سيئة مثلها : سميت مقابلة السيئة سيئة ؛ لمشابهتها لها في الصورة .
فأجره على الله : فثوابه على الله .
لا يحب الظالمين : يكره ويبغض المعتدين .
40- { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين } .
هذا هو الحكم الشرعي ، عقوبة السيئ بما شرعه الله من عقوبة مماثلة لجرمه ، وسمى الجزاء سيئة لأنها تسوء من تنزل به ، أو مماثلة لما قبلها ، وهذا القصاص عدل .
قال تعالى : { والجروح قصاص . . . } ( المائدة : 45 ) . وقال سبحانه : { ولكم في القصاص حياة . . . } ( البقرة : 179 ) .
وقال سبحانه : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم . . . } ( البقرة : 194 ) .
وقال سبحانه : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } . ( النحل : 126 ) .
ومن ذلك ترى وسطية القرآن ، وحسن تشريعه ، فقد شرع العقوبة ردعا للفساق والمتجبرين والمستهترين ، ثم شرع العفو والصفح للنادمين والمخطئين الذي تابوا من خطئهم ، فقال سبحانه : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله . . . } أي : من عفا عمن أساء إليه وأصلح ما بينه وبين المسيء أو المعتدي فقد أحسن في الدنيا ، وثوابه عظيم عند الله يوم القيامة ، وفي الحديث الشريف : ( ما زاد الله عبدا يعفو إلا عزا )18 رواه أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، عن أبي هريرة رضي الله عنه .
وفي الأثر : إذا كان يوم القيامة نادى مناد من قبل الله تعالى : من كان أجره على الله فليقم ، فلا يقوم إلا من عفا ، فذلك قوله تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله . . . }
وقد وصف الله المتقين بقوله تعالى : { الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } . ( آل عمران : 134 ) .
أي : إنه تعالى لا يحب المبتدئين بالظلم ، ولا يحب من يتعدى في الاقتصاص ، ويجاوز الحد فيه ، لأن المجاوزة ظلم ، والمراد أنه تعالى يعاقب المتجاوز حده ، وهذا تأكيد لمطلع الآية في اشتراط المماثلة نوعا ومقدارا .
ثم بين الله تعالى أن ذلك الانتصار للأنفس مقيَّد بالمِثْل :
{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }
فالزيادة ظلم ، والتساوي هو العدل الذي قامت به السمواتُ والأرض .
ثم بين الله أن من الأفضل العفو والتسامح فقال :
{ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين } . ومثل هذا قوله تعالى : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] ، ومثله أيضا { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [ النحل : 126 ] ، إلى آياتٍ كثيرة وأحاديثَ تحثّ على الصبر والعفو . وهذا سبيل الإسلام .
الثانية- قوله تعالى : " وجزاء سيئة سيئة مثلها " قال العلماء : جعل الله المؤمنين صنفين : صنف يعفون عن الظالم فبدأ بذكرهم في قول " وإذا ما غضبوا هم يغفرون " [ الشورى : 37 ] . وصنف ينتصرون من ظالمهم . ثم بين حد الانتصار بقول : " وجزاء سيئة سيئة مثلها " فينتصر ممن ظلمه من غير أن يعتدي . قال مقاتل وهشام بن حجير : هذا في المجروح ينتقم من الجارح بالقصاص دون غيره من سب أو شتم . وقاله الشافعي وأبو حنيفة وسفيان . قال سفيان : وكان ابن شبرمة يقول : ليس بمكة مثل هشام . وتأول الشافعي في هذه الآية أن للإنسان أن يأخذ من مال من خانه مثل ما خانه من غير علمه ، واستشهد في ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند زوج أبي سفيان : ( خذي من ماله ما يكفيك وولدك ) فأجاز لها أخذ ذلك بغير إذنه . وقد مضى الكلام في هذا مستوفى في " البقرة " {[13540]} . وقال ابن أبي نجيح : إنه محمول على المقابلة في الجراح . وإذا قال : أخزاه الله أو لعنه الله أن يقول مثله . ولا يقابل القذف بقذف ولا الكذب بكذب . وقال السدي : إنما مدح الله من انتصر ممن بغى عليه من غير اعتداء بالزيادة على مقدار ما فعل به ، يعني كما كانت العرب تفعله . وسمي الجزاء سيئة لأنه في مقابلتها ، فالأول ساء هذا في مال أو بدن ، وهذا الاقتصاص يسوءه بمثل ذلك أيضا ، وقد مضى هذا كله في " البقرة " مستوفى{[13541]} .
الثالثة- قوله تعالى : " فمن عفا وأصلح " قال ابن عباس : من ترك القصاص وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو " فأجره على الله " أي إن الله يأجره على ذلك . قال مقاتل : فكان العفو من الأعمال الصالحة وقد مضى في " آل عمران " {[13542]} في هذا ما فيه كفاية ، والحمد لله . وذكر أبو نعيم الحافظ عن علي بن الحسين رضي الله عنهم قال : إذا كان يوم القيامة نادى مناد أيكم أهل الفضل ؟ فيقوم ناس من الناس ، فيقال : انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة ، فيقولون إلى أين ؟ فيقولون إلى الجنة ، قالوا : قبل الحساب ؟ قالوا : من أنتم ؟ قالوا أهل الفضل ، قالوا وما كان فضلكم ؟ قالوا : كنا إذا جهل علينا حلمنا وإذا ظلمنا صبرنا وإذا سيء إلينا عفونا . قالوا : ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين . وذكر الحديث . " إنه لا يحب الظالمين " أي من بدأ بالظلم . قاله سعيد بن جبير . وقيل : لا يحب من يتعدى في الاقتصاص ويجاوز الحد . قاله ابن عيسى .
{ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } ، لأنه لما قاتلته الفئة الباغية قاتلها انتصارا للحق ، وانظر كيف سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم المقاتلين لعلي الفئة الباغية حسبما ورد في الحديث الصحيح أنه قال لعمار بن ياسر : " تقتلك الفئة الباغية " فذلك هو البغي الذي أصابه وقوله : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } إشارة إلى فعل الحسن بن علي حين بايع معاوية ، وأسقط حق نفسه ليصلح أحوال المسلمين ، ويحقن دماءهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحسن " إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " .
وقوله : { ولمن انتصر بعد ظلمه } ، فأولئك ما عليهم من سبيل إشارة إلى انتصار الحسين بعد موت الحسن ، وطلبه للخلافة وانتصاره من بني أمية .
وقوله : { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس } إشارة إلى بني أمية ، فإنهم استطالوا على الناس كما جاء في الحديث عنهم ، " أنهم جعلوا عباد الله حولا ومال الله دولا ويكفيك من ظلمهم أنهم كانوا يلعنون علي بن أبي طالب على منابرهم " ، وقوله : { ولمن صبر وغفر } الآية : إشارة إلى صبر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما نالهم من الضر والذل ، طول مدة بني أمية { وجزاء سيئة سيئة مثلها } سمى العقوبة باسم الذنب وجعلها مثلها تحرزا من الزيادة عليها .
{ فمن عفا وأصلح فأجره على الله } هذا يدل على أن العفو عن الظلمة أفضل من الانتصار ، لأنه ضمن الأجر في العفو ، وذكر الانتصار بلفظ الإباحة في قوله : { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل } وقيل : إن الانتصار أفضل ، والأول أصح فإن قيل : كيف ذكر الانتصار في صفات المدح في قوله : { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } والمباح لا مدح فيه ولا ذم ، فالجواب : من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن المباح قد يمدح لأنه قيام بحق لا بباطل .
والثاني : أن مدح الانتصار لكونه مكان بعد الظلم تحرزا ممن بدأ بالظلم فكأن المدح إنما هو بترك الابتداء بالظلم .
والثالث : إن كانت الإشارة بذلك إلى علي بن أبي طالب حسبما ذكرنا فانتصاره محمود ، لأن قتال أهل البغي واجب لقوله تعالى : { فقاتلوا التي تبغي } [ الحجرات : 9 ] .
ولما كان الإذن في الانتصار في هذا السياق المادح مرغباً فيه مع ما للنفس من الداعية إليه ، زجر عنه لمن كان له قلب أولاً بكفها عن الاسترسال فيه وردها على حد المماثلة ، وثانياً بتسميته سيئة وإن كان على طريق المشاكلة ، وثالثاً بالندب إلى العفو ، فصار المحمود منه إنما هو ما كان لإعلاء كلمة الله لا شائبة فيه للنفس أصلاً فقال : { وجزاء سيئة } أي أي سيئة كانت { سيئة مثلها } أي لا تزيد عليها في عين ولا معنى أصلاً ، وقد كفلت هذه الجمل بالدعاء إلى أمهات الفضائل الثلاث العلم والعفة والشجاعة على أحسن الوجوه ، فالمدح بالاستجابة والصلاة دعاء إلى العلم ، وبالنفقة إلى العفة ، وبالانتصار إلى الشجاعة ، حتى لا يظن ظان أن إذعانهم لما مضى مجرد ذل ، والقصر على المماثلة دعاء إلى فضيلة التقسيط بين الكل وهي العدل ، وهذه الأخيرة كافلة بالفضائل الثلاث ، فإن من علم المماثلة كان عالماً ، ومن قصد الوقوف عندها كان عفيفاً ، ومن قصر نفسه على ذلك كان شجاعاً ، وقد ظهر من المدح بالانتصار بعد المدح بالغفران أن الأول للعاجز والثاني للمتغلب المتكبر بدليل البغي .
ولما كان شرط المماثلة نادباً بعد شرع العدل الذي هو القصاص إلى العفو الذي هو الفصل لأن تحقق المثلية من العبد الملزوم للعجز لا يكاد يوجد ، سبب عنه قوله : { فمن عفا } أي بإسقاط حقه كله أو بالنقص عنه لتتحقق البراءة مما حرم من المجاوزة { وأصلح } أي أوقع الإصلاح بين الناس بالعفو والإصلاح لنفسه ليصلح الله ما بينه وبين الناس ، فيكون بذلك منتصراً من نفسه لنفسه { فأجره على الله } أي المحيط بجميع صفات الكمال فهو يعطيه على حسب ما يقتضيه مفهوم هذا الاسم الأعظم ، وهذا سر لفت الكلام إليه عن مظهر العظمة وقوله صلى الله عليه وسلم : " ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً " .
ولما كان هذا ندباً إلى العفو بعد المدح بالانتصار ، بين أن علته كراهة أن يوضع شيء في غير محله لأنه لا يعلم المماثلة في ذلك إلا الله ، فقال مضمراً إشارة إلى أن المثلية من الغيب الخفي مؤكداً لكف النفس لما لها من عظم الاسترسال في الانتصار : { إنه لا يحب الظالمين * } أي لا يكرم الواضعين للشيء في غير محله دأب من يمشي في مأخذ الاشتقاق إذا كان عريقاً في ذلك سواء كان ابتداء أو مجاوزة في الانتقام بأخذ الثأر .