( سورة الهمزة مكية ، وآياتها 9 آيات ، نزلت بعد سورة القيامة )
تعكس هذه السورة صورة من الصور الواقعية في حياة الدعوة في عهدها الأول ، وهي في الوقت ذاته نموذج يتكرر في كل بيئة ، صورة اللئيم الصغير النفس ، الذي يؤتي المال فتستطير نفسه به ، حتى ما يطيق نفسه ، ويروح يشعر أن المال هو القيمة العليا في الحياة ، القيمة التي تهون أمامها جميع القيم وجميع الأقدار : أقدار الناس ، وأقدار المعاني ، وأقدار الحقائق . كما يروح يحسب أن هذا المال إله قادر على كل شيء ، لا يعجز عن دفع شيء ، حتى دفع الموت ، وتخليد الحياة .
ومن ثم ينطلق في هوس بهذا المال ، يعده ويستلذ تعداده ، وتنطلق في كيانه نفخة فاجرة ، تدفعه إلى الاستهانة بأقدار الناس ، وهمزهم ولمزهم ، وانتقاص قدرهم ، وتحقير شأنهم . وهي صورة لئيمة من صور النفوس البشرية حين تخلو من المروءة . والإسلام يكره هذه الصورة الهابطة ، وقد نهى القرآن عن السخرية واللمز في مواضع شتى ، إن أن ذكرها هنا بهذا التشنيع ، يوحي بأنه كان يواجه حالة واقعية من بعض المشركين تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجاه المؤمنين ، فجاء الرد عليها في صورة الردع والتهديد والوعيد .
قال عطاء والكلبي : نزلت هذه السورة في الأخنس بن شريق ، كان يلمز الناس ويغتابهم ، وبخاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال مقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه ، ويطعن فيه في وجهه .
وقال محمد بن إسحاق صاحب السيرة : ما زلنا نسمع أن هذه السورة نزلت في أمية بن خلف .
1- ويل لكل همزة لمزة . ويل وعذاب شديد لكل سبّاب عيّاب ، ينتقص الناس بالإشارة والحركة ، والقول والفعل .
وبناء الصفة على فعلة يفيد كثرة وقوع الفعل ، وجريانه مجرى العادة .
وعن مجاهد وعطاء : الهمزة الذي يغتاب ويطعن في وجه الرجل ، واللمزة الذي يغتاب من خلفه إذا غاب .
2- الذي جمع مالا وعدّده . إن الذي دعا هذا وأمثاله إلى الحط من أقدار الناس ، ظنه الخاطئ بأن جمع المال ، والمبالغة في عدّه والمحافظة عليه ، مما يرفع قدره ، ويضمن له منزلة رفيعة ، يستطيع بها أن يطلق لسانه في أعراض الناس ، وأن يؤذيهم بالقول والفعل .
3- يحسب أن ماله أخلده . إن حبه للمال أنساه الموت والمآل فهو يأنس بماله ، ويظن أن هذا المال الذي أجهد نفسه في جمعه ، وبخل به حتى على نفسه ، ويحميه من الموت ويورثه الخلود .
4- كلاّ لينبذنّ في الحطمة . لقد قابل القرآن بين كبريائه وتعاليه على الناس ، وبين جزائه في الحطمة التي تحطم كل ما يلقى إليها ، فتحطم كيانه وكبريائه .
5- وما أدراك ما الحطمة . سؤال للتهويل والتعظيم ، أي : أي شيء أعلمك بها ؟ فإن هذه الحطمة مما لا يحيط بها عقلك ، ولا يقف على كنهها علمك ، ولا يعرف حقيقتها إلا خالقها سبحانه وتعالى .
6- نار الله الموقدة . إنها النار التي تنسب إلى الله الذي خلقها ، وهي موقدة لا تخمد أبدا ، ثم وصف هذه النار بعدة صفات فيها تناسق تصويري يتفق مع أفعال ( الهمزة اللمزة ) .
7- التي تطّلع على الأفئدة . إنها تصل إلى الفؤاد الذي ينبعث منه الهمز واللمز ، وهي تتغلب على الأفئدة وتقهرها ، فتدخل في الأجواف حتى تصل إلى الصدور فتأكل الأفئدة ، والقلب أشد أجزاء الجسم تألما ، فإذا استولت عليه النار فأحرقته فقد بلغ العذاب بالإنسان غايته .
