الحسنى : المثوبة الحسنى ، وهي النصر والغنيمة في الدنيا ، والجنة في الآخرة .
10-{ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
أي شيء يمنعكم من الإنفاق في مرضاة الله ، ونصر دينه ، وتأييد رسوله ، وتبليغ دعوته ، ودعم الجهاد في تأييد الإسلام ومرضاة الرحمن ؟
والحياة الدنيا محدودة ، فستنتهي أعماركم ، ويؤول المال إلى وارثكم ، وفي ذلك الوقت لا تستطيعون الإنفاق ، وفي الأثر : ( إن مالك ما قدّمت ، ومال وارثك ما أخّرت ) .
أو أن الناس جميعا ستفنى ، والله هو الباقي وحده ، وسيؤول إليه سبحانه ملك السماوات والأرض ، فملك البشر عارية محدودة ، وملك الله باق خالد .
قال تعالى : { كل من عليها فان*ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } . ( الرحمن : 26-27 ) .
وقال تعالى : { وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ . . . } ( الحديد : 7 ) .
فالمال مال الله ، والإنسان مستخلف عليه لتثميره ووضعه في حقه ، وكان الرجل من الصالحين يقول : هذا مال الله عندي ، ويقول : لله عندي سبعة أولاد ، وسبعون ألفا من الدراهم .
أنفقوا من أموالكم في سبيل الله قبل أن تموتوا ، ليكون ذلك ذخرا لكم عند ربكم ، فبعد الموت لا تقدرون على ذلك ، إذ تصير الأموال ميراثا لمن له السماوات والأرض .
{ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ . . . }
كان الإسلام غريبا في مكة ، مكث فيها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاما ، وكل من آمن به مائتا رجل وامرأة ، ولما هاجر المسلمون إلى المدينة بدأ الجهاد والقتال ، وخاض النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه اثنتين وخمسين غزوة وسريّة ، مع أن مدة المدينة كلها كانت عشر سنوات ، أي أنه كان لا يمضي شهران في المتوسط إلا والمسلمون يخوضون غمار غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو سرية مع أمير من الصحابة ، وكان الوقت فيه عسرة ومشقة ، وقلة في المال ، فمن تطوّع بماله ونفسه في تلك الفترة ، وفي وقت الجهد والمشقة والكفاح ، كان أصدق قصدا ، وأرغب فيما عند الله ، ثم فتحت مكة سنة 8 ه ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وجاء المال وجاءت المغانم ، وغنم المسلمون مغانم كثيرة في فتح حنين والطائف ، فقارن القرآن بين من أنفق قبل الفتح وضحّى بنفسه وماله ، مثل أبي بكر الصديق الذي قدّم ماله كله ابتغاء مرضاة الله ، ومن قدم ماله وجاهد بنفسه بعد الفتح .
قال تعالى : أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا . . .
من أنفق المال وقاتل في سبيل الله قبل فتح مكة ، أو قبل صلح الحديبية ، أعظم أجرا وثوابا ورضوانا من الله ، من الذين أنفقوا أموالهم وبذلوا أنفسهم بعد فتح مكة ، أو بعد صلح الحديبية .
وجمهور العلماء على أن المراد بالفتح فتح مكة ، وقيل : الفتح : صلح الحديبية .
قال قتادة : كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر ، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى ، كان القتال والنفقة من قبل فتح مكة أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك .
{ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى . . . }
أي : كلا من الذين أنفقوا وجاهدوا قبل الفتح ، والذين أنفقوا وجاهدوا بعد الفتح ، وعدهم الله الثواب العظيم والجنة ، أو عز الدنيا وشرف الآخرة ، وإن كان بينهم تفاوت في مقدار الجزاء .
كما قال تعالى : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } . ( النساء : 95 ) .
وفي الحديث الصحيح : " المؤمن القوي خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير " .
لقد استوى الاثنان في الخير ، وفي الجزاء بالحسنى والجنة ، لكن الله فاوت بين الاثنين في الفضل ، وفضّل من أنفق وجاهد في وقت المشقة ، وقلة العدد وقلة المال ، حيث كان الإخلاص أظهر ، والرغبة فيما عند الله أوضح ، ومع ذلك جعل الله سبحانه جزاء حسنا لمن أنفق بعد الفتح وقاتل .
{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
هو سبحانه مطلع على القلوب والنفوس ، عالم بالنّوايا ، يعلم السر وأخفى ، وهو المجازي على أعمالكم ، فأخلصوا له النية .
{ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 10 ) }
وأيُّ شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله ؟ ولله ميراث السموات والأرض يرث كلَّ ما فيهما ، ولا يبقى أحد مالكًا لشيء فيهما . لا يستوي في الأجر والمثوبة منكم مَن أنفق من قبل فتح " مكة " وقاتل الكفار ، أولئك أعظم درجة عند الله من الذين أنفقوا في سبيل الله من بعد الفتح وقاتلوا الكفار ، وكلا من الفريقين وعد الله الجنة ، والله بأعمالكم خبير لا يخفى عليه شيء منها ، وسيجازيكم عليها .
قوله : { وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والأرض } يعني ما الذي يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله وأنتم صائرون لا محالة إلى الهلاك والفناء فتاركو أموالكم من بعدكم فمردها إلى وارث السموات والأرض .
قوله : { لايستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل } أي لا يستوي هذا المؤمن الذي أنفق ماله في سبيل الله وقاتل المشركين من قبل فتح مكة وعزة الإسلام { أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } يعني أولئك الذين أنفقوا أموالهم قبل فتح مكة وهم السابقون من المهاجرين والأنصار أعظم درجة من المؤمنين الذين أنفقوا وقاتلوا المشركين بعد فتح مكة ، فثمة تفاوت بين الفريقين المنفقين المجاهدين من قبل الفتح ومن بعده . وذلك أن أمر المسلمين من قبل الفتح كان شديدا عسيرا . وكانت حالهم يظلها الخوف والإرهاب وطغيان المشركين الظالمين عليهم . لا جرم أن التمسك بالعقيدة الصحيحة والتزام شرع الله وأحكام دينه في مثل تلك الظروف القاسية أعظم قدرا من مثله بعد الفتح حيث الأمن والقوة والمنعة للمسلمين .
قوله : { وكلا وعد الله الحسنى } كلا ، مفعول أول لوعد . والحسنى ، مفعوله الثاني . يعني كل واحد من الفريقين { وعد الله الحسنى } وهي دخولهم الجنة مع تفاوت الدرجات بين المؤمنين الداخلين .
ويستفاد من هذه الآية أن الفريقين من الصحابة أبرار كرماء عند الله ، فما ينبغي الغضّ من قدر فريق منهم ، وإنما هم جميعهم طيبون عظماء يفضلون من بعدهم من المؤمنين على مرّ الزمن بفضل شرف الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم التي قدّر لهم أن يحظوا بها ، مع التذكير بأنهم من مراتب الإيمان وحسن الجزاء يوم القيامة متفاوتون . وذلك هو شأن المؤمنين في كل زمان ومكان . وذلك من حيث التفاوت في درجات إيمانهم وعزائمهم وما يؤدونه من إنفاق وتضحيات وجهاد ، فإن فيهم العظيم وفيهم الوسط وفيهم دون ذلك . وفي الحديث الصحيح : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير " .
قوله : { والله بما تعملون خبير } الله يعلم ما أنتم عليه من تفاوت في الإيمان والإخلاص والعمل ، فجازى كلا بما يستحق من الثواب .