون وعناصر أخرى . وهذه النسب هي اللازمة لقيام الحياة على الأرض .

وحجم الأرض وحجم الشمس وحجم القمر ، وبعد الأرض عن الشمس والقمر ، كل ذلك بنسب لازمة لاستمرار الحياة على ظهر الأرض .

إن الحيوان يستنشق الهواء فيمتص الأكسجين ويخرج ثاني أكسيد الكربون ، والنباتات تمتص ثاني أكسيد الكربون ، وبكيمياء سحرية يغذى النبات نفسه ، ويخرج الأكسجين الذي نتنفسه وبدونه تنتهي الحياة بعد خمس دقائق ، ولو كانت هذه المقايضة غير موجودة ، فإن الحياة الحيوانية أو النباتية كانت تستنفد في النهاية كل الأكسجين أو كل ثاني أكسيد الكربون تقريبا ، ومتى انقلب التوازن تماما ذوى النبات أو مات الإنسان .

والأرزاق المخبوءة في جوف الأرض من معادن جامدة وسائلة كلها ترجع إلى طبيعة تكوين الأرض والأحوال التي لابستها ، والله يتفضل على الإنسان بتخسير الأرض والنبات والفضاء والهواء له : فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه . . . ( الملك : 15 ) . وإلى الله النشور والرجوع في يوم الحساب .

16 ، 17- هذه الأرض الذلول التي يأمن الإنسان عليها ويهدأ ويستريح تتحول –إذا أراد الله- إلى دابة جامحة فيها الزلازل والبراكين ، كما يمكن أن ينزل الله الصواعق والعواصف الجامحة التي تعصف بالإنسان وتدمره : ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء . . . ( الرعد : 13 ) .

18- ولقد كذب الكفار السابقون رسلهم ، فعاقبهم الله أشد العقوبة ، لقد غرق قوم نوح ، وأهلكت ثمود بصاعقة ، وأهلكت عاد بريح عاتية ، وأهلك فرعون وقومه بالغرق في بحر القلزم ( البحر الأحمر ) .

إن الإنسان قوى بالقدر الذي وهبه الله من القوة ، ولكن هذا الكون الهائل زمامه في يد خالقه ، ونواميسه من صنعه ، وما يصيب الإنسان منها مقدر مرسوم ، إنا كل شيء خلقناه بقدر . ( القمر : 49 ) .

19- فليتأمل الإنسان أسراب الطير ترتفع وتنخفض ، وتبسط أجنحتها وتقبضها ، في حركة ممتعة تدعو إلى التأمل والتدبر ، فقدرة الله ممسكة بهذا الطائر ، في قبضه وبسطه ، والله سبحانه ييسر له أمره ، ويهيئ وينسق ويعطي القدرة ، ويرعى كل شيء في كل لحظة ، رعاية الخبير البصير .

20- من هذا الذي يحميكم من بطش الله وغضبه ؟ من هذا الذي يدفع عنكم بأس الرحمان إلا الرحمان ؟ إن الكافر في غرور ، يظن أنه آمن بعيد عن بطش الله به ، وما هو ببعيد .

21- من يرزق البشر إن أمسك الله الماء ، أو أمسك الهواء ، أو أمسك الحياة عنهم ؟ إن بعض النفوس تعرض عن الله في طغيان وتبجج ونفور ، مع أنها تعيش عالة على الله في حياتها ورزقها .

22- ترسم الآية مشهد جماعة يمشون على وجوههم ، أو يتعثرون وينكبون على وجوههم لا هدف لهم ولا طريق ، ومشهد جماعة أخرى تسير مرتفعة الهامات مستقيمة الخطوات في طريق مستقيم لهدف مرسوم ، ثم تستفهم أيهما أهدى ؟ .

23 – لقد خلق الله الناس ، وجعل لهم السمع ليسمعوا ، والأبصار ليروا ، والأفئدة ليتفكروا في جليل قدرة الله ، ولكن الإنسان قلما يفكر في شكر نعمة الله عليه ، وامتثال أمره واجتناب نواهيه ، والاعتراف له بالفضل والمنة .