والنار لا تصل إلى الفؤاد إلا بعد أن تأكل الجلود واللحوم والعظام ، ثم تصل إلى القلوب ، والأفئدة موطن الإحساس والاعتقاد ، ومن لكمات عمر بن الخطاب للكفار : ( حرق الله قلوبكم ) . أي : أصابكم بأشد ألوان المحن والألم .
8- إنها عليهم مؤصدة . إنها مطبقة عليهم لا يخرجون منها ، ولا يستطيعون الفرار أو الهرب .
قال تعالى : كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غمّ أعيدوا فيها . . . ( الحج : 22 ) .
9- في عمد ممدّدة . العمد جمع عمود وهو معروف ، والممددة : المطولة ، أي أنه أطبقها عليهم وأغلقها في عمد طويلة ، تمد على أبوابها بعد أن تؤصد ، وهو تصوير لشدة الإطباق وإحكامه ، وتأكيد اليأس من الخلاص .
قال مقاتل : إن الأبواب أطبقت عليهم ، ثم شدت بأوتاد من حديد ، فلا يفتح عليهم باب ، ولا يدخل عليهم روح .
اللهم أجرنا من النار ، ومن عذاب النار ، وأدخلنا الجنة مع الأبرار ، بفضلك وكرمك يا عزيز يا غفار .
1- من الناس من يرى مثله الأعلى جمع المال والتعالي على العباد ، وهو نموذج سيء .
2- الويل والعذاب ينتظران كل عيّاب وسبّاب .
3- المال نعمة من الله ، ولكن العمل الصالح هو الوسيلة النافعة .
4- البخيل بالمال المتعالي على العباد له نار متقدة تحرق جسمه وتصل إلى فؤاده .
{ ويل لكل همزة لمزة 1 الذي جمع مالا وعدّده 2 يحسب أنّ ماله أخلده 3 كلاّ لينبذنّ في الحطمة 4 وما أدراك ما الحطمة 5 نار الله الموقدة 6 التي تطّلع على الأفئدة 7 إنها عليهم مؤصدة 8 في عمد ممدّدة 9 }
ويل : خزي وهلاك وعذاب ، وهو لفظ لا يستعمل إلا في الذم والقبح .
همزة : من ينتقص الناس بالقول .
لمزة : من يؤذي الناس بالفعل ، فكلاهما طعّان عيّاب .
عذاب شديد لكل همّاز يعيب الناس ، ويغضّ من أقدارهم ، وينتقص من هممهم في حضورهم أو في غيبتهم ، يفعل ذلك بالقول أو بالإشارة .
قال ابن عباس : همزة لمزة . طعّان عيّاب .
وقال الربيع بن أنس : الهمزة . يهمزه في وجهه . واللمزة : من خلفه .
وسئل ابن عباس مرة أخرى عن ( اللمزة اللمزة ) فقال : هو المشّاء بالنميمة ، المفرّق بين الجمع ، المغري بين الإخوان .
وقيل : نزلت هذه السورة في الأخنس بن شريق ، كان يلمز الناس ويغتابهم .
وقيل نزلت في أمية بن خلف ، كان يهمز النبي صلى الله عليه وسلم ويعيبه .
وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم ويغضّ من قدره الشريف .
ولا يستبعد أن تكون قد نزلت في مجموعة ، منها هؤلاء الثلاثة الذين دأبوا على السخرية والاستهزاء بالفضلاء ، مع اليقين بأن اللفظ عام ، يشمل كل من تنطبق عليه هذه الصفات ، فالعبرة عموم اللفظ لا بخصوص السبب .
