تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ} (20)

17

التفسير :

20- { ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون } .

من شأن القرآن أن يستعرض مشاهد القيامة ، فإذا الغائب حاضر ، وإذ بك ترى رأي العين هؤلاء الكفار الذين أسرفوا على أنفسهم في المعاصي ، ولم يستجيبوا لداعي الإيمان ، فيقال لهم :

{ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمعتم بها . . . }

لقد أفنيتم حياتكم مستمتعين باللذائذ والمحرمات ، معرضين عن هدى السماء ، كافرين بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر .

{ فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون } .

في هذا اليوم ، يوم القيامة ، يوم الحساب والجزاء ، تجازون على كفركم وإسرافكم في المعاصي ، بعذاب الهوان والمذلة في جهنم ، بسبب استكباركم وعتوكم وظلمكم وعدم إيمانكم ، وبسبب فسوقكم وخروجكم على طاعة الله وهديه .

وقد تورع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن كثير من طلبات المآكل والمشارب وتنزه عنها ، وقال : لو شئت لكنت أطيبكم طعاما وأحسنكم لباسا ، ولكني أستبقي طيباتي لحياتي الآخرة ، وإني أخاف أن أكون من الذين قال الله فيهم : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها . . . }

وعند التأمل نجد أن الإسلام دين وسط ، لا يحرم الطيبات ، فالله تعالى يقول : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة . . . } ( الأعراف : 32 ) .

والنبي صلى الله عليه وسلم -وهو القدوة العملية- كان يأكل ما يجده ، يشبع إذا وجد ، ويصبر إذا عدم ، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها ، ويشرب العسل إذا اتفق له ، ويأكل اللحم إذا تيسر ، ولا يعتمد أصلا ولا يجعله ديدنا ، ومعيشة النبي صلى الله عليه وسلم معلومة ، وطريقة الصحابة رضوان الله عليهم منقولة .

وقيل : إن التوبيخ واقع على ترك الشكر ، والاستعانة بالطيبات على الشهوات والمحرمات .

وجاء في التسهيل لعلوم التنزيل :

هذه الآية في الكفار بدليل قوله تعالى : { ويوم يعرض الذين كفروا . . . }

وهي مع ذلك واعظة لأهل التقوى من المؤمنين ، ولذلك قال عمر لجابر بن عبد الله -وقد رآه اشترى لحما- : أو كلما اشتهى أحدكم شيئا جعله في بطنه ! أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية ، ممن قال الله فيهم : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا . . . }

من تفسير الفخر الرازي

وهذه الآية لا تدل على المنع من التنعم ، لأن هذه الآية وردت في حق الكافر ، وإنما وبخ الله الكافر لأنه يتمتع بالدنيا ، ولا يؤدي شكر المنعم بطاعته والإيمان به ، وأما المؤمن فإنه يؤدي بإيمانه شكر المنعم فلا يوبخ بتمتعه ، ودليله : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق . . . } ( الأعراف : 32 ) .

نعم لا ينكر أن الاحتراز عن التنعم أولى ، وعليه يحمل قوله عمر : لو شئت لكنت أطيبكم طعاما ، وأحسنكم لباسا ، ولكني أستبقي طيباتي لحياتي الآخرة .

وأرى أن دين الله يتسع للتمتع بالطيبات ، ويتسع للزهد فيها وتغليب جانب الآخرة ، ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ، فمن استمتع بالطيبات وأدى حق الله وأطعم الجائع وساعد المحتاج ، فهو ناج إن شاء الله ، ومن زهد في الطيبات -بدون أن يحرمها على غيره- فله نيته واجتهاده وصبره ، واقتداؤه بالزاهدين من السلف الصالح .

وأخيرا . . أرى أن خير الأمور الوسط ، وشر الأمور الشطط ، والرسول صلى الله عليه وسلم قدوتنا ، وكان ينال من طيبات الدنيا وزينتها وطيبها ، ويتزوج من نسائها ، ويستمتع بالنعمة عند وجودها .

ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح رواه البخاري : ( إن أتقاكم لله أنا ، وإن أعلمكم بالله أنا ، وإن أخوفكم من الله أنا ، ومع ذلك فأنا أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني )21 .

وكان صلى الله عليه وسلم قدوة أيضا في الصبر والتجلد والزهد ، ليظل المؤمن شديد المراس ، لا يلين ولا يخنع ، ولا يرغب في الطيبات إلا إذا كانت من حلال ، وفي قدرته وفي متوسط دخله ، ولا يتطلع إلى الشبهات ولا إلى الكماليات ، إذا كان دخله حلالا لا يتسع لذلك .

قال صلى الله عليه وسلم : ( استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك وأفتوك )22 .

وقال صلى الله عليه وسلم : ( البر ما اطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس )23 .

وقال صلى الله عليه وسلم : ( الحلال بين ، والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه . . )24 .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ} (20)

أذهبْتم طيباتكم : أذهبتم حياتكم وشبابكم وقوّتكم باتّباع شهواتكم في الدنيا .

الهُون : الهوان والذل .

واذكر أيّها الرسول ، يومَ يُعرض الكافرون على النار يقال لهم : لقد استوفيتم ملذّاتِكم وشهواتِكم في الدنيا ، و استمتعتُم بها ، فاليومَ لكم أشدُّ العذاب بالذلّ والهوان بما كنتم في الدنيا تفسُقون وتستكبرون .

قراءات :

قرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب : أأذهبتم طيباتكم بالاستفهام ، والباقون : بهمزة واحدة ، وابن كثير يقرأ بهمزة ممدودة .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ} (20)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره:"وَيَوْمَ يُعْرَضُ الّذِينَ كَفَرُوا" بالله "عَلى النّارِ"، يقال لهم: "أذْهَبْتُمْ طَيّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدّنْيا، وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها "فيها... ذُكر أن عمر بن الخطاب كان يقول: لو شئت كنت أطيبكم طعاما، وألينكم لباسا، ولكني أستبقي طيباتي... وقوله: "فالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ" يقول تعالى ذكره: يقال لهم: فاليوم أيها الكافرون الذين أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا "تجزون": أي تثابون "عذاب الهون"، يعني عذاب الهوان، وذلك عذاب النار الذي يهينهم...

"بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بغَيْرِ الحَقّ" يقول: بما كنتم تتكبرون في الدنيا على ظهر الأرض على ربكم، فتأبون أن تخلصوا له العبادة، وأن تذعنوا لأمره ونهيه بغير الحقّ، أي بغير ما أباح لكم ربكم، وأذن لكم به،

"وبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ" يقول: بما كنتم فيها تخالفون طاعته فتعصُونه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... يذكّرهم بهذه الآيات وأمثالها ليعرفوا ما كان منهم، وما استوجبوا من العقوبات...

{أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} يخرّج على وجهين:

أحدهما: {أذهبتم طيباتكم} التي أعطيتموها في منافعكم، وأتلفتموها، ولم تؤدّوا شكرها، ولم تقوموا بوفائها، والله أعلم.

والثاني: {أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا} أي أتلفتموها، ولم تكتسبوها بالطيبات الموعودة في الآخرة والنِّعم الدائمة. فكل ما أعطى في هذه الدنيا من الأموال إنما أعطى ليستعينوا بها على عمل الآخرة، وليتزوّدوا لها، ويجعلوها زادا للآخرة، فأما إذا جعلوها في غير ذلك فهو إتلاف وجعل في غير ما جُعل؛ وذلك وبال عليهم وحسرة...

{فاليوم تُجزون عذاب الهون} أي عذابا تهانون فيه، ويُهينكم ذلك العذاب...

{بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق} يحتمل استكبارهم الذي ذكر على الرسل استكبروا على الرسل فتركوا اتباعهم، فاستكبروا على آياته. وقوله تعالى: {وبما كنتم تفسُقون} والفسق هو الخروج عن أمر الله تعالى.

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :

{أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} وذلك أنهم يفعلون ما يشتهون لا يتوقون حراما ولا يجتنبون مأثما...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

والطيبات: الملاذ، وهذه الآية وإن كانت في الكفار فهي رادعة لأولي النهى من المؤمنين عن الشهوات واستعمال الطيبات...

و {عذاب الهون}: العذاب الذي اقترن به هوان، وهذا هو عذاب العصاة المواقعين ما قد نهوا عنه...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

لَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْكُفَّارِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِهَا: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ}، أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا، يُرِيدُ أَفْنَيْتُمُوهَا فِي الْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ من الْحَلَالِ وَاللَّذَّاتِ، وَأَمَرَ بِاسْتِعْمَالِهَا فِي الطَّاعَاتِ، فَصَرَفَهَا الْكُفَّارُ إلَى الْكُفْرِ فَأَوْعَدَهُمْ اللَّهُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ، وَقَدْ يَسْتَعْمِلُهَا الْمُؤْمِنُ فِي الْمَعَاصِي، فيَدْخُلُ فِي وَعِيدٍ آخَرَ وَتَنَالُهُ آيَةٌ أُخْرَى بِرَجَاءِ الْمَغْفِرَةِ، وَيَرْجِعُ أَمْرُهُ إلَى الْمَشِيئَةِ، فَيُنَفِّذُ اللَّهُ فِيهِ مَا عَلِمَهُ مِنْهُ وَكَتَبَهُ لَهُ...

إِنَّ تَعَاطِي الطَّيِّبَاتِ من الْحَلَالِ تَسْتَشْرِي لَهَا الطِّبَاعُ، وَتَسْتَمِرُّ عَلَيْهَا الْعَادَةُ، فَإِذَا فَقَدْتهَا اسْتَسْهَلْت فِي تَحْصِيلِهَا بِالشُّبُهَاتِ، وَحَتَّى تَقَعَ فِي الْحَرَامِ الْمَحْضِ بِغَلَبَةِ الْعَادَةِ، وَاسْتَشْرَاهِ الْهَوَى عَلَى النَّفْسِ الْأَمَارَةِ بِالسُّوءِ... وَاَلَّذِي يَضْبِطُ هَذَا الْبَابَ وَيَحْفَظُ قَانُونَهُ: عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَأْكُلَ مَا وَجَدَ طَيِّبًا كَانَ أَوْ قَفَارًا، وَلَا يَتَكَلَّفُ الطَّيِّبَ، وَيَتَّخِذَهُ عَادَةً؛ وَقَدْ كَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَشْبَعُ إذَا وَجَدَ، وَيَصْبِرُ إذَا عَدِمَ، وَيَأْكُلُ الْحَلْوَى إذَا قَدَرَ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُ الْعَسَلَ إذَا اتَّفَقَ لَهُ، وَيَأْكُلُ اللَّحْمَ إذَا تَيَسَّرَ، وَلَا يَعْتَمِدُهُ أَصْلًا، وَلَا يَجْعَلُهُ دَيْدَنًا، وَمَعِيشَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعْلُومَةٌ، وَطَرِيقَةُ أَصْحَابِهِ بَعْدُ مَنْقُولَةٌ؛ فَأَمَّا الْيَوْمَ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْحَرَامِ، وَفَسَادِ الْحُطَامِ، فَالْخَلَاصُ عَسِيرٌ، وَاَللَّهُ يَهَبُ الْإِخْلَاصَ، وَيُعِينُ عَلَى الْخَلَاصِ بِرَحْمَتِهِ...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{ويوم يعرض الذين كفروا على النار} قيل يدخلون النار، وقيل تعرض عليهم النار ليروا أهوالها... هذه الآية لا تدل على المنع من التنعم، لأن هذه الآية وردت في حق الكافر، وإنما وبخ الله الكافر لأنه يتمتع بالدنيا ولم يؤد شكر المنعم بطاعته والإيمان به، وأما المؤمن فإنه يؤدي بإيمانه شكر المنعم فلا يوبخ بتمتعه، والدليل عليه قوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} نعم لا ينكر أن الاحتراز عن التنعم أولى، لأن النفس إذا اعتادت التنعم صعب عليها الاحتراز والانقباض، وحينئذ فربما حمله الميل إلى تلك الطيبات على فعل ما لا ينبغي، وذلك مما يجر بعضه إلى بعض ويقع في البعد عن الله تعالى بسببه...

{فاليوم تجزون عذاب الهون} أي الهوان، وقرئ عذاب الهوان {بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون} فعلل تعالى ذلك العذاب بأمرين: أولهما: الاستكبار والترفع وهو ذنب القلب. الثاني: الفسق وهو ذنب الجوارح، وقدم الأول على الثاني لأن أحوال القلوب أعظم وقعا من أعمال الجوارح، ويمكن أن يكون المراد من الاستكبار أنهم يتكبرون عن قبول الدين الحق، ويستنكفون عن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام، وأما الفسق فهو المعاصي...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ...الآية جوزوا من جنس عملهم، فكما نَعَّموا أنفسهم واستكبروا عن اتباع الحق، وتعاطوا الفسق والمعاصي، جازاهم الله بعذاب الهون، وهو الإهانة والخزي والآلام الموجعة، والحسرات المتتابعة والمنازل في الدركات المفظعة، أجارنا الله من ذلك كله...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ويوم} أي واذكر لهم يوم يعرضون...

{يعرض الذين كفروا} أي من الفريقين المذكورين {على النار} أي يصلون لهبها ويقلبون فيها كما يعرض اللحم الذي يشوى، مقولاً لهم على سبيل التنديم والتقريع والتوبيخ والتشنيع...

{أذهبتم} في قراءة نافع وأبي عمرو والكوفيين بالإخبار، وقراءة الباقين بالاستفهام لزيادة الإنكار والتوبيخ {طيباتكم} أي لذاتكم باتباعكم الشهوات {في حياتكم} ونفر منها بقوله تعالى: {الدنيا} أي القريبة الدنية المؤذن وصفها لمن يعقل بحياة أخرى بعدها...

{واستمتعتم} أي طلبتم وأوجدتم انتفاعكم {بها} وجعلتموها غاية حظكم في رفعتكم ونعمتكم...

{فاليوم تجزون} أي على إعراضكم عنا- بجزاء من لا تقدرون التقصي من جزائه بأيسر أمر منه {عذاب الهون} أي الهوان العظيم المجتمع الشديد الذي فيه ذل وخزي {بما كنتم} جبلة وطبعاً {تستكبرون} أي تطلبون الترفع وتوجدونه على الاستمرار {في الأرض} التي هي لكونها تراباً وموضوعة على الزوال والخراب...

{بغير الحق} أي الأمر الذي يطابقه الواقع وهو أوامرنا ونواهينا، ودل- بأداة الكمال على أنه لا يعاقب على الاستكبار مع الشبهة {وبما كنتم} على الاستمرار {تفسقون *} أي تجددون الخروج عن محيط الطاعة الذي تدعو إليه الفطرة الأولى والعقل إلى نوازع المعاصي.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} حيث اطمأننتم إلى الدنيا، واغتررتم بلذاتها...

{فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي: العذاب الشديد الذي يهينكم ويفضحكم بما كنتم تقولون على الله غير الحق، أي: تنسبون الطريق الضالة التي أنتم عليها إلى الله وإلى حكمه وأنتم كذبة في ذلك، {وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} أي: تتكبرون عن طاعته، فجمعوا بين قول الباطل والعمل بالباطل والكذب على الله بنسبته إلى رضاه والقدح في الحق والاستكبار عنه فعوقبوا أشد العقوبة...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها).. فقد كانوا يملكون الطيبات إذن، ولكنهم استنفدوها في الحياة الدنيا، فلم يدخروا للآخرة منها شيئا؛ ...

(فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق، وبما كنتم تفسقون).. وكل عبد يستكبر في الأرض فإنما يستكبر بغير حق. فالكبرياء لله وحده. وليست لأحد من عباده في كثير أو قليل. وعذاب الهون هو الجزاء العدل على الاستكبار في الأرض. فجزاء الاستكبار الهوان. وجزاء الفسوق عن منهج الله وطريقه الانتهاء إلى هذا الهوان أيضا...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

ويقال للذين كفروا يومَ يعرضون على النار {أذهبتم طيباتكم}، ومناسبة ذكره هنا أنه تقرير لمعنى {لا يظلمون} [الأحقاف: 19]، أي لا يظلمون في جزاء الآخرة مع أننا أنعمنا عليهم في الدنيا ولو شئنا لعجلنا لهم الجزاء على كفرهم من الحياة الدنيا، ولكن الله لم يحرمهم من النعمة في الحياة الدنيا... وإذهاب الطيبات مستعار لمفارقتها كما أن إذهاب المرء إبعادٌ له عن مكان له. والذهاب: المبارحة. والمعنى: استوفيتم ما لكم من الطيبات بما حصل لكم من نعيم الدنيا ومتعتها فلم تبق لكم طيبات بعدها لأنكم لم تعملوا لنوال طيبات الآخرة، وهو إعذار لهم وتقرير لكونهم لا يظلمون فرتب عليه قوله: {فاليوم تجزون عذاب الهون}. فالفاء فصيحة. والتقدير: إن كان كذلك فاليوم لم يبق لكم إلا جزاء سيئ أعمالكم، وليست الفاء للتفريع ولا للتسبب. وليس في الآية ما يقتضي منع المسلم من تناول الطيبات في الدنيا إذا توخّى حلالها وعمل بواجبه الديني فيما عدا ذلك وإن كان الزهد في الاعتناء بذلك أرفع درجة وهي درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصة من أصحابه...

والهُون: الهوان وهو الذلّ وإضافة {عذاب} إلى {الهون} مع إضافة الموصوف إلى الصفة. والباء في قوله: {بما كنتم تستكبرون} للسببية وهي متعلقة بفعل {تجزون}. والمراد بالاستكبار، الاستكبار على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى قبول التوحيد. والفسوق: الخروج عن الدين وعن الحق، وقد يأخذ المسلم بحظ من هذين الجرمين فيكون له حظ من جزائهما الذي لقيه الكافرون، وذلك مبين في أحكام الدين. والفسوق: هنا الشرك...

أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :

المراد بالعرض مباشرة العذاب...

. وقال بعض العلماء: معنى عرضهم على النار هو تقريبهم منها، والكشف لهم عنها، حتى يروها كما قال تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ}. وقال تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 23]...

التحقيق: إن شاء الله في معنى هذه الآية هو أنها في الكفار وليست في المؤمنين الذين يتمتعون باللذات التي أباحها الله لهم، لأنه تعالى ما أباحها لهم ليذهب بها حسناتهم...

وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطي بها في الدنيا ويجزي بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزي بها» هذا لفظ مسلم في صحيحه. وفي لفظ له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته» ا ه...

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي عذاب الهوان وهو الذل والصغار. وقوله تعالى: {بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ}، الباء في قوله: بما كنتم سببية، وما مصدرية أي تجزون عذاب الهون بسبب كونكم مستكبرين في الأرض، وكونكم فاسقين. وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كون الاستكبار في الأرض والفسق من أسباب عذاب الهون، وهو عذاب النار...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(ويوم يعرض الذين كفروا على النّار أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا...). نعم، فقد كنتم غارقين في الشهوات، ولم تكونوا تعرفون شيئاً إلاّ التمتع بطيّبات هذا العالم ونعمه المادية، ومن أجل أن تكونوا متحللين من كلّ القيود في هذا المجال، أنكرتم المعاد لتطلقوا لأنفسكم العنان، وسخرتم هذه المواهب من أجل إنزال كلّ أنواع الظلم والجور بحق الآخرين.

(فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون) فاليوم ترون جزاء كلّ ذلك التمتع الباطل، واتباع الشهوات الأعمى، وعبادة الهوى، والاستكبار والفسق والفجور وتذوقون العذاب المذل والمهين بسبب تلكم الأعمال.

بحوث:

تقول هذه الآية: إنّ الكفار يعرضون على النّار في القيامة، وقد ورد نظير هذا في الآية (46) من سورة المؤمن حول عذاب الفراعنة في البرزخ، إذ تقول: (النّار يعرضون عليها غدواً وعشياً) في حين أنّنا نقرأ في بعض آيات القرآن الأُخرى أنّ جهنّم تعرض على الكافرين: (وعرضنا جهنّم للكافرين عرضاً). لذلك قال بعض المفسّرين: إنّ في القيامة نوعين من العرض: فقبل الحساب تعرض جهنّم على المجرمين ليملأ وجودهم الخوف والهلع، وهذا بحدِّ ذاته عقاب وعذاب نفسي، وبعد الحساب وإلقائهم في جهنّم يعرضونهم على عذاب الله...

.فيمكن القول في هذه الصورة: إنّ الكافرين يعرضون على النّار، كما تعرض عليهم، وكلا التعبيرين صحيح...

2 إنّ جملة: (أذهبتم طيّباتكم) تعني التمتع بلذائذ الدنيا، والتعبير ب «أذهبتم» لأنّ هذه اللذائذ والنعم تفنى بالتمتع بها واستهلاكها. ومن المسلّم أنّ التمتع بمواهب الله ونعمه في هذه الدنيا ليس أمراً مذموماً قبيحاً، بل المذموم هو الغرق في اللذات المادية، ونسيان ذكر الله والقيامة، أو التمتع بها بصورة غير مشروعة والتلوث بالمعاصي عن طريقها...

للطيبات معنى واسع يشمل كلّ مواهب الدنيا، ومع أنّ بعض المفسّرين قد فسّرها بقوّة الشباب فقط، إلاّ أنّ الحق هو أنّ الشباب يمكن أن يكون مصداقاً لا غير. 4 إنّ التعبير ب (عذاب الهون) بمثابة ردّ فعل لاستكبار هؤلاء في الأرض، لأنّ العقوبة الإلهية تتناسب تماماً مع نوع الذنب والمعصية، فأُولئك الذين تكبّروا على خلق الله، بل وحتى على أنبيائه، ولم يخضعوا لأي تشريع إلهي، يجب أن يلاقوا جزاءهم بذلة وحقارة ومهانة.

لقد ذكر في ذيل هذه الآية ذنبان لأصحاب الجحيم، الأوّل: الاستكبار، والثّاني: الفسق. ويمكن أن يكون الأوّل إشارة إلى عدم إيمانهم بآيات الله وبعث الأنبياء والقيامة، والثّاني إشارة إلى أنواع الذنوب والمعاصي، فأحدهما يتحدّث عن ترك أصول الدين، والآخر عن تضييع فروع الدين.

إنّ التعبير ب (غير الحق) لا يعني أنّ الاستكبار نوعان: حق، وغير حق، بل إنّ هذه التعابير تقال عادةً للتأكيد، ونظائرها كثير...

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ} (20)

{ ويوم يعرض الذين كفروا على النار } فيقال لهم { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } وذلك أنهم يفعلون ما يشتهون لا يتوقون حراما ولا يجتنبون مأثما { فاليوم تجزون عذاب الهون } الهوان الآية

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ} (20)

ولما كان الظاهر في هذه السورة الإنذار كما يشهد به مطلعها ، قال ذاكراً بعض ما يبكت{[58883]} به المجرمون يوم البعث الذي كانوا به يكذبون ويكون فيه توفية جزاء الأعمال ، عاطفاً على ما تقديره : اذكر لهم هذا لعلهم يأنفون أن يكونوا المسيئين فيكونوا من المحسنين : { ويوم } أي واذكر لهم يوم يعرضون - هكذا كان الأصل ولكنه أظهر الوصف الذي أوجب لهم الجزاء إشارة إلى أن الأمر كان ظاهراً لهم ولكنهم ستروا ، أنوار عقولهم فقال : { يعرض الذين كفروا } أي من الفريقين المذكورين { على النار } أي يصلون لهبها ويقلبون فيها كما يعرض اللحم الذي يشوى{[58884]} ، مقولاً لهم على سبيل التنديم والتقريع والتوبيخ والتشنيع لأنهم لم يذكروا الله حق ذكره عند شهواتهم بل نالوها مع مخالفة أمره سبحانه ونهيه : { أذهبتم } في قراءة نافع وأبي عمرو والكوفيين{[58885]} بالإخبار ، وقراءة الباقين بالاستفهام لزيادة الإنكار والتوبيخ { طيباتكم } أي لذاتكم باتباعكم الشهوات { في حياتكم } ونفر{[58886]} منها بقوله تعالى : { الدنيا } أي القريبة الدنية المؤذن وصفها لمن يعقل بحياة أخرى بعدها ، فكان سعيكم في حركاتكم وسكناتكم لأجلها حتى نلتموها { واستمتعتم } أي طلبتم وأوجدتم انتفاعكم{[58887]} { بها } وجعلتموها غاية حظكم في رفعتكم ونعمتكم .

ولما كان ذلك استهانة بالأوامر والنواهي للاستهانة بيوم الجزاء ، سبب عنه قوله تعالى : { فاليوم تجزون } أي على إعراضكم عنا-{[58888]} بجزاء من لا تقدرون{[58889]} التقصي{[58890]} من جزائه بأيسر أمر منه { عذاب الهون } أي الهوان{[58891]} العظيم المجتمع الشديد الذي فيه ذل وخزي { بما كنتم } جبلة وطبعاً { تستكبرون } أي تطلبون {[58892]}الترفع وتوجدونه{[58893]} على الاستمرار { في الأرض } التي هي لكونها تراباً وموضوعة على الزوال والخراب ، أحق شيء بالتواضع والذل والهوان . ولما كان الاستكبار يكون بالحق لكونه على الظالمين فيكون ممدوحاً ، قيده بقوله : { بغير الحق } أي الأمر الذي يطابقه الواقع وهو أوامرنا ونواهينا ، ودل-{[58894]} بأداة الكمال على أنه لا يعاقب على الاستكبار مع الشبهة { وبما كنتم } على الاستمرار { تفسقون * } أي تجددون الخروج عن محيط الطاعة الذي تدعو إليه الفطرة الأولى والعقل {[58895]}إلى نوازع{[58896]} المعاصي .


[58883]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: ينكب.
[58884]:من مد، وفي الأصل و ظ و م.شوى.
[58885]:راجع نثر المرجان6/549-550.
[58886]:من ظ ومد، وفي الأصل و م: يقر.
[58887]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: اسفافكم.
[58888]:زيد من م ومد.
[58889]:زيد بعده في الأصل: إعراضكم بجزاء من لا تقدرون على، ولم تكن الزيادة في ظ و م ومد فحذفناها.
[58890]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: البعض.
[58891]:زيد في الأصل: ألوان، ولم تكن الزيادة في ظ و م ومد فحذفناها.
[58892]:من ظ و م ومد، وفي الأصل:الرفع وتجدونه.
[58893]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: الرفع وتجدونه.
[58894]:زيد من م ومد.
[58895]:من مد، وفي الأصل و ظ: على أنواع، وفي م: على نوازع.
[58896]:من مد، وفي الأصل و ظ: على أنواع، وفي م: على نوازع.