( ويذكر العلم أن حاسة السمع تبدأ بالأذن الخارجية ، والصوت ينتقل منها إلى طبلة الأذن ثم ينتقل إلى التيه داخل الأذن ، والتيه يشتمل على أربعة آلاف قوس صغيرة ، متصلة بعصب السمع في الرأس ، وفي الأذن مائة ألف خلية سمعية ، وتنتهي الأعصاب بأهداب دقيقة ، دقة وعظمة تحير الألباب .

ومركز حاسة الإبصار العين ، التي تحتوي على مائة وثلاثين مليونا من مستقبلات الضوء ، وهي أطراف أعصاب الإبصار ، وتتكون العين من الصلبة والقرنية والمشيمة والشبكية . . وذلك بخلاف العدد الهائل من الأعصاب والأوعية )ii .

أما الأفئدة فهي هذه الخاصية التي صار بها الإنسان إنسانا ، وهي قوة الإدراك والتمييز ، والمعرفة التي استخلف الله بها الإنسان في هذا الملك العريض .

24- إن ربكم هو الذي برأكم في الأرض ، وبعثكم في أرجائها على اختلاف ألسنتكم وألوانكم ، وأشكالكم وصوركم ، وكما بدأكم يعيدكم ، وإليه تحشرون وترجعون .

25- ويسألون سؤال الشاك المستريب عن يوم الجزاء والحساب .

26- قل علم هذا اليوم عند الله ، وما علي إلا البلاغ والبيان ، أما العلم فعند صاحب العلم ، الواحد بلا شريك .

27- ولو أذن الله لرأى البشر يوم الحساب واقعا لا محالة ، وعند هذه المفاجأة ورؤية الحساب والجزاء ، سيظهر الحزن والاستياء عليهم ، وتؤنبهم الملائكة ، وتقول لهم : هذا هو اليوم الذي كنتم تستعجلون وقوعه . والآية جرت على طريقة القرآن في عرض ما سيكون حاضرا مشاهدا ، بمفاجأة شعورية تصويرية ، تقف المكذب والشاك وجها لوجه مع مشهد حاضر لما يكذب به أو يشك فيه .

28- روى أن كفار مكة كانوا يتربصون بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يهلك فيستريحوا منه ومن دعوته ، فقال لهم القرآن : سواء أهلك النبي حسب أمانيهم ، أو رحمه الله ومن معه ، فلن يغير ذلك من وضعهم ، لأن عذابا أليما ينتظرهم ، ولن تجيرهم الأصنام ، ولن يجيرهم من الرحمان إلا الإيمان .

29- إن المؤمنين في قربى من الرحمان ، فهم يؤمنون به ويتوكلون عليه ، وهم موصولون بالله ، منتسبون إليه . وسيتبين للكافرين من الضال ومن المهتدي ، ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة .

30- أخبروني إن ذهب ماؤكم في الأرض ، ولم تصل إليه الدلاء ، من يأتيكم بماء جار نابع فائض متدفق ، تشربونه عذبا زلالا .

وهكذا تختم السورة بهذه اللمسة القريبة من القلب ، تذكره بفضل الله الذي أجرى الماء ، ولو شاء لحرم الإنسان مصدر الحياة ، ولا ينقذ الإنسان من الله إلا الله ، قال تعالى : ففرّوا إلى الله . . . ( الذاريات : 50 ) .

المعنى الإجمالي للسورة

قال الفيروزبادي :

معظم مقصود السورة : بيان استحقاق الله الملك ، وخلق الحياة والموت للتجربة والاختبار ، والنظر إلى السماوات للعبرة ، واشتعال النجوم والكواكب للزينة ، وما أعد للمنكرين من العذاب والعقوبة ، وما وعد به المتقون من الثواب والكرامة ، وتأخير العذاب عن المستحقين بالفضل والرحمة ، وحفظ الطيور في الهواء بكمال القدرة ، واتصال الرزق إلى الخليقة بالنوال والمنة ، وبيان حال أهل الضلالة والهداية ، وتعجيل الكفار بمجيء يوم القيامة ، وتهديد المشركين بزوال النعمة بقوله : فمن يأتيكم بماء معين . ( الملك : 30 ) .

أسماء السورة

لسورة تبارك في القرآن والسنة سبعة أسماء :

( سورة الملك لمفتتحها . والمنجية لأنها تنجي قارئها من العذاب . والمانعة لأنها تمنع قارئها من عذاب القبر . والدافعة لأنها تدفع بلاء الدنيا وعذاب الآخرة عن قارئها . والشافعة لأنها تشفع في القيامة لقارئها . والمجادلة لأنها تجادل منكرا ونكيرا ، فتناظرهما كيلا يؤذيا قارئها ، والمخلصة لأنها تخاصم زبانية جهنم ، لئلا يكون لهم يد على قارئها )iii .

وفي شأن السورة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية ، شفعت لرجل فأخرجته من النار وأدخلته الجنة ، وهي سورة تبارك )iv .

من دلائل القدرة

بسم الله الرحمان الرحيم

{ تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير 1 الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور 2 الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور 3 ثم ارجع البصر كرّتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير 4 ولقد زيّنّّّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير5 }

المفردات :

تبارك : تعالى وتمجّد ، أو تكاثر خيره .

الذي بيده الملك : له الأمر والنهي والسلطان .

1

التفسير :

1-تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير .

تعاظمت بركة الله تعالى ، فهو سبحانه مالك الملك ، يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء ، بيده الخلق والأمر ، كل يوم هو في شأن ، يضع رفيعا ويرفع وضيعا ، يفقر غنيّا ويغني فقيرا ، يبتلي معافى ويعافي مبتلى ، يخفض أقواما ويرفع آخرين .

وهو على كل شيء قدير .

هو سبحانه القادر على كلّ شيء ، له القدرة التامة ، والتصرف الكامل في كلّ الأمور ، من غير منازع ولا مدافع .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (1)

{ تبارك } تعالى وتعاظم جل وعلا . أو كثر خيره ودام [ آية 54 الأعراف ص 264 ]{ الملك } بالضم : السلطان والقدرة ، ونفاذ الأمر .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الملك مكية وآياتها ثلاثون ، نزلت بعد سورة الطور . ويحتوي هذا الجزء على إحدى عشرة سورة ، كلها مكية ما عدا سورة الإنسان فإنها مدنية ، وكانت سور الجزء الذي قبله كلها مدنية . وفيه بعض سور من أوائل ما نزل من القرآن مثل المدثر ، والمزمّل والقلم . وقد سميت من قوله تعالى { تبارك الذي بيده الملك } وتسمى " الواقية " و " المنجية " لأنها تقي قارئها من عذاب القبر ، لما روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " هي المانعة ، وهي المنجية ، تنْجي من عذاب القبر " .

وموضوع السورة كشأن سائر السور المكية التي تعالج موضوع العقيدة في أصولها الكبرى . وقد تناولت أهدافا رئيسية ثلاثة هي : إثبات عظمة الله ، وقدرته على الخلق والحياة والموت .

وإقامة الأدلة على وحدانية رب العالمين .

وبيان عاقبة المكذبين الجاحدين .

فقد وُجّهت الأفكار في مطلع السورة إلى آثار قدرة الله الباهرة في الأنفس والآفاق ، وذكرت أن الله تعالى بيده المُلك والسلطان ، وهو المتصرف في هذا الكون العجيب الواسع ، وفي الكائنات بالخلق والإيجاد ، والإحياء والإماتة . وأكدت على الناس أن يفكروا في هذا الكون وما فيه من عجائب . وهنا يكرر التأكيد { ثم ارجع البصر كرّتين . . . } .

وهي تهز في النفوس جميع الصور والانطباعات والرواسب الجامدة المتخلفة من تصور الجاهلية وركودها ، وتطلق الحواس والعقل والبصيرة لترتاد آفاق الكون وأغوار النفس ، وطباق الجو ، ومسارب الماء ، وخفايا الغيوب ، فترينا يد الله المبدعة { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح } . ويُحس المرء حركة الوجود المنبعثة من قدرة الله ، وعندما يتأمل في ذلك كله يجد أن الأمر أكبر ، وأن المجال أوسع ، وأن التسليم أسلم . وكانت الحياة الدنيا تبدو في نظر أهل الجاهلية غاية الوجود ، ونهاية المطاف . وتكشف السورة الستار عن عالم آخر ما كانوا يعلمون عنه شيئا ، فتحدثهم عن الآخرة وما فيها من مواقف وعذاب وجزاء ، وتنبه إلى أن الظاهر من الدنيا ليس كل شيء ، فتشدّد أنظارهم وقلوبهم إلى عالم الغيب وإلى السماء والقدرة التي لم ترها عين ، ولم تخطر لهم على بال .

ثم يمنّ الله على هذا الخلق بأنه جعل هذه الأرض ذلولا لهم { فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور } ، والطير في السماء يرونها فوقهم باسطات أجنحتهنّ ، ولولا أن الله يمسكهن لوقعن على الأرض .

ثم تتحدث السورة عن نعم الله التي لا تحصى على الإنسان ، ومع ذلك

لا يصدّقون ويقولون : { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ؟ } . ويأتي الرد بلطافة ورزانة وأناة { قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين } .

والله سبحانه وتعالى دائما هو الرحمن الرحيم { قل هو الرحمن آمنا به ، وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين } .

ويأتي في ختام السورة إنذار شديد لهؤلاء المكذبين { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين } .

ومفتاح السورة كلها ، ومحورها الذي تشدّ إليه تلك الحركة فيها ، هو مطلعها العظيم الجامع الموحي : { تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير } .

تبارك : تعالى ربنا عما لا يليق به .

بيده الملك : له التصرف المطلق في هذا الكون .

افتتح الله تعالى هذه السورةَ الكريمة بتمجيد نفسه ، وأخبر أنّ بيدِه الملكَ والتصرفَ في جميع المخلوقات { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الملك [ وهي ] مكية .

{ 1 - 4 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ } .

{ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } أي : تعاظم وتعالى ، وكثر خيره ، وعم إحسانه ، من عظمته أن بيده ملك العالم العلوي والسفلي ، فهو الذي خلقه ، ويتصرف فيه بما شاء ، من الأحكام القدرية ، والأحكام الدينية التابعة لحكمته ، ومن عظمته ، كمال قدرته التي يقدر بها على كل شيء ، وبها أوجد ما أوجد من المخلوقات العظيمة ، كالسماوات والأرض .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (1)

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

مكية في قول الجميع . وتسمى الواقية والمنجية . وهي ثلاثون آية .

روى الترمذي عن ابن عباس قال : ضرب رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر ، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة " الملك " حتى ختمها ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر ، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة " الملك " حتى ختمها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر ) . قال : حديث حسن غريب . وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وددت أن " تبارك الذي بيده الملك " في قلب كل مؤمن ) ذكره الثعلبي . وعن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى أخرجته من النار يوم القيامة وأدخلته الجنة وهي سورة " تبارك " ) . خرجه الترمذي بمعناه ، وقال فيه : حديث حسن . وقال ابن مسعود : إذا وضع الميت في قبره فيؤتى من قبل رجليه ، فيقال : ليس لكم عليه سبيل ، فإنه كان يقوم بسورة " الملك " على قدميه . ثم يؤتى من قبل رأسه ، فيقول لسانه : ليس لكم عليه سبيل ، إنه كان يقرأ بي سورة " الملك " ثم قال : هي المانعة من عذاب الله ، وهي في التوراة سورة " الملك " من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب . وروي أن من قرأها كل ليلة لم يضره الفَتّان .

قوله تعالى : " تبارك " تفاعل من البركة وقد تقدم{[15174]} . وقال الحسن : تقدس . وقيل دام . فهو الدائم الذي لا أول لوجوده ولا آخر لدوامه . " الذي بيده الملك " أي ملك السموات والأرض في الدنيا والآخرة . وقال ابن عباس : بيده الملك يعز من يشاء ويذل من يشاء ، ويحيي ويميت ، ويغني ويفقر ، ويعطي ويمنع . وقال محمد بن إسحاق : له ملك النبوة التي أعز بها من اتبعه وذل بها من خالفه . " وهو على كل شيء قدير " من إنعام وانتقام .


[15174]:راجع جـ 7 ص 223.