ويل لكل همزة لمزة ( 1 ) الذي جمع مالا وعدده ( 2 ) يحسب أن ماله أخلده ( 3 ) كلا لينبذن في الحطمة ( 4 ) وما أدراك ما الحطمة ( 5 )
{ ويل } عذاب ومهلكة ، أو واد في جهنم . { لكل همزة لمزة } أي مكثر من الهمز واللمز ، وهو الذي دأبه أن يعيب الناس ، ويثلم أعراضهم ، ويطعن فيهم ، ويمشى بينهم بالنميمة والإفساد . فالهمزة واللمزة بمعنى واحد ، وهما من باب ضرب ونصر . وقيل : الهمزة : الذي يعيب في الحضور ، واللمزة : الذي يعيب في الغيبة ، وقيل بالعكس . وقيل : الهمزة : الذي يضرب باليد ويغمز بالعين ، واللمزة : الذي يلمز باللسان . ومرجع هذه الأقوال إلى أصل واحد ، وهو الطعن وإظهار العيب . وأصل الهمز الكسر والعض على الشيء بعنف . وأصل اللمز : الطعن ، ثم خصا بما ذكر . نزلت في الوليد بن المغيرة وأضرابه من طغاة قريش ، وكانوا يهمزون النبي صلى الله عليه وسلم ويعيبونه .
{ 1 - 9 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ }
{ وَيْلٌ } أي : وعيد ، ووبال ، وشدة عذاب { لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } الذي يهمز الناس بفعله ، ويلمزهم بقوله ، فالهماز : الذي يعيب الناس ، ويطعن عليهم بالإشارة والفعل ، واللماز : الذي يعيبهم بقوله .
قوله تعالى : { ويل لكل همزة لمزة }
قد تقدم القول في " الويل " في غير موضع{[16360]} ، ومعناه الخزي والعذاب والهلكة . وقيل : واد في جهنم . { لكل همزة لمزة } قال ابن عباس : هم المشاؤون بالنميمة ، المفسدون بين الأحبة ، الباغون للبرآء العيب ، فعلى هذا هما بمعنى . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " شرار عباد الله تعالى المشاؤون بالنميمة ، المفسدون{[16361]} بين الأحبة ، الباغون للبرآء العيب " . وعن ابن عباس أن الهمزة : الذي يغتاب . اللمزة : العياب . وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وعطاء بن أبي رباج : الهمزة : الذي يغتاب ويطعن في وجه الرجل ، واللمزة : الذي يغتابه من خلفه إذا غاب ، ومنه قول حسان :
هَمَزْتُكَ فاخْتَضَعْتَ بذُلِّ نفسٍ *** بقافية تَأجَّجُ كالشُّواظِ{[16362]}
واختار هذا القول النحاس ، قال : ومنه قوله تعالى { ومنهم من يلمزك في الصدقات }{[16363]} [ التوبة : 58 ] . وقال مقاتل ضد هذا الكلام : إن الهمزة : الذي يغتاب بالغيبة ، واللمزة : الذي يغتاب في الوجه . وقال قتادة ومجاهد : الهمزة : الطعان في الناس ، واللمزة : الطعان في أنسابهم . وقال ابن زيد الهامز : الذي يهمز الناس بيده ويضربهم ، واللمزة : الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم . وقال سفيان الثوري : يهمز بلسانه ، ويلمز بعينيه . وقال ابن كيسان : الهمزة الذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ ، واللمزة : الذي يكسر عينه على جليسه ، ويشير بعينه ورأسه وبحاجبيه . وقال مرة : هما سواء ، وهو القتات الطعان للمرء إذا غاب . وقال زياد الأعجم :
تُدْلِي بِوُدِّي إذا لاقيتَنِي كَذِبًا *** وإنْ أُغَيَّبْ فأنتَ الهامزُ اللُّمَزَهْ
إذا لقيتكَ عن شحط تُكَاشِرُنِي *** وإن تغيَّبْتُ كنت الهامزَ اللُّمَزَهْ
الشحط : البعد . والهمزة : اسم وضع للمبالغة في هذا المعنى ، كما يقال : سخرة وضحكة : للذي يسخر ويضحك بالناس . وقرأ أبو جعفر محمد بن علي والأعرج " همزة لمزة " بسكون الميم فيهما . فإن صح ذلك عنهما ، فهي معنى المفعول ، وهو الذي يتعرض للناس حتى يهمزوه ويضحكوا منه ، ويحملهم على الاغتياب . وقرأ عبد الله بن مسعود وأبو وائل والنخعي والأعمش : " ويل للهمزة اللمزة " . وأصل الهمز : الكسر ، والعض على الشيء بعنف ، ومنه همز الحرف . ويقال : همزت رأسه ، وهمزت الجوز ، يعني كسرته . وقيل لأعرابي : أتهمزون ( الفارة ) ؟ فقال : إنما تهمزها الهرة . الذي في الصحاح : وقيل لأعرابي أتهمز الفارة ؟ فقال السنور يهمزها . والأول قاله الثعلبي ، وهو يدل على أن الهر يسمى الهمزة . قال العجاج :
ومن هَمَزْنَا رأسَهُ تَهَشَّمَا
وقيل : أصل الهمز واللمز : الدفع والضرب . لمزه لمزا : إذا ضربه ودفعه . وكذلك همزه : أي دفعه وضربه . قال الراجز :
ومن هَمَزْنَا عِزَّهُ تبَرْكَعَا *** على اسْتِهِ زَوْبَعَةً أو زَوْبَعَا
البركعة : القيام على أربع . وبركعه فتبركع ، أي صرعه فوقع على استه ، قاله في الصحاح . والآية نزلت في الأخنس بن شريق ، فيما روى الضحاك عن ابن عباس . وكان يلمز الناس ويعيبهم : مقبلين ومدبرين . وقال ابن جريج : في الوليد بن المغيرة ، وكان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه ، ويقدح فيه في وجهه . وقيل : نزلت في أبي بن خلف . وقيل : في جميل بن عامر الثقفي{[16364]} . وقيل : إنها مرسلة على العموم من غير تخصيص ، وهو قول الأكثرين . قال مجاهد : ليست بخاصة لأحد ؛ بل لكل من كانت هذه صفته . وقال الفراء : يجوز أن يذكر الشيء العام ويقصد به الخاص ، قَصد الواحد إذا قال : لا أزورك أبدا . فتقول : من لم يزرني فلست بزائره ، يعني ذلك القائل .
لما بين الناجين من قسمي الإنسان في العصر ، وختم بالصبر ، حصل تمام التشوف إلى أوصاف الهالكين ، فقال مبيناً لأضلهم وأشقاهم الذي الصبر على أذاه في غاية الشدة ليكون ما أعد له من العذاب مسلاة للصابر : { ويل } أي هلاك عظيم جداً { لكل همزة } أي الذي صار له الهمز عادة ؛ لأنه خلق ثابت في جبلته ، وكذا { لمزة * } والهمز : الكسر كالهزم ، واللمز : الطعن ، هذا أصلهما ، ثم خصا بالكسر من أعراض الناس والطعن فيهم ، وقال ابن هشام في تهذيب السيرة : الهمزة الذي يشتم الرجل علانية ، ويكسر عينيه عليه ويهمز به ، واللمزة الذي يعيب الناس سراً . انتهى . وقال البغوي : وأصل الهمز الكسر والعض على الشيء بالعنف ، والذي دل على الاعتياد صيغة فعل بضم وفتح ، كما يقال : ضحكة للذي يفعل الضحك كثيراً حتى صار عادة له وضرى به ، والفعلة بالسكون للمفعول ، وهو الذي يهمزه الناس ويلمزونه ، وقرىء بها ، وكأنه إشارة إلى من يتعمد أن يأتي بما يهمز به ويلمز به ، فيصير مسخرة يضحك منه ، والله أعلم .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما قال سبحانه وتعالى { إن الإنسان لفي خسر } أتبعه بمثال من ذكر نقصه وقصوره واغتراره ، وظنه الكمال لنفسه حتى يعيب غيره ، واعتماده على ما جمعه من المال ظناً أنه يخلده وينجيه ، وهذا كله هو عين النقص ، الذي هو شأن الإنسان ، وهو المذكور في السورة قبل ، فقال تعالى { ويل لكل همزة لمزة } فافتتحت السورة بذكر ما أعد له من العذاب جزاء له على همزه ولمزه الذي أتم حسده ، والهمزة العياب الطعان ، واللمزة مثله ، ثم ذكر تعالى ماله ومستقره بقوله : { لينبذن في الحطمة } أي ليطرحن في النار جزاء له على اغتراره وطعنه . انتهى .