كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم : حتى لا يكون الفيء مقصورا على الأغنياء ، يتداولونه بينهم ، يأخذه هذا مرة ، ويأخذه هذا أخرى ، ولا يأخذ الفقراء منه شيئا .
وما آتاكم الرسول فخذوه : ما أعطاكم الرسول مما أفاء الله عليه من أهل القرى فخذوه .
7- { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } .
أما الأموال والغنائم التي استولى عليها المسلمون في حرب بني قريظة ، فإنها قسمت بين المحاربين لأن بني قريظة لم يُحشروا ولم يخرجوا عن أوطانهم وإنما قتلهم المسلمون بسيوفهم . وقرى اليهود : أشهرها قرية بني النضير ، وقريظة ، وفدك ، وخيبر ، وقد تبين الحكم في أموال بني النضير في الآية السابقة ، ومثلها ما فتح صلحا مثل فدك ، وأما غنائم سائر القرى مما فتح عنوة ، فإن خمسه لله والرسول ، وأربعة أخماسه تقسم بين المقاتلين .
قال تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . . }( الأنفال : 41 ) .
وقد بين الله في الآية الحكمة في إعطاء الفقراء والمساكين نصيبا من أموال الغنائم ولو لم يحاربوا ، إن ذلك لمنع كثرة الأموال في أيدي الأغنياء الذين يشهدون المعارك ، وحرمان الفقراء الذين لا يقوون على أن يشهدوا الحرب .
من أهل القرى : من أهل البلاد التي تفتح بلا قتال .
كي لا يكون دُولة بين الأغنياء : كي لا يتداوله الأغنياء بينهم دون الفقراء .
ثم بين الكلامَ في حكم ما أفاء الله على رسوله من قرى الأعداء عامة فقال :
{ مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ . . . . } .
ما ردّه الله على رسوله من أموال أهلِ القرى بغير قتال فهو لله ، وللرسول ، ولذي القربى من بني هاشم وبني المطلب ، ولليتامى الفقراء ، وللمساكين ذوي الحاجة والبؤس ، ولابن السبيل المسافر الذي انقطع في بلد وليس لديه مال ، يُعطى ما يوصله إلى بلده .
{ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء مِنكُمْ } .
إنما حكمْنا بهذه الأحكام وجعلنا المال مقسما بين من ذكَرنا لئلا يأخذه الأغنياء منكم ، ويتداولوه فيما بينهم ، ويحرم الفقراء منه .
وما جاءكم به الرسول من الأحكام والتشريع فتمسّكوا به ، وما نهاكم عنه فاتركوه . ثم حذّر الله الجميع من مخالفة أوامره ونواهيه فقال : { واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } .
وحكمه العام ، كما ذكره الله في قوله : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } عموما ، سواء أفاء الله في وقت رسوله أو بعده ، لمن يتولى من بعده أمته{[1034]}
{ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } وهذه الآية نظير الآية التي في سورة الأنفال ، في{[1035]} قوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } .
خمس لله ولرسوله يصرف في مصالح المسلمين [ العامة ] ، وخمس لذوي القربى ، وهم : بنو هاشم وبنو المطلب ، حيث كانوا يسوى [ فيه ] بين ، ذكورهم وإناثهم ، وإنما دخل بنو المطلب في خمس الخمس ، مع بني هاشم ، ولم يدخل بقية بني عبد مناف ، لأنهم شاركوا بني هاشم في دخولهم الشعب ، حين تعاقدت قريش على هجرهم وعداوتهم{[1036]} فنصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بخلاف غيرهم ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ، في بني عبد المطلب : " إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام "
وخمس لفقراء اليتامى ، وهم : من لا أب له ولم يبلغ ، وخمس للمساكين ، وسهم لأبناء السبيل ، وهم الغرباء المنقطع بهم في غير أوطانهم .
وإنما قدر الله هذا التقدير ، وحصر الفيء في هؤلاء المعينين ل { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً } أي : مدوالة واختصاصا { بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } فإنه لو لم يقدره ، لتداولته الأغنياء الأقوياء ، ولما حصل لغيرهم من العاجزين منه شيء ، وفي ذلك من الفساد ، ما لا يعلمه إلا الله ، كما أن في اتباع أمر الله وشرعه من المصالح ما لا يدخل تحت الحصر ، ولذلك أمر الله بالقاعدة الكلية والأصل العام ، فقال : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وهذا شامل لأصول الدين وفروعه ، ظاهره وباطنه ، وأن ما جاء به الرسول يتعين على العباد الأخذ به واتباعه ، ولا تحل مخالفته ، وأن نص الرسول على حكم الشيء كنص الله تعالى ، لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه ، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله ، ثم أمر بتقواه التي بها عمارة القلوب والأرواح [ والدنيا والآخرة ] ، وبها السعادة الدائمة والفوز العظيم ، وبإضاعتها الشقاء الأبدي والعذاب السرمدي ، فقال : { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } على من ترك التقوى ، وآثر اتباع الهوى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} يعني قريظة والنضير وخيبر وفدك وقريتي عرينة، {فلله وللرسول ولذي القربى} يعني قرابة النبي صلى الله عليه وسلم {واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة} يعني يكون المال دولة {بين الأغنياء منكم} يعني لئلا يغلب الأغنياء الفقراء على الفيء، فيقسمونه بينهم؛ فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم الفيء للمهاجرين، ولم يعط الأنصار غير رجلين، منهم سهل بن حنيف، وسماك بن خرشة، أعطاهما النبي صلى الله عليه وسلم أرضا من أرض النضير.
قوله: {وما آتاكم الرسول} يقول: ما أعطاكم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من الفيء، {فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله} يخوفهم الله من المعاصي، ثم خوفهم، فقال: {إن الله شديد العقاب} إذا عاقب أهل المعاصي...
- الخازن: قال مالك بن أنس: من انتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه غل عليهم فليس له حق في فيء المسلمين، ثم تلا هذه الآية: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب} [الحشر: 7].
قال الشافعي: وما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط إلا بوحي، فمن الوحي ما يتلى، ومنه ما يكون وحيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستن؛ عن المطلب بن حنطب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا شيئا مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه، وإن الروح الأمين قد ألقى في روعي أن لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فأجملوا في الطلب». قال الشافعي: وقد قيل: ما لم يتل قرآنا إنما ألقاه جبريل في روعه بأمر الله، فكان وحيا إليه. وقيل: جعل الله إليه بما شهد له به من أنه يهدي إلى صراط مستقيم أن يسُن. وأيهما كان فقد ألزمهما الله تعالى خلقه، ولم يجعل لهم الخيرة من أمرهم فيما سن لهم، وفرض عليهم اتباع سنته. (الأم: 7/299. ون الأم: 7/286 و 7/15.)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله جلّ ثناؤه: "ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى" الذي ردّ الله عزّ وجلّ على رسوله من أموال مشركي القرى. واختلف أهل العلم في الذي عني بهذه الآية من الألوان؛
فقال بعضهم: عني بذلك الجزية والخراج.
وقال آخرون: عني بذلك الغنيمة التي يصيبها المسلمون من عدوّهم من أهل الحرب بالقتال عنوة.
وقال آخرون: عني بذلك الغنيمة التي أوجف عليها المسلمون بالخيل والركاب، وأخذت بالغلبة، وقالوا كانت الغنائم في بدوّ الإسلام لهؤلاء الذين سماهم الله في هذه الآيات دون المرجفين عليها، ثم نسخ ذلك بالآية التي في سورة الأنفال.
وقال آخرون: عني بذلك: ما صالح عليه أهل الحرب المسلمين من أموالهم، وقالوا قوله {ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى فَلِلّهِ وللرّسُولِ} الآيات، بيان قسم المال الذي ذكره الله في الآية التي قبل هذه الآية، وذلك قوله: {ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلا رِكاب} وهذا قول كان يقوله بعض المتفقهة من المتأخرين.
والصواب من القول في ذلك عندي، أن هذه الآية حكمها غير حكم الآية التي قبلها، وذلك أن الآية التي قبلها مال جعله الله عزّ وجلّ لرسوله صلى الله عليه وسلم خاصة دون غيره، لم يجعل فيه لأحد نصيبا، وبذلك جاء الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فإذَا كانت هذه الآية التي قبلها مضت، وذكر المال الذي خصّ الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل لأحد معه شيئا، وكانت هذه الآية خبرا عن المال الذي جعله الله لأصناف شتى، كان معلوما بذلك أن المال الذي جعله لأصناف من خلقه غير المال الذي جعله للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة، ولم يجعل له شريكا.
وقوله: {وَلِذي القُرْبى} يقول: ولذي قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب." واليتامى ": وهم أهل الحاجة من أطفال المسلمين الذين لا مال لهم." والمساكين ": وهم الجامعون فاقة وذلّ المسئلة. " وابن السبيل": وهم المنقطع بهم من المسافرين في غير معصية الله عزّ وجلّ.
وقوله: {كَيْلا يَكُونَ دُولَةً بَينَ الأغْنِياءِ مِنْكُمْ} يقول جلّ ثناؤه: وجعلنا ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى لهذه الأصناف، كيلا يكون ذلك الفيء دُولة يتداوله الأغنياء منكم بينهم، يصرفه هذا مرّة في حاجات نفسه، وهذا مرّة في أبواب البرّ وسُبُل الخير، فيجعلون ذلك حيث شاءوا، ولكننا سننا فيه سنة لا تُغير ولا تُبدّل. وقوله: {وَما آتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ} يقول تعالى ذكره: وما أعطاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء عليه من أهل القرى فخذوه.
{وَما نهاكُمْ عَنْهُ} من الغَلول وغيره من الأمور {فانْتَهُوا} وكان بعض أهل العلم يقول نحو قولنا في ذلك غير أنه كان يوجه معنى قوله {وَمَا آتاكُمُ الرّسُولُ فخُذُوهُ} إلى ما آتاكم من الغنائم.
وقوله: {وَاتّقُوا اللّهَ} يقول: وخافوا الله، واحذروا عقابه في خلافكم على رسوله بالتقدّم على ما نهاكم عنه، ومعصيتكم إياه.
{إنّ الله شَدِيدُ العِقابِ} يقول: إن الله شديد عقابه لمن عاقبه من أهل معصيته لرسوله صلى الله عليه وسلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الدولة -بضم الدال- نقلة النعمة من قوم إلى قوم. وبفتح الدال المرة من الاستيلاء والغلبة.
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
أخبرنا سعيد بن نصر، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا محمد ابن إسماعيل، قال: حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة أن امرأة من بني أسد أتت عبد الله بن مسعود، فقالت له: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت والواشمة والمستوشمة، وإني قرأت ما بين اللوحين فلم أجد الذي تقول، وإني لأظن على أهلك منها، فقال لها عبد الله: فادخلي فانظري، فدخلت فنظرت، فلم تر شيئا، فقال لها عبد الله: أما قرأت: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}، قالت: بلى، قال: فهو ذاك. (جامع بيان العلم وفضله: 2/230).
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} هذا أصل من أصولِ وجوبِ متابعتِه، ولزومِ طريقته وسيرته -وفي العِلْم تفصيلُه.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الثَّالِثُ: مَا أَمَرَكُمْ بِهِ من طَاعَتِي فَافْعَلُوهُ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ من مَعْصِيَتِي فَاجْتَنِبُوهُ. وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّهُ لِعُمُومِهِ تَنَاوَلَ الْكُلَّ، وَهُوَ صَحِيحٌ فِيهِ مُرَادٌ بِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: وَقَعَ الْقَوْلُ هَاهُنَا مُطْلَقًا بِذَلِكَ، وَقَيَّدَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ...
المسألة الثَّالِثَةُ: إذَا أَمَرَ النَّبِيُّ بِأَمْرٍ كَانَ شَرْعًا، وَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا. وَلِذَلِكَ قَالَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»...
المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وَإِنْ جَاءَ بِلَفْظِ الْإِيتَاءِ وَهِيَ الْمُنَاوَلَةُ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فَقَابَلَهُ بِالنَّهْيِ، وَلَا يُقَابِلُ النَّهْيَ إلَّا الْأَمْرُ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى فَهْمِ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُسْتَوْشِمَات، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ لِخَلْقِ اللَّهِ». فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً من بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: [إنَّهُ بَلَغَنِي] أَنَّك لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَقَالَ: وَمَالِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ، فَمَا وَجَدْت فِيهِ مَا تَقُولُ. قَالَ: لَئِنْ كُنْت قَرَأْته لَقَدْ وَجَدْته؛ أَمَا قَرَأْت: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما نزع سبحانه أموالهم من أيدي الجيش، بين مصرف غيرها مما كان مثلها بأن فتح له صلى الله عليه وسلم بغير قتال فقال مستأنفاً جواباً لمن كأنه قال: هل يعم هذا الحكم كل فيء يكون بعد بني النضير: {ما أفاء الله} أي الذي اختص بالعزة والحكمة والقدرة، {على رسوله} ولما كان سبحانه محيط العلم بأنه يسلط على أهل وادي القرى وغيرهم أعظم من هذا التسليط، قال ليكون علماً من أعلام النبوة: {من أهل القرى} أي قرية بني النضير وغيرها من وادي القرى والصفراء وينبع وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية {فلله} أي الملك الأعلى الذي الأمر كله بيده، {وللرسول} لأنه أعظم خلقه، فرتبته تلي رتبته، وهذان يتراءى أنهما قسمان وليس كذلك، هما قسم واحد، ولكنه ذكر سبحانه نفسه المقدس تبركاً، فإن كل أمر لا يبدأ به فهو أجذم، وتعظيماً لرسوله صلى الله عليه وسلم إعلاماً بأنه لا هوى له أصلاً في شيء من الدنيا، وإنما رضاه رضا مولاه، خلقه القرآن الذي هو صفة الله فهو مظهره ومجلاه، وسهمه صلى الله عليه وسلم يصرف بعده لمصالح المسلمين كالسلاح والثغور والعلماء والقضاة والأئمة. ولما أبان هذا الكلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل والعظمة ما لا يدخل تحت الوصف، أتبعه تعظيماً آخر بتعظيم أقاربه لأجله، ولذلك أعاد العامل فقال: {ولذي القربى} أي منه، لأن رتبتهم من بعد رتبته. ولما ذكر أهل الشرف، أتبعه أهل الضعف جبراً لوهنهم فقال مقدماً أضعفهم: {واليتامى} أي الذين هم أحق الناس بالعطف لأن مبنى الدين على التخلق بأخلاق الله التي من أجلّها تقوية الضعيف وجبر الكسير، {والمساكين} فإنهم في الضعف على أثرهم ودخل فيهم الفقراء فإنه إذا انفرد لفظ الفقير أو المساكين دخل كل منهما في الآخر، وإنما يفرق إذا جمع بينهما، وكذا الفيء والغنيمة إذا أفردا جاز أن يدخل كل في الآخر، وإذا جمعا فالفيء ما حصل بغير قتال وإيجاف خيل وركاب، والغنيمة ما حصل بذلك، {وابن السبيل} وهم الغرباء لانقطاعهم عن أوطانهم وعشائرهم.
ولما حكم سبحانه هذا الحكم في الفيء المخالف لما كانوا عليه في الجاهلية من اختصاص الأغنياء به، بين علته المظهرة لعظمته سبحانه وحسن تدبيره ورحمته فقال معلقاً بما علق به الجار: {كي لا يكون} أي الفيء الذي سيره الله سبحانه بقوته وما خص به نبيه صلى الله عليه وسلم من قذف الرعب في قلوب أعدائه ومن حقه أن يعطاه الفقراء {دولة} أي شيئاً يتناوله أهل الغنى والشرف على وجه القهر والغلبة إثرة جاهلية. ولما كان التقدير: فافعلوا ما أمرتكم من قسمته لمن أمرت بهم، عطف عليه قوله: {وما} أي وكل شيء {آتاكم} أي أحضر إليكم وأمكنكم منه {الرسول} أي الكامل في الرسلية من هذا وغيره {فخذوه} أي فتقبلوه تقبل من حازه {وما نهاكم عنه} من جميع الأشياء {فانتهوا} لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يقول ولا يفعل إلا ما أمره به الله ربه، فمن قبل ذلك هانت عليه الأمور. ولما كان الكف عما ألفته النفوس صعباً، ولا سيما ما كان مع كونه تمتعاً بمال على وجه الرئاسة، رهب من المخالفة فيه بقوله: {واتقوا الله} أي اجعلوا لكم بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاية من عذاب الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة، وعلل ذلك بقوله، معظماً له بإعادة الجلالة مؤكداً لأن فعل المخالف فعل المنكر: {إن الله} أي الذي له وحده الجلال والإكرام على الإطلاق {شديد العقاب *} أي العذاب الواقع بعد الذنب، ومن زعم أن شيئاً مما في هذه السورة نسخ بشيء مما في سورة الأنفال فقد أخطأ، لأن الأنفال نزلت في بدر وهي قبل هذه بمدة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.. كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم. وما آتاكم الرسول فخذوه. وما نهاكم عنه فانتهوا. واتقوا الله إن الله شديد العقاب).. وتبين هذه الآية الحكم الذي أسلفنا تفصيلا. ثم تعلل هذه القسمة فتضع قاعدة كبرى من قواعد التنظيم الاقتصادي والإجتماعي في المجتمع الإسلامي: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم).. كما تضع قاعدة كبرى في التشريع الدستوري للمجتمع الإسلامي: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).. ولو أن هاتين القاعدتين جاءتا بمناسبة هذا الفيء وتوزيعه، إلا أنهما تتجاوزان هذا الحادث الواقع إلى آماد كثيرة في أسس النظام الاجتماعي الإسلامي. والقاعدة الأولى، قاعدة التنظيم الاقتصادي، تمثل جانبا كبيرا من أسس النظرية الاقتصادية في الإسلام؛ فالملكية الفردية معترف بها في هذا النظرية. ولكنها محددة بهذه القاعدة، قاعدة ألا يكون المال دولة بين الأغنياء، ممنوعا من التداول بين الفقراء. فكل وضع ينتهي إلى أن يكون المال دولة بين الإغنياء وحدهم هو وضع يخالف النظرية الاقتصادية الإسلامية كما يخالف هدفا من أهداف التنظيم الاجتماعي كله. وجميع الارتباطات والمعاملات في المجتمع الإسلامي يجب أن تنظم بحيث لا تخلق مثل هذا الوضع أو تبقي عليه إن وجد. ولقد أقام الإسلام بالفعل نظامه على أساس هذه القاعدة؛ ففرض الزكاة، وجعل حصيلتها في العام اثنين ونصفا في المئة من أصل رؤوس الأموال النقدية، وعشرة أو خمسة في المئة من جميع الحاصلات. وما يعادل ذلك في الأنعام. وجعل الحصيلة في الركاز وهو كنوز الأرض مثلها في المال النقدي. وهي نسب كبيرة. ثم جعل أربعة أخماس الغنيمة للمجاهدين فقراء وأغنياء بينما جعل الفيء كله للفقراء. وجعل نظامه المختار في إيجار الأرض هو المزارعة -أي المشاركة في المحصول الناتج بين صاحب الأرض وزارعها. وجعل للإمام الحق في أن يأخذ فضول أموال الأغنياء فيردها على الفقراء. وأن يوظف في أموال الأغنياء عند خلو بيت المال. وحرم الاحتكار. وحظر الربا. وهما الوسيلتان الرئيسيتان لجعل المال دولة بين الأغنياء. وعلى الجملة أقام نظامه الاقتصادي كله بحيث يحقق تلك القاعدة الكبرى التي تعد قيدا أصيلا على حق الملكية الفردية بجانب القيود الأخرى. ومن ثم فالنظام الإسلامي نظام يبيح الملكية الفردية، ولكنه ليس هو النظام الرأسمالي، كما أن النظام الرأسمالي ليس منقولا عنه، فما يقوم النظام الرأسمالي إطلاقا بدون ربا وبدون احتكار، إنما هو نظام خاص من لدن حكيم خبير؛ نشأ وحده، وسار وحده، وبقي حتى اليوم وحده. نظاما فريدا متوازن الجوانب، متعادل الحقوق والواجبات، متناسقا تناسق الكون كله. مذ كان صدوره عن خالق الكون. والكون متناسق موزون.
فأما القاعدة الثانية- قاعدة تلقي الشريعة من مصدر واحد: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).. فهي كذلك تمثل النظرية الدستورية الإسلامية. فسلطان القانون في الإسلام مستمد من أن هذا التشريع جاء به الرسول [صلى الله عليه وسلم] قرآنا أو سنة. والأمة كلها والإمام معها لا تملك أن تخالف عما جاء به الرسول. فإذا شرعت ما يخالفه لم يكن لتشريعها هذا سلطان، لأنه فقد السند الأول الذي يستمد منه السلطان.. وهذه النظرية تخالف جميع النظريات البشرية الوضعية، بما فيها تلك التي تجعل الأمة مصدر السلطات، بمعنى أن للأمة أن تشرع لنفسها ما تشاء، وكل ما تشرعه فهو ذو سلطان. فمصدر السلطات في الإسلام هو شرع الله الذي جاء به الرسول [صلى الله عليه وسلم] والأمة تقوم على هذه الشريعة وتحرسها وتنفذها -والإمام نائب عن الأمة في هذا- وفي هذا تنحصر حقوق الأمة. فليس لها أن تخالف عما آتاها الرسول في أي تشريع. فأما حين لا توجد نصوص فيما جاء به الرسول بخصوص أمر يعرض للأمة فسبيلها أن تشرع له بما لا يخالف أصلا من أصول ما جاء به الرسول. وهذا لا ينقض تلك النظرية، إنما هو فرع عنها. فالمرجع في أي تشريع هو أن يتبع ما جاء به الرسول إن كان هناك نص. وألا يخالف أصلا من أصوله فيما لا نص فيه. وتنحصر سلطة الأمة -والإمام النائب عنها- في هذه الحدود. وهو نظام فريد لا يماثله نظام آخر مما عرفته البشرية من نظم وضعية. وهو نظام يربط التشريع للناس بناموس الكون كله. وينسق بين ناموس الكون الذي وضعه الله له والقانون الذي يحكم البشر وهو من الله، كي لا يصطدم قانون البشر بناموس الكون، فيشقى الإنسان أو يتحطم أو تذهب جهوده أدراج الرياح!
وتربط الآية هاتين القاعدتين في قلوب المؤمنين بمصدرهما الأول.. وهو الله.. فتدعوهم إلى التقوى وتخوفهم عقاب الله: (واتقوا الله إن الله شديد العقاب).. وهذا هو الضمان الأكبر الذي لا احتيال عليه، ولا هروب منه. فقد علم المؤمنون أن الله مطلع على السرائر، خبير بالأعمال، وإليه المرجع والمآب. وعلموا أنه شديد العقاب. وعلموا أنهم مكلفون ألا يكون المال دولة بينهم، وأن يأخذوا ما آتاهم الرسول عن رضى وطاعة، وأن ينتهوا عما نهاهم عنه في غير ترخص ولا تساهل وأمامهم يوم عصيب.. ولقد كان توزيع ذلك الفيء -فيء بني النضير- على المهاجرين وحدهم عدا رجلين من الأنصار إجراء خاصا بهذا الفيء، تحقيقا لقاعدة: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم).. فأما الحكم العام، فهو أن يكون للفقراء عامة، من المهاجرين ومن الأنصار وممن يأتي بعدهم من الأجيال. وهذا ما تضمنته الآيات التالية في السياق...
الثانية- قوله تعالى : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } قال ابن عباس : هي قريظة والنضير ، وهما بالمدينة وفدك ، وهي على ثلاثة أيام من المدينة وخيبر . وقرى عرينة وينبع جعلها الله لرسوله . وبين أن في ذلك المال الذي خصه بالرسول عليه السلام سُهْمَانا لغير الرسول نظراً منه لعباده . وقد تكلم العلماء في هذه الآية والتي قبلها ، هل معناهما واحد أو مختلف ، والآية التي في الأنفال ، فقال قوم من العلماء : إن قوله تعالى : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } منسوخ بما في سورة الأنفال من كون الخمس لمن سمي له ، والأخماس الأربعة لمن قاتل . وكان في أول الإسلام تقسم الغنيمة على هذه الأصناف ولا يكون لمن قاتل عليها شيء . وهذا قول يزيد بن رومان وقتادة وغيرهما ، ونحوه عن مالك . وقال قوم : إنما غنم بصلح من غير إيجاف خيل ولا ركاب ، فيكون لمن سمى الله تعالى فيه فيئا والأولى للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، إذا أخذ منه حاجته كان الباقي في مصالح المسلمين . وقال معمر : الأولى : للنبي صلى الله عليه وسلم . والثانية : هي الجزية والخراج للأصناف المذكورة فيه . والثالثة : الغنيمة في سورة الأنفال للغانمين . وقال قوم منهم الشافعي : إن معنى الآيتين واحد ، أي ما حصل من أموال الكفار بغير قتال قسم على خمسة أسهم ، أربعة منها للنبي صلى الله عليه وسلم . وكان الخمس الباقي على خمسة أسهم : سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا وسهم لذوي القربى - وهم بنو هاشم وبنو المطلب - لأنهم منعوا الصدقة فجعل لهم حق في الفيء ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل . وأما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالذي كان من الفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف عند الشافعي في قول إلى المجاهدين المترصدين للقتال في الثغور ؛ لأنهم القائمون مقام الرسول عليه الصلاة والسلام . وفي قول آخر له : يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثغور وحفر الأنهار وبناء القناطر ، يقدم الأهم فالأهم ، وهذا في أربعة أخماس الفيء . فأما السهم الذي كان له من خمس الفيء والغنيمة فهو لمصالح المسلمين بعد موته صلى الله عليه وسلم بلا خلاف ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ( ليس لي من غنائمكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم ) . وقد مضى القول فيه في سورة " الأنفال{[14827]} " .
وكذلك ما خلفه من المال غير موروث ، بل هو صدقة يصرف عنه إلى مصالح المسلمين ، كما قال عليه السلام : ( إنا لا نورث ما تركناه صدقة ) . وقيل : كان مال الفيء لنبيه صلى الله عليه وسلم ، لقوله تعالى : { ما أفاء الله رسوله } فأضافه إليه ، غير أنه كان لا يتأثل{[14828]} مالا ، إنما كان يأخذ بقدر حاجة عياله ويصرف الباقي في مصالح المسلمين . قال القاضي أبو بكر بن العربي : لا إشكال أنها ثلاثة معان في ثلاث آيات ، أما الآية الأولى فهي قوله : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر } [ الحشر : 2 ] ثم قال تعالى : { وما أفاء الله على رسوله منهم } يعني من أهل الكتاب معطوفا عليهم ، { فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } يريد كما بينا ، فلا حق لكم فيه ، ولذلك قال عمر : إنها كانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني بني النضير وما كان مثلها . فهذه آية واحدة ومعنى متحد .
قوله تعالى : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول } وهذا كلام مبتدأ غير الأول لمستحق غير الأول . وسمى الآية الثالثة آية الغنيمة ، ولا شك في أنه معنى آخر باستحقاق ثان لمستحق آخر ، بيد أن الآية الأولى والثانية ، اشتركتا في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئا أفاءه الله على رسوله ، واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال ، واقتضت آية الأنفال أنه حاصل بقتال ، وعرِيت الآية الثالثة وهي قوله تعالى : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } عن ذكر حصوله بقتال أو بغير قتال ، فنشأ الخلاف من ها هنا ، فمن طائفة قالت : هي ملحقة بالأولى ، وهو مال الصلح كله ونحوه . ومن طائفة قالت : هي ملحقة بالثانية وهي آية الأنفال ، والذين قالوا أنها ملحقة بآية الأنفال اختلفوا ، هل هي منسوخة - كما تقدم - أو محكمة ؟ وإلحاقها بشهادة الله بالتي قبلها{[14829]} أولى ؛ لأن فيه تجديد فائدة ومعنى . ومعلوم أن حمل الحرف من الآية فضلا عن الآية على فائدة متجددة أولى من حمله على فائدة معادة . وروى ابن وهب عن مالك في قوله تعالى : { فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } بني النضير{[14830]} ، لم يكن فيها خمس ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب . كانت صافية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقسمها بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار ، حسب ما تقدم . وقوله : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } هي قريظة ، وكانت قريظة والخندق في يوم واحد . قال ابن العربي : قول مالك إن الآية الثانية في بني قريظة ، إشارة إلى أن معناها يعود إلى آية الأنفال ، ويلحقها النسخ . وهذا أقوى{[14831]} من القول بالإحكام . ونحن لا نختار إلا ما قسمنا وبينا أن الآية الثانية لها معنى مجدد حسب ما دللنا عليه والله اعلم .
قلت : ما اختاره حسن . وقد قيل إن سورة " الحشر " نزلت بعد الأنفال ، فمن المحال أن ينسخ المتقدم المتأخر . وقال ابن أبي نجيح : المال ثلاثة : مغنم ، أو فيء ، أو صدقة ، وليس منه درهم إلا وقد بين الله موضعه . وهذا أشبه .
الثالثة- الأموال التي للأئمة والولاة فيها مدخل ثلاثة أضرب : ما أخذ من المسلمين على طريق التطهير لهم ، كالصدقات والزكوات . والثاني : الغنائم ، وهو ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكافرين بالحرب والقهر والغلبة . والثالث : الفيء ، وهو ما رجع للمسلمين من أموال الكفار عفوا صفوا من غير قتال ولا إيجاف ، كالصلح والجزية والخراج والعشور المأخوذة من تجار الكفار ، ومثله أن يهرب المشركون ويتركوا أموالهم ، أو يموت أحد منهم في دار الإسلام ولا وارث له . فأما الصدقة فمصرفها الفقراء والمساكين والعاملين عليها ، حسب ما ذكره الله تعالى ، وقد مضى في " براءة{[14832]} " . وأما الغنائم فكانت في صدر الإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما شاء ، كما قال في سورة " الأنفال " : { قل الأنفال لله والرسول }[ الأنفال : 1 ] ، ثم نسخ بقوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء } [ الأنفال : 41 ] الآية ، وقد مضى في الأنفال بيانه{[14833]} . فأما الفيء فقسمته وقسمة الخمس سواء . والأمر عند مالك فيهما إلى الإمام ، فإن رأى حبسهما لنوازل تنزل بالمسلمين فعل ، وإن رأى قسمتهما أو قسمة أحدهما قسمه كله بين الناس ، وسوى فيه بين عربيهم ومولاهم . ويبدأ بالفقراء من رجال ونساء حتى يغنوا ، ويعطوا ذوو القربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفيء سهمهم على ما يراه الإمام ، وليس له حد معلوم .
واختلف في إعطاء الغني منهم ، فأكثر الناس على إعطائه لأنه حق لهم . وقال مالك : لا يعطي منه غير فقرائهم ؛ لأنه جعل لهم عوضا من الصدقة . وقال الشافعي : أيما حصل من أموال الكفار من غير قتال كان يقسم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على خمسة وعشرين سهما : عشرون للنبي صلى الله عليه وسلم يفعل فيها ما يشاء . والخمس يقسم على ما يقسم عليه خمس الغنيمة . قال أبو جعفر أحمد بن الداودي : وهذا قول ما سبقه به أحد علمناه ، بل كان ذلك خالصا له ، كما ثبت في الصحيح عن عمر مبينا للآية . ولو كان هذا لكان قوله : { خالصة لك من دون المؤمنين{[14834]} } [ الأحزاب : 50 ] يدل على أنه يجوز الموهبة لغيره ، وأن قوله : { خالصة يوم القيامة{[14835]} } [ الأعراف : 32 ] يجوز أن يشركهم فيها غيرهم . وقد مضى قول الشافعي مستوعبا في ذلك والحمد لله . ومذهب الشافعي رضي الله عنه : أن سبيل خمس الفيء سبيل خمس الغنيمة ، وأن أربعة أخماسه كانت للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهي بعده لمصالح المسلمين . وله قول آخر : أنها بعده للمرصدين أنفسهم للقتال بعده خاصة ، كما تقدم .
الرابعة- قال علماؤنا : ويقسم كل مال في البلد الذي جبي فيه ، ولا ينقل عن ذلك البلد الذي جبي فيه حتى يغنوا ، ثم ينقل إلى الأقرب من غيرهم ، إلا أن ينزل بغير البلد الذي جبي فيه فاقة شديدة ، فينتقل ذلك إلى أهل الفاقة حيث كانوا ، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أعوام الرمادة ، وكانت خمسة أعوام أو ستة . وقد قيل عامين وقيل : عام فيه اشتد الطاعون مع الجوع . وإن لم يكن ما وصفنا ورأى الإمام إيقاف الفيء أوقفه لنوائب المسلمين ، ويعطى منه المنفوس ويبدأ بمن أبوه فقير . والفيء حلال للأغنياء . ويسوى بين الناس فيه إلا أنه يؤثر أهل الحاجة والفاقة . والتفضيل فيه إنما يكون على قدر الحاجة . ويعطي منه الغرماء ما يؤدون به ديونهم . ويعطي منه الجائزة والصلة إن كان ذلك أهلا ، ويرزق القضاء والحكام ومن فيه منفعة للمسلمين . وأولاهم بتوفر الحظ منهم أعظمهم للمسلمين نفعا . ومن أخذ من الفيء شيئا في الديوان كان عليه أن يغزو إذا غزي .
الخامسة- قوله تعالى : { كي لا يكون دولة } قراءة العامة " يكون " بالياء . " دولة " بالنصب ، أي كي لا يكون الفيء دولة وقرأ أبو جعفر والأعرج وهشام - عن ابن عامر - وأبو حيوة " تكون " بتاء " دولة " بالرفع ، أي كي لا تقع دولة . فكانت تامة . و " دولة " رفع على اسم كان ولا خبر له . ويجوز أن تكون ناقصة وخبرها " بين الأغنياء منكم " . وإذا كانت تامة فقوله : " بين الأغنياء منكم " متعلق ب " دولة " على معنى تداول بين الأغنياء منكم . ويجوز أن يكون { بين الأغنياء منكم } وصفا ل " دولة " . وقراءة العامة " دولة " بضم الدال . وقرأها السلمي وأبو حيوة بالنصب . قال عيسى بن عمر ويونس والأصمعي : هما لغتان بمعنى واحد . وقال أبو عمرو بن العلاء : الدولة ( بالفتح ) الظفر في الجواب وغيره ، وهي المصدر . وبالضم اسم الشيء الذي يتداول من الأموال . وكذا قال أبو عبيدة : الدولة اسم الشيء الذي يتداول ، والدَّوْلة الفعل . ومعنى الآية : فعلنا ذلك في هذا الفيء ، كي لا تقسمه الرؤساء والأغنياء والأقوياء بينهم دون الفقراء والضعفاء ؛ لأن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا أخذ الرئيس ربعها لنفسه ، وهو المرباع . ثم يصطفي منها أيضا بعد المِرْبَاع ما شاء ، وفيها قال شاعرهم :
لك المِرْبَاع منها والصَّفَايا{[14836]} .
يقول : كي لا يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية . فجعل الله هذا لرسوله صلى الله عليه وسلم ، يقسمه في المواضع التي أمر بها ليس فيها خمس ، فإذا جاء خمس وقع بين المسلمين جميعا .
السادسة- قوله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عه فانتهوا } أي ما أعطاكم من مال الغنيمة فخذوه ، وما نهاكم عنه من الأخذ والغُلُول{[14837]} فانتهوا ، قاله الحسن وغيره . السدي : ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه ، وما منعكم منه فلا تطلبوه . وقال ابن جريج : ما آتاكم من طاعتي فافعلوه ، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه . الماوردي : وقيل إنه محمول على العموم في جميع أوامره ونواهيه ، لا يأمر إلا بصلاح ولا ينهى إلا عن فساد . قلت : هذا هو معنى القول الذي قبله . فهي ثلاثة أقوال .
السابعة- قال المهدوي : قوله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } هذا يوجب أن كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أمر من الله تعالى ، والآية وإن كانت في الغنائم فجميع أوامره صلى الله عليه وسلم ونواهيه دخل فيها . وقال الحكم بن عمير - وكانت له صحبة - قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن هذا القرآن صعب مستصعب عسير على من تركه ، يسير على من اتبعه وطلبه . وحديثي صعب مستصعب وهو الحكم فمن استمسك بحديثي وحفظه نجا مع القرآن . ومن تهاون بالقرآن وحديثي خسر الدنيا والآخرة . وأمرتم أن تأخذوا بقولي وتكتنفوا أمري وتتبعوا سنتي فمن رضي بقولي فقد رضي بالقرآن ، ومن استهزأ بقولي فقد استهزأ بالقرآن قال الله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } .
الثامنة- قال عبد الرحمن بن زيد : لقي ابن مسعود رجلا محرما وعليه ثيابه فقال له : انزع عنك هذا . فقال الرجل : أتقرأ علي بهذا آية من كتاب الله تعالى ؟ قال : نعم ، { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } . وقال عبدالله بن محمد بن هارون الفريابي : سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول : سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله تعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم ، قال : فقلت له : ما تقول - أصلحك الله - في المحرم يقتل الزنبور ؟ قال فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، قال الله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } . وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ) . حدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه أمر بقتل الزنبور . قال علماؤنا : وهذا جواب في نهاية الحسن ، أفتى بجواز قتل الزنبور في الإحرام ، وبين أنه يقتدي فيه بعمر ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء به ، وأن الله سبحانه أمر بقبول ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فجواز قتله مستنبط من الكتاب والسنة . وقد مضى هذا المعنى من قول عكرمة حين سئل عن أمهات الأولاد فقال : هن أحرار في سورة " النساء " عند قوله تعالى : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم{[14838]} } [ النساء : 59 ] . وفي صحيح مسلم وغيره عن علقمة عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات{[14839]} والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ) فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب ؛ فجاءت فقالت : بلغني أنك لعنت كيت وكيت ! فقال : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله ! فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول . فقال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ! أما قرأت { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ! قالت : بلى . قال : فإنه قد نهى عنه . . الحديث . وقد مضى القول فيه في " النساء " مستوفى .
التاسعة- قوله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه } وإن جاء بلفظ الإيتاء وهو المناولة فإن معناه الأمر ، بدليل قوله تعالى : { وما نهاكم عنه فانتهوا } فقابله بالنهي ، ولا يقابل النهي إلا بالأمر ، والدليل على فهم ذلك ما ذكرناه قبل مع قوله عليه الصلاة والسلام : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ) . وقال الكلبي : إنها نزلت في رؤوساء المسلمين ، قالوا فيما ظهر عليه رسول الله من أموال ، المشركين : يا رسول الله ، خذ صفيك والربع ، ودعنا والباقي ، فهكذا كنا نفعل في الجاهلية . وأنشدوه :
لك المرباعُ منها والصَّفَايَا *** وحُكْمُكَ والنَّشِيطَةُ والفُضُولُ
العاشرة- { واتقوا الله } أي عذاب الله ، إنه شديد لمن عصاه . وقيل : اتقوا الله في أوامره ونواهيه فلا تضيعوها ، { إن الله شديد العقاب } لمن خالف ما أمره به .
{ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول } الآية : اضطرب الناس في تفسير هذه الآية وحكمها اضطرابا عظيما فإن ظاهرها أن الأموال التي تؤخذ للكفار تكون لله وللرسول ومن ذكر بعد ذلك ولا يخرج منها خمس ، ولا تقسم على من حضر الوقيعة وذلك يعارض ما ورد في الأنفال من إخراج الخمس ، وقسمة سائر الغنيمة على من حضر الوقيعة فقال بعضهم : إن هذه الآية منسوخة بآية الأنفال وهذا خطأ لأن آية الأنفال نزلت قبل هذه بمدة .
وقال بعضهم : إن آية الأنفال في الأموال التي تغنم ما عدا الأرض ، وأن هذه الآية في أرض الكفار قالوا ولذلك لم يقسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرض مصر والعراق بل تركها لمصالح المسلمين ، وهذا التخصيص لا دليل عليه ، وقيل : غير ذلك ، والصحيح أنه لا تعارض بين هذه الآية وبين آية الأنفال ، فإن آية الأنفال في حكم الغنيمة التي تؤخذ بالقتال وإيجاف الخيل والركاب ، فهذا يخرج منه الخمس ويقسم باقيه على الغانمين .
وأما هذه الآية ففي حكم الفيء وهو ما يؤخذ من أموال الكفار من غير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب ، وإذا كان كذلك فكل واحدة من الآيتين في معنى غير معنى الأخرى ولها حكم غير حكم الأخرى فلا تعارض بينهما ولا نسخ ، وانظر كيف ذكر هنا لفظ الفيء وفي الأنفال لفظ الغنيمة وقد تقرر في الفقه الفرق بين الفيء والغنيمة ، وأن حكمهما مختلف ، قاله أبو محمد بن الفرس وهو قول الجمهور وبه قال مالك وجميع أصحابه وهو أظهر الأقوال .
وأما فعل عمر في أرض مصر والعراق ، فالصحيح أنه فعل ذلك لمصلحة المسلمين بعد استطابة نفوس الغانمين بقوله تعالى : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } يريد بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب كما كانت أموال بني النضير ، ولكنه حذف هذا لقوله في الآية قبل هذا .
{ فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } ، استغنى بذكر ذلك أولا عن ذكره ثانيا ولذلك لم تدخل الواو العاطفة في هذه الجملة لأنها من تمام الأولى فهي غير أجنبية عنها ، فإنه بين في الآية الأولى حكم أموال بني النضير ، وبين في هذه الآية حكم ما كان مثلها من أموال غيرهم على العموم ، ويصرف الفيء فيما يصرف فيه خمس الغنائم لأن الله سوى بينهما في قوله : { لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } [ الأنفال : 41 ] .
وقد ذكرنا ذلك في الأنفال فأغنى عن إعادته وقد ذكرنا في الأنفال معنى قوله : { لله خمسه وللرسول } وما بعد ذلك . { كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم } أي : كيلا يكون الفيء الذي أفاء الله على رسوله من أهل القرى دولة ينتفع به الأغنياء دون الفقراء ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير على المهاجرين فإنهم كانوا حينئذ فقراء ، ولم يعط الأنصار منها شيئا فإنهم كانوا أغنياء فقال بعض الأنصار : لنا سهمنا من هذا الفيء فأنزل الله هذه الآية ، والدولة بالضم والفتح ما يدول الإنسان أي : يدور عليه من الخير ، ويحتمل أن يكون من المداولة أي : كي لا يتداول ذلك المال الأغنياء بينهم ويبقى الفقراء بلا شيء .
{ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } نزلت بسبب الفيء المذكور أي : ما أتاكم الرسول من الفيء فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، فكأنها أمر للمهاجرين بأخذ الفيء ونهي للأنصار عنه ، ولفظ الآية مع ذلك عام في أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نواهيه ، ولذلك استدل بها عبد الله بن مسعود على المنع من لبس المحرم المخيط ولعن الواشمة والواصلة في القرآن لورود ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولما نزع سبحانه أموالهم من أيدي الجيش ، بين مصرف{[63813]} غيرها مما كان مثلها بأن فتح له صلى الله عليه وسلم بغير قتال فقال مستأنفاً جواباً لمن كأنه قال : هل يعم هذا{[63814]} الحكم{[63815]} كل فيء يكون بعد بني النضير{[63816]} : { ما أفاء الله } أي الذي اختص بالعزة{[63817]} والحكمة والقدرة ، { على رسوله } ولما كان سبحانه محيط العلم بأنه يسلط على أهل وادي القرى وغيرهم أعظم من هذا التسليط ، قال ليكون علماً من أعلام النبوة : { من أهل القرى } أي قرية بني النضير وغيرها من وادي القرى والصفراء وينبع وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى{[63818]} عربية { فالله } أي الملك الأعلى الذي الأمر كله بيده ، { وللرسول } لأنه أعظم خلقه ، فرتبته تلي رتبته ، وهذان يتراءى أنهما{[63819]} قسمان وليس كذلك ، هما قسم واحد ، ولكنه ذكر سبحانه نفسه المقدس تبركاً ، فإن كل أمر لا يبدأ به فهو أجذم ، وتعظيماً لرسوله صلى الله عليه وسلم إعلاماً بأنه لا هوى له أصلاً في شيء من الدنيا ، وإنما رضاه{[63820]} رضا مولاه ، خلقه القرآن الذي هو صفة الله فهو{[63821]} مظهره ومجلاه ، وسهمه{[63822]} صلى الله عليه وسلم يصرف بعده لمصالح المسلمين كالسلاح والثغور والعلماء والقضاة والأئمة .
ولما أبان هذا الكلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل والعظمة ما لا يدخل تحت الوصف ، أتبعه تعظيماً آخر بتعظيم أقاربه لأجله ، ولذلك أعاد العامل فقال : { ولذي القربى } أي منه{[63823]} ، لأن رتبتهم من بعد رتبته وهم بنو هاشم وبنو المطلب رهط إمامنا الشافعي رضي الله عنه سواء فيه غنيهم وفقيرهم ، لأن أخذهم لذلك بالقرابة لا بالحاجة كما هو مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه . ولما ذكر أهل الشرف ، أتبعه أهل الضعف جبراً لوهنهم فقال مقدماً أضعفهم : { واليتامى } أي{[63824]} الذين هم{[63825]} أحق الناس بالعطف لأن مبنى الدين على التخلق بأخلاق الله التي من أجلّها تقوية الضعيف وجبر الكسير{[63826]} ، { والمساكين } فإنهم{[63827]} في الضعف على أثرهم{[63828]} ودخل فيهم الفقراء فإنه{[63829]} إذا انفرد لفظ الفقير أو المساكين دخل كل منهما في الآخر{[63830]} ، وإنما يفرق إذا جمع بينهما ، وكذا الفيء والغنيمة إذا أفردا{[63831]} جاز أن يدخل كل في الآخر ، وإذا جمعا فالفيء ما حصل بغير قتال وإيجاف خيل وركاب ، والغنيمة ما حصل بذلك ، { وابن السبيل } وهم الغرباء لانقطاعهم عن أوطانهم وعشائرهم ، وقسمة الفيء على هذه الأصناف كما مضى أن يقسم خمسة أقسام : خمس منها{[63832]} لرسول الله صلى الله عليه وسلم و{[63833]}من ذكر معه من المخلوقين وذكر الله فيهم للتبرك ، لأن الأصناف المذكورة هي التي يعبر عنها باسمه سبحانه ، والأربعة الأخماس خاصة له صلى الله عليه وسلم ينفق منها نفقة سنة وما فضل عنه أنفقه في مصالح المسين السلاح والكراع و{[63834]}نحوه ، وما كان له صلى الله عليه وسلم في حياته فهو للمصالح بعد وفاته ، كما كان يفعل بعد ما يفضل عن حاجته ، قال الشافعي رضي الله عنه في الأم{[63835]} : وما أخذ من مشرك بوجه من الوجوه غير ضيافة من {[63836]}مر بهم{[63837]} من المسلمين فهو على وجهين لا يخرج منهما{[63838]} ، كلاهما مبين في كتاب الله تعالى وعلى{[63839]} سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي فعله فأحدهما الغنيمة ، قال الله تعالى في سورة الأنفال :
{ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول }[ الأنفال : 41 ]{[63840]} والوجه الثاني الفيء ، وهو مقسوم في كتاب الله في سورة الحشر ، قال الله تبارك وتعالى : { {[63841]}وما أفاء{[63842]} الله على رسوله منهم } - إلى قوله - { رؤف رحيم } فهذان المالان اللذان خولهما الله من جعلهما له من أهل دينه ، وهذه{[63843]} أموال يقوم بها الولاة لا يسعهم تركها . فالغنيمة والفيء تجتمعان في أن فيهما معاً الخمس من جميعهما لمن سماه الله تعالى ، ومن سماه الله تعالى في الآيتين معاً{[63844]} سواء مجتمعين غير مفترقين ، ثم يفترق الحكم في الأربعة الأخماس{[63845]} بما بين الله عز وجل على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وفي فعله فإنه{[63846]} قسم أربعة أخماس الغنيمة ، والغنيمة هي الموجف عليها بالخيل والركاب لمن حضر من غني وفقير ، والفيء وهو ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم في {[63847]}قرى عرينة{[63848]} التي أفاءها الله عليه أن أربعة أخماسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون المسلمين يضعه رسوله الله صلى الله عليه وسلم حيث أراه{[63849]} الله عز وجل ، ثم ذكر حديث عمر رضي الله عنه من رواية مالك بن أوس بن الحدثان رضي الله عنه في خصام علي والعباس رضي الله عنهما ، قال الشافعي{[63850]} : فأموال بني النضير التي أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم التي ذكر عمر رضي الله عنه فيها ما بقي منها في يد النبي صلى الله عليه وسلم{[63851]} بعد الخمس وبعد أشياء فرقها النبي صلى الله عليه وسلم منها بين رجال من المهاجرين لم يعط منها أنصارياً إلا رجلين{[63852]} ذكرا فقراً وهذا مبين في موضعه ، وفي هذا الحديث دلالة على{[63853]} أن عمر رضي الله عنه إنما حكى أن أبا بكر رضي الله عنه وهو أمضيا ما بقي من هذه الأموال التي كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه ما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به فيها ، وأنهما{[63854]} لم يكن لهما مما لم{[63855]} يوجف عليه المسلمون من الفيء ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهما{[63856]} إنما كانا فيه أسوة للمسلمين ، وذلك سيرتهما وسيرة من بعدهما ، والأمر الذي لم يختلف فيه أحد من أهل العلم عندنا علمته{[63857]} ولم يزل يحفظ{[63858]} من قولهم أنه ليس لأحد ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من صفي الغنيمة ولