فضرب الرقاب : أصله : اضربوا الرقاب ضربا ، فحذف الفعل ، وقدم المصدر .
أثخنتموهم : أكثرتم قتلهم وأغلظتموه ، أي جعلتموه ثخينا غليظا .
فشدوا الوثاق : فأسروهم ، وأحكموا قيد من أسرتموهم ، بعد إثخانهم بكثرة القتل وإضعافهم بالجراح ، والوَثاق والوِثاق : ما يوثق به ، أي : ما يربط به .
المن : إطلاق الأسير بغير عوض .
حتى تضع الحرب أوزارها : آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح ، وهو كناية عن انتهاء الحرب .
لانتصر منهم : لانتقم منهم بغير الحرب كالزلزلة .
فلم يضل أعمالهم : فلن يضيعها .
4- { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } .
تشجع الآية المسلمين على الجهاد ، والقوة عند الحرب مع المشركين ، وأهل الكتاب المعتدين .
إذا لقيتم الكافرين في الحرب فاحصدوهم حصدا ، واضربوا رقابهم ضربا قاتلا بالسيف ، حتى إذا تمكنتم منهم ، وأكثرتم فيهم القتل والجراح واستسلموا لكم .
{ فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها . . . }
أي : إحكام وثاق الأسرى حتى لا يفلتوا من أيديكم ولا يهربوا ، والإمام مفوض في اتخاذ الحل الأمثل والأنسب ، فله أن يمن عليهم ويطلق سراحهم بدون فداء وله أن يأخذ الفداء من الأسرى ، أو يبادلهم بأسرى المسلمين ، ونلاحظ أن قتل الكافرين مقيد بفترة الحرب ، فإذا انتهت الحرب ووقع جانب منهم في الأسر فلا يجوز أن يقتل الأسير .
أخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، عن الحسن ، قال : أُتي الحجاج بأُسارى ، فدفع إلى ابن عمر رجلا يقتله ، فقال ابن عمر : ليس بهذا أُمرنا ، إنما قال الله تعالى : { حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء . . . }
ومن ذلك نلمح روح الإسلام في الحرص على السلام ، فالحرب في الإسلام ضرورة لوقف العدوان ، وإزالة طواغيت الكفر ، ثم ترك الناس أحرار في عقيدتهم .
قال تعالى : { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي . . . } ( البقرة : 256 ) .
وقال عز شأنه : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله . . . } ( الأنفال : 61 ) .
{ حتى تضع الحرب أوزارها . . . }
حتى تنتهي الحرب ، وبعد الحرب أحكام يجب احترامها ، ومعاهدات يجب المحافظة عليها .
{ ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض . . . }
أي : ذلك هو الحكم في قتال الكافرين ، والغلظة والشدة في حربهم ، ولو أراد الله لانتصر منهم ، بإهلاكهم وتعذيبهم بما شاء من أنواع العذاب ، كالخسف والرجفة والغرق ، دون قتال منكم أيها المؤمنون ، لكن الله تعالى أراد امتحان المؤمنين وابتلاءهم بإيجاب القتال عليهم ، حتى يرى منهم امتثال أوامره ، والرغبة في الشهادة ، واحتمال الجهاد والقتال والجراح والآلام .
قال تعالى : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } . ( البقرة : 216 ) .
فالله تعالى يريد إعداد المؤمنين ، وخلق روح الكفاح والقتال فيهم ، وفي غزوة بدر رغب بعض المؤمنين في الاستيلاء على تجارة قريش عوضا عن أموالهم التي اغتصبها الكفار بمكة ، وأراد الله أن يجعل من بدر ملحمة ، حتى يحق الحق وينصر الإسلام ، بسبب بطولة المسلمين وجهادهم وبلائهم .
قال تعالى : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * وليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون } . ( الأنفال : 7 ، 8 ) .
{ والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم } .
إن هؤلاء الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم وأنفسهم ، وجادوا بها لنصر دين الله ، هؤلاء لن يذهب عملهم سدى ، ولن يضيع عملهم ولن يحبط ، ولن يفقد ثوابه وجزاءه ، وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين )3 .
{ فإذا لقيتم الذين كفروا } أمر بجهادهم بعد بيان خسرانهم . والمراد بهم : المشركون ومن لا ذمة لهم من أهل الكتاب . { فضرب الرقاب } أي فاضربوا رقابهم ضربا في الحرب ؛ فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه مضافا إلى المفعول به . وهو مجاز عن القتل ، وعبر به عنه لتصوير القتل بأبشع صورة ، وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وأشرف أعضائه . { حتى إذا أثخنتموهم } أكثرتم فيهم القتل ، وأوهنتموهم بالجراح ، ومنعتموهم النهوض والحركة . { فشدوا الوثاق } فأحكموا قيد من أسرتموهم ؛ لئلا يفلتوا منكم . يقال : أثخن في الأرض إثخانا ، سار إلى العدو وأوسعهم قتلا .
وأثخنته : أوهنته بالجراحة وأضعفته . والوثاق – بالفتح والكسر - : اسم لما يوثق به ؛ كالقيد والحبل ونحوه . وجمعه وثق ؛ كعناق وعنق . { فإما منا بعد وما فداء } أي فإما تمنون عليهم بعد الأسر بالإطلاق منا ، وإنا تفدون فداء . والمن : الإطلاق بغير عوض . يقال : من عليه ؛ إذا أثقله بالنعمة ، واصطنع عنده صنيعة . والفداء : ما يفدى به الأسير من الأسر . والآية محكمة على ما ذهب إليه جمهور الأئمة .
وذهب الحنفية إلى أنها منسوخة بآية " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " {[325]} . { حتى تضع الحرب أوزارها } أوزار الحرب : آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها ؛ كالسلاح والكراع ، وغير ذلك من الآلات المعروفة في الحروب قديما وحديثا . ووضعها كناية عن انقضاء الحرب بهزيمة العدو أو بالموادعة . و " حتى " عند الجمهور غاية للضرب أو للشد ، أو للمن والفداء معا ، أو للمجموع من قوله " فضرب الرقاب " إلى آخره . بمعنى أن هذه الأحكام جارية فيهم ، حتى لا تبقى حرب مع المشركين بزوال شوكتهم . وعند الحنفية غاية للمن والفداء إن حملت الحرب على حرب بدر ؛ أي يمن عليهم ويفادون حتى تضع الحرب أوزارها . وغاية للضرب والشد إن حملت على جنس الحرب ؛ أي أنهم يقتلون ويؤسرون حتى لا تبقى حرب مع المشركين ، بمعنى ألا يبقى لهم شوكة . وتفصيل المذاهب في الفقه .
{ ولكن ليبلوا بعضكم ببعض } أي ولكن أمركم الله بالقتال ليختبر بعضكم ببعض ؛ فيمتحن المؤمنين بالكافرين تمحيصا للمؤمنين . ويمتحن الكافرين بالمؤمنين تمحيقا للكافرين .
فضرب الرقاب : فاضربوا رقابهم ضرباً واقتلوهم .
أثخنتموهم : أكثرتم فيهم القتل .
فشدّوا الوثاق : فأسِروهم واربطوهم . الوثاق بفتح الواو وكسرها ما يوثق به .
فإما منّاً بعدُ وإما فداء : فإما أن تطلقوا سراحهم بدون فداء ، وإما أن يفدوا أنفسهم بشيء من المال .
حتى تضع الحرب أوزارها : حتى تنتهي الحرب ، الأوزار : أثقال الحرب من سلاح وغيره .
ثم بعد ذلك ذكر الله تعالى هنا وجوبَ القتال وأذِن به بعد أن استقر المؤمنون في المدينة ، وبدأوا في تأسيس الدولة الإسلامية . وتبين هذه الآية والآياتُ التي قبلها مشروعيةَ القتال للدفاع عن العقيدة والوطن . فإذا لقيتم الذين كفروا في الحرب فاضرِبوا رقابَهم ، حتى إذا أضعفتموهم بكثرة القتل فيهم فأحكِموا قيد الأسرى ، وبعد ذلك لكم الخيار : إما أن تُطلقوا الأسرى أو بعضَهم بغير فداء وتمنُّوا عليهم بذلك ، وإما أن تأخذوا منهم الفدية ، أو تبادلوا بهم بالمسلمين ممن يقع في الأسر . وليكن هذا شأنكم مع الكافرين حتى تنتهي الحرب وتضع أوزارها .
ثم بين الله تعالى أن هذه هي السنّة التي أرادها من حرب المشركين ، ولو شاء لانتقم منهم بلا حرب ولا قتال ، ولكنه ليختبر المؤمنين بالكافرين شرع الجهاد .
قرأ أهل البصرة وحفص : والذين قُتلوا . بضم القاف وكسر التاء . والباقون والذين قاتلوا .
{ 4-6 } { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ }
يقول تعالى -مرشدا عباده إلى ما فيه صلاحهم ، ونصرهم على أعدائهم- : { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } في الحرب والقتال ، فاصدقوهم القتال ، واضربوا منهم الأعناق ، حَتَّى تثخنوهم وتكسروا شوكتهم وتبطلوا شرتهم ، فإذا فعلتم ذلك ، ورأيتم الأسر أولى وأصلح ، { فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } أي : الرباط ، وهذا احتياط لأسرهم لئلا يهربوا ، فإذا شد منهم الوثاق اطمأن المسلمون من هربهم ومن شرهم ، فإذا كانوا تحت أسركم ، فأنتم بالخيار بين المن عليهم ، وإطلاقهم بلا مال ولا فداء ، وإما أن تفدوهم بأن لا تطلقوهم حتى يشتروا أنفسهم ، أو يشتريهم أصحابهم بمال ، أو بأسير مسلم عندهم .
وهذا الأمر مستمر { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي : حتى لا يبقى حرب ، وتبقون في المسألة والمهادنة ، فإن لكل مقام مقالا ، ولكل حال حكما ، فالحال المتقدمة ، إنما هي إذا كان قتال وحرب .
فإذا كان في بعض الأوقات ، لا حرب فيه لسبب من الأسباب ، فلا قتل ولا أسر .
{ ذَلِكَ } الحكم المذكور في ابتلاء المؤمنين بالكافرين ، ومداولة الأيام بينهم ، وانتصار بعضهم على بعض { وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ } فإنه تعالى على كل شيء قدير ، وقادر على أن لا ينتصر الكفار في موضع واحد أبدا ، حتى يبيد المسلمون خضراءهم .
{ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } ليقوم سوق الجهاد ، ويتبين بذلك أحوال العباد ، الصادق من الكاذب ، وليؤمن من آمن إيمانا صحيحا عن بصيرة ، لا إيمانا مبنيا على متابعة أهل الغلبة ، فإنه إيمان ضعيف جدا ، لا يكاد يستمر لصاحبه عند المحن والبلايا .
{ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } لهم ثواب جزيل ، وأجر جميل ، وهم الذين قاتلوا من أمروا بقتالهم ، لتكون كلمة الله هي العليا .
فهؤلاء لن يضل الله أعمالهم ، أي : لن يحبطها ويبطلها ، بل يتقبلها وينميها لهم ، ويظهر من أعمالهم نتائجها ، في الدنيا والآخرة .
{ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } فاضربوا رقابهم أي فاقتلوهم { حتى إذا أثخنتموهم } أكثرتم فيهم القتل { فشدوا } وثاق الأسارى حتى لا يفلتوا منكم
5 11 { فإما منا بعد } أي بعد أن تأسروهم إما مننتم عليهم فأطلقتموهم وإما أن تفادوهم بمال { حتى تضع الحرب أوزارها } أي اقتلوهم وأسروهم حتى لا يبقى كافر يقاتلكم فتسكن الحرب وتنقطع وهو معنى قوله { تضع الحرب أوزارها } أي يضع أهلها آلة الحرب من السلاح وغيره ويدخلوا في الإسلام أو الذمة { ذلك } أي افعلوا ذلك الذي ذكرت { ولو يشاء الله لانتصر منهم } أهلكهم بغير قتال { ولكن ليبلو بعضكم ببعض } يمحص المؤمنين بالجهاد ويمحق الكافرين { والذين قتلوا في سبيل الله } وهم أهل الجهاد
الأولى- قوله تعالى : " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب " لما ميز بين الفريقين أمر بجهاد الكفار . قال ابن عباس : الكفار المشركون عبدة الأوثان . وقيل : كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة ، ذكره الماوردي . واختاره ابن العربي وقال : وهو الصحيح لعموم الآية فيه . " فضرب الرقاب " مصدر . قال الزجاج : أي فاضربوا الرقاب ضربا . وخص الرقاب بالذكر لأن القتل أكثر ما يكون بها . وقيل : نصب على الإغراء . قال أبو عبيدة : هو كقولك يا نفس صبرا . وقيل : التقدير اقصدوا ضرب الرقاب . وقال : " فضرب الرقاب " ولم يقل فاقتلوهم ، لأن في العبارة بضرب الرقاب من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل ، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صوره ، وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه .
الثانية- قوله تعالى : " حتى إذا أثخنتموهم " أي أكثرتم القتل . وقد مضى في " الأنفال " عند قوله تعالى : " حتى يثخن في الأرض " {[13897]} [ الأنفال : 67 ] . " فشدوا الوثاق " أي إذا أسرتموهم . والوثاق اسم من الإيثاق ، وقد يكون مصدرا ، يقال : أوثقته إيثاقا ووثاقا . وأما الوثاق ( بالكسر ) فهو اسم الشيء الذي يوثق به كالرباط . قاله القشيري . وقال الجوهري : وأوثقه في الوثاق أي شده ، وقال تعالى : " فشدوا الوثاق " . والوثاق ( بكسر الواو ) لغة فيه . وإنما أمر بشد الوثاق لئلا يفلتوا . " فإما منا بعد وإما فداء " " فإما منا " عليهم بالإطلاق من غير فدية " وإما فداء " . ولم يذكر القتل ها هنا اكتفاء بما تقدم من القتل في صدر الكلام ، و " منا " و " فداء " نصب بإضمار فعل . وقرئ " فدى " بالقصر مع فتح الفاء ، أي فإما أن تمنوا عليهم منا ، وإما أن تفادوهم فداء .
روي عن بعضهم أنه قال : كنت واقفا على رأس الحجاج حين أتي بالأسرى من أصحاب عبد الرحمن بن الأشعث وهم أربعة آلاف وثمانمائة فقتل منهم نحو من ثلاثة آلاف حتى قدم إليه رجل من كندة فقال : يا حجاج ، لا جازاك الله عن السنة والكرم خيرا قال : ولم ذلك ؟ قال : لأن الله تعالى قال : " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء " في حق الذين كفروا ، فوالله ما مننت ولا فديت ؟ وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق :
ولا نقتل الأسرى ولكن نفُكُّهُم *** إذا أثقل الأعناق حملَ المغارم
فقال الحجاج : أف لهذه الجيف أما كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلام ؟ خلوا سبيل من بقي . فخلي يومئذ عن بقية الأسرى ، وهم زهاء ألفين ، بقول ذلك الرجل .
الثالثة- واختلف العلماء في تأويل هذه الآية على خمسة أقوال : الأول : أنها منسوخة ، وهي في أهل الأوثان ، لا يجوز أن يفادوا ولا يمن عليهم . والناسخ لها عندهم قوله تعالى : " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموه " {[13898]} [ التوبة : 5 ] وقوله : " فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم " {[13899]} [ الأنفال : 57 ] وقوله : " وقاتلوا المشركين كافة " {[13900]} [ التوبة : 36 ] الآية ، قال قتادة والضحاك والسدي وابن جريج والعوفي عن ابن عباس ، وقاله كثير من الكوفيين . وقال عبد الكريم الجوزي : كتب إلى أبي بكر في أسير أسر ، فذكروا أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا ، فقال اقتلوه ، لقتل رجل من المشركين أحب إلي من كذا وكذا .
الثاني : أنها في الكفار جميعا . وهي منسوخة على قول جماعة من العلماء وأهل النظر ، منهم قتادة ومجاهد . قالوا : إذ أسر المشرك لم يجز أن يمن عليه ، ولا أن يفادى به فيرد إلى المشركين ، ولا يجوز أن يفادى عندهم إلا بالمرأة ، لأنها لا تقتل . والناسخ لها : " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " [ التوبة : 5 ] إذ كانت براءة آخر ما نزلت بالتوقيف ، فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان ومن يؤخذ منه الجزية . وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة ، خيفة أن يعودوا حربا للمسلمين . ذكر عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة " فإما منا بعد وإما فداء " قال : نسخها " فشرد بهم من خلفهم " . وقال مجاهد : نسخها " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " [ التوبة : 5 ] . وهو قول الحكم .
الثالث : أنها ناسخة ، قاله الضحاك وغيره . روى الثوري عن جويبر عن الضحاك : " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " [ التوبة : 5 ] قال : نسخها " فإما منا بعد وإما فداء " . وقال ابن المبارك عن ابن جريج عن عطاء : " فإما منا بعد وإما فداء فلا يقتل المشرك ولكن يمن عليه ويفادى ، كما قال الله عز وجل . وقال أشعث : كان الحسن يكره أن يقتل الأسير ، ويتلو " فإما منا بعد وإما فداء " . وقال الحسن أيضا : في الآية تقديم وتأخير ، فكأنه قال : فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها . ثم قال : " حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق " . وزعم أنه ليس للإمام إذا حصل الأسير في يديه أن يقتله ، لكنه بالخيار في ثلاثة منازل : إما أن يمن ، أو يفادي ، أو يسترق .
الرابع : قول سعيد بن جبير : لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف ، لقوله تعالى : " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " {[13901]} [ الأنفال : 67 ] . فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره . الخامس : أن الآية محكمة ، والإمام مخير في كل حال ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وقال كثير من العلماء منهم ابن عمر والحسن وعطاء ، وهو مذهب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبي عبيد وغيرهم . وهو الاختيار ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فعلوا كل ذلك ، قتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث يوم بدر صبرا ، وفادى سائر أسارى بدر ، ومن على ثمامة بن أثال الحنفي وهو أسير في يده ، وأخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها أناسا من المسلمين ، وهبط عليه عليه السلام قوم من أهل مكة فأخذهم النبي صلى الله عليه وسلم ومن عليهم ، وقد من على سبي هوازن . وهذا كله ثابت في الصحيح ، وقد مضى جميعه في ( الأنفال ){[13902]} وغيرها . قال النحاس : وهذا على أن الآيتين محكمتان معمول بهما ، وهو قول حسن ، لأن النسخ إنما يكون لشيء قاطع ، فإذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للقول بالنسخ ، إذا كان يجوز أن يقع التعبد إذا لقينا الذين كفروا قتلناهم ، فإذا كان الأسر جاز القتل والاسترقاق والمفاداة والمن ، على ما فيه الصلاح للمسلمين . وهذا القول يروى عن أهل المدينة والشافعي وأبي عبيد ، وحكاه الطحاوي مذهبا عن أبي حنيفة ، والمشهور عنه ما قدمناه ، وبالله عز وجل التوفيق .
الرابعة- قوله تعالى : " حتى تضع الحرب أوزارها " قال ، مجاهد وابن جبير : هو خروج عيسى عليه السلام . وعن مجاهد أيضا : أن المعنى حتى لا يكون دين إلا دين الإسلام ، فيسلم كل يهودي ونصراني وصاحب ملة ، وتأمن الشاة من الذئب . ونحوه عن الحسن والكلبي والفراء والكسائي . قال الكسائي : حتى يسلم الخلق . وقال الفراء : حتى يؤمنوا ويذهب الكفر . وقال الكلبي : حتى يظهر الإسلام على الدين كله . وقال الحسن : حتى لا يعبدوا إلا الله . وقيل : معنى الأوزار السلاح ، فالمعنى شدوا الوثاق حتى تأمنوا وتضعوا السلاح . وقيل : معناه حتى تضع الحرب ، أي الأعداء المحاربون أوزارهم ، وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة . ويقال للكراع أوزار . قال الأعشى :
وأعددت للحرب أوزارها *** رِماحًا طوالا وخيلا ذكورَا
ومن نسج داود يحدى بها *** على أثر الحي عيراً فعيرا{[13903]}
وقيل : " حتى تضع الحرب أوزارها " أي أثقالها . والوزر الثقل ، ومنه وزير الملك لأنه يتحمل عنه الأثقال . وأثقالها السلاح لثقل حملها . قال ابن العربي : قال الحسن وعطاء : في الآية تقديم وتأخير ، المعنى فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ، وليس للإمام أن يقتل الأسير . وقد روي عن الحجاج أنه دفع أسيرا إلى عبد الله بن عمر ليقتله فأبى وقال : ليس بهذا أمرنا الله ، وقرأ " حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق " . قلنا : قد قاله رسول الله : صلى الله عليه وسلم وفعله ، وليس في تفسير الله للمن والفداء منع من غيره ، فقد بين الله في الزنى حكم الجلد ، وبين النبي صلى الله عليه وسلم حكم الرجم ، ولعل ابن عمر كره ذلك من يد الحجاج فاعتذر بما قال ، وربك أعلم .
قوله تعالى : " ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم " " ذلك " في موضع رفع على ما تقدم ، أي الأمر ذلك الذي ذكرت وبينت . وقيل : هو منصوب على معنى افعلوا ذلك . ويجوز أن يكون مبتدأ ، المعنى ذلك حكم الكفار . وهي كلمة يستعملها الفصيح عند الخروج من كلام إلى كلام ، وهو كما قال تعالى : " هذا وإن للطاغين لشر مآب " {[13904]} [ ص : 55 ] . أي هذا حق وأنا أعرفكم أن للظالمين كذا . ومعنى : " لا انتصر منهم " أي أهلكهم بغير قتال . وقال ابن عباس : لأهلكهم بجند من الملائكة . " ولكن ليبلو بعضكم ببعض " أي أمركم بالحرب ليبلو ويختبر بعضكم ببعض فيعلم المجاهدين والصابرين ، كما في السورة نفسها . " والذين قتلوا في سبيل الله " يريد قتلى أحد من المؤمنين " فلن يضل أعمالهم " قراءة العامة " قاتلوا " وهي اختيار أبي عبيد . وقرأ أبو عمرو وحفص " قتلوا " بضم القاف وكسر التاء ، وكذلك قرأ الحسن إلا أنه شدد التاء على التكثير . وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وأبو حيوة " قتلوا " بفتح القاف والتاء من غير ألف ، يعني الذين قتلوا المشركين . قال قتادة : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ، وقد فشت فيهم الجراحات والقتل ، وقد نادى المشركون : اعل هبل . ونادى المسلمون : الله أعلى وأجل . وقال المشركون : يوم بيوم بدر والحرب سجال . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قولوا لا سواء . قتلانا أحياء عند ربهم يرزقون وقتلاكم في النار يعذبون ) . فقال المشركون : إن لنا العزى ولا عزى لكم . فقال المسلمون : الله مولانا ولا مولى لكم . وقد تقدم ذكر ذلك في ( آل عمران ){[13905]} .
{ فضرب الرقاب } أصله فاضربوا الرقاب ضربا ثم حذف الفعل وأقام المصدر مقامه والمراد اقتلوهم ولكن عبر عنه بضرب الرقاب لأنه الغالب في صفة القتل .
{ حتى إذا أثخنتموهم } أي : هزمتموهم والإثخان أن يكثر فيهم القتل والأسر
{ فشدوا الوثاق } عبارة عن الأسر .
{ فإما منا بعد وإما فداء } المن العتق والفداء فك الأسير بمال وهما جائزان فإن مذهب مالك أن الإمام مخير في الأسارى بين خمسة أشياء وهي المن والفداء والقتل والاسترقاق وضرب الجزية وقيل : لا يجوز المن ولا الفداء لأن الآية منسوخة بقوله : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] فلا يجوز على هذا إلا قتلهم والصحيح أنها محكمة وانتصب منا وفداء على المصدرية والعامل فيهما فعلان مضمران .
{ حتى تضع الحرب أوزارها } الأوزار في اللغة الأثقال فالمعنى : حتى تذهب وتزول أثقالها وهي آلاتها وقيل : الأوزار الآثام لأن الحرب لابد أن يكون فيها إثم في أحد الجانبين واختلف في الغاية المرادة هنا فقيل : حتى يسلم الجميع فحينئذ تضع الحرب أوزارها وقيل : حتى تقتلوهم وتغلبوهم وقيل : حتى ينزل عيسى ابن مريم قال ابن عطية : ظاهر اللفظ أنها استعارة يراد بها التزام الأمر أبدا كما تقول أنا فاعل ذلك إلى يوم القيامة .
{ ولو يشاء الله لانتصر منهم } أو لو شاء الله لأهلك الكفار بعذاب من عنده ولكنه تعالى أراد اختبار المؤمنين وأن يبلو بعض الناس ببعض .
{[59320]}ولما تحرر أن{[59321]} الكفار أحق الخلق بالعدم{[59322]} لأن الباطل مثلهم{[59323]} وحقيقة حالهم{[59324]} ، سبب عنه قوله : { فإذا لقيتم } أي أيها المؤمنون { الذين كفروا }{[59325]} ولو بأدنى أنواع الكفر في أيّ مكان كان وأيّ زمان{[59326]} اتفق . ولما كان المراد القتل المجهر بغاية التحقق ، عبر عنه مؤكداً له من الاختصار بذكر المصدر الدال على الفعل مصوراً له{[59327]} بأشنع {[59328]}صوره مع{[59329]} ما فيه من الغلظة على الكفار والاستهانة بهم فقال تعالى : { فضرب الرقاب } أي عقبوا لقيكم لهم من غير مهلة بأن تضربوا رقابهم{[59330]} ضرباً بالصدق في الضرب بما يزهق أرواحهم ، فإن ذلك انتهاز للفرصة وعمل بالأحوط ، وكذلك{[59331]} النفس التي هي أعدى العدو إذا ظفرت بها وجب عليك أن لا تدع لها{[59332]} بقية ، قال القشيري : فالحية إذا{[59333]} بقيت منها بقية فوضعت عليها إصبع{[59334]} ثبت فيها سمها .
ولما كان التقدير : {[59335]}ولا يزال ذلك فعلكم ، غياه{[59336]} بقوله : { حتى } وبشرهم بالتعبير بأداة التحقق{[59337]} فقال تعالى : { إذا أثخنتموهم } أي أغلظتم القتل فيهم وأكثرتموه{[59338]} بحيث صاروا لا حراك{[59339]} بهم كالذي ثخن فأفرط ثخنه ؛ فجعل ذلك شرطاً للأسر كما قال تعالى
{ وما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض }[ الأنفال : 67 ] {[59340]}ثم قال تعالى مبيناً لما بعد الثخن{[59341]} : { فشدوا } أي لأنه لا مانع لكم الآن من{[59342]} الأسر{[59343]} { الوثاق } أي الرباط الذي يستوثق{[59344]} به{[59345]} من الأسر بالربط{[59346]} على أيديهم مجموعة إلى{[59347]} أعناقهم - مجاز عن الأسر بغاية الاستيلاء{[59348]} والقهر .
ولما كان الإمام مخيراً {[59349]}في أسراهم{[59350]} بين أربعة أشياء : القتل والإطلاق مجاناً والإطلاق بالفدية وهي {[59351]}شيء يأخذه{[59352]} عوضاً عن رقابهم و{[59353]}الاسترقاق{[59354]} ، عبر عن ذلك بقوله مفصلاً : { فإما منّاً } أي أن ينعموا عليهم إنعاماً { بعد } أي في جميع أزمان ما بعد الأسر باستبقائهم ثم بعد الإنعام باستبقائهم إما أن يكون ذلك مع الاسترقاق أو مع الإطلاق ثم الإطلاق إما{[59355]} مجاناً { وإما فداء } بمال أو بأسرى من المسلمين ونحو ذلك ، فأفهم التعبير بالمن الذي معناه الإنعام أن الإبقاء غير واجب بكل-{[59356]} جائز{[59357]} ، ودخل في الإبقاء ثلاث صور : الاسترقاق والإطلاق مجاناً و{[59358]}بالفداء فصرح سبحانه وتعالى بالفداء الذي معناه الأخذ على وجه أنه قسيم للمن ، فعلم أن المراد به الإبقاء مع عدم الأخذ فدخل فيه الإطلاق مجاناً وهو واضح والاسترقاق لأنه إنعام بالنسبة إلى القتل ، وأفهم التعبير بالمن الذي معناه الإنعام من المنان الذي هو اسمه تعالى ومعناه المعطي ابتداء جواز القتل-{[59359]} لأن الإنعام مخير فيه لا واجب لأنه لو كان واجباً كان حقاً لا نعمة ، فقد دخلت السور الأربع في التعبير بهاتين الكلمتين - والله الهادي ، وكل هذا على ما يراه الإمام أو نائبه مصلحة ، قال القشيري : كذلك حال المجاهدة{[59360]} مع النفس إذا كان في إغفاء ساعة وإفطار يوم ترويح للنفس{[59361]} من الكد وقوة على الجهد فيما يستقبل من الأمر على ما يحصل به الاستصواب من شيخ المريد وفتوى لسان الوقت أو فراسة صاحب المجاهدة - انتهى .
وقد أفهم هذا السياق أن هذا الحكم ثابت {[59362]}غير منسوخ{[59363]} والأمر بالقتل وحده-{[59364]} في غيرها من الآيات عام غير-{[59365]} مخصوص بما أفهمته الغاية من أن التقدير : والجهاد على هذه الصفة باق وماض مع كل أمير {[59366]}براً كان{[59367]} أو فاجراً ، لا يزال طائفة من الأمة قائمين به ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله ، وهو - والله أعلم - المراد بقوله{[59368]} تعالى : { حتى } أي افعلوا ما أمرتكم به على ما جددت لكم إلى أن { تضع الحرب أوزارها } وهي أثقالها أي الآلات التي تثقل القائمين بها من النفقات والسلاح والكراع ونحوه ، وذلك لا يكون وفي الأرض كافر ، وذلك على زمن عيسى عليه الصلاة والسلام حين تخرج الأرض بركاتها ، وتكون الملة واحدة وهي الإسلام لله رب العالمين ، فيتخذ الناس-{[59369]} حديد السلاح سككاً ومناجل وفؤوساً ينتفعون بها في معاشهم كما ورد في الحديث{[59370]} : " الجهاد ماض منذ بعثني الله-{[59371]} إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال " - رواه في الفردوس عن أنس رضي الله عنه " الجهاد واجب عليكم مع كل بر وفاجر " رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه{[59372]} .
ولما كانت{[59373]} الحرب كريهة إلى النفوس شديدة المشقة ، أكد أمرها بما معناه : إن هذا أمر قد فرغ منه ، فقال تعالى : { ذلك } أي الأمر العظيم العالي الحسن النافع الموجب لكل خير . ولما كان هذا ربما أوهم أن التأكيد في هذا الأمر لكون الحال لا يمكن انتظامه إلا به ، أتبعه ما{[59374]} يزيل هذا-{[59375]} الإيهام فقال{[59376]} : { ولو } ولما كان لو عبر بالماضي أفاد أنه كان ولم يبق ، عبر بالمضارع الدال على الحال وما بعده فقال : { يشاء الله } أي الملك الأعظم الذي له جميع صفات{[59377]} الكمال {[59378]}والقدرة على ما يمكن{[59379]} { لانتصر منهم } أي بنفسه من غير أحد انتصاراً عظيماً بأن لا يبقى منهم أحداً { ولكن } {[59380]}أوجب ذلك عليكم { ليبلوا } .
ولما كان الابتلاء ليس خاصاً بفريق منهم بل عاماً للفريقين لأنه يكشف عن أهل المحاسن وأهل-{[59381]} المساوئ من كل منهم ، قال تعالى : { بعضكم } {[59382]}من الفرقة المؤمنين بالإنكار عليهم من الفرقة الطاغين حتى يكون لهم بذلك اليد البيضاء{[59383]} { ببعض } أي يفعل في ذلك فعل المختبر ليترتب عليه الجواء على حسب ما تألفونه من العوائد{[59384]} .
ولما أفهم هذا أن الابتلاء{[59385]} بين فريقين بالجهاد ، قال عاطفاً على ما تقديره : فالذين قاتلوا أو قتلوا في سبيل الشيطان أضل أعمالهم : { والذين قتلوا{[59386]} } وفي قراءة البصريين وحفص{[59387]} { قتلوا } وهي أكثر ترغيباً والأولى{[59388]} أعظم ترجية { في سبيل الله } أي لأجل تسهيل طريق الملك الأعظم المتصف بجميع صفات الكمال .
ولما كان في سياق الترغيب ، قرن الخبر بالفاء إعلاماً بأن أعمالهم سببه{[59389]} فقال تعالى : { فلن يضل } أي يضيع ويبطل { أعمالهم * } لكونها غير تابعة لدليل بل يبصرهم بالأدلة ويوفقهم لاتباعها ، وهو معنى قوله تعالى تعليلاً : { سيهديهم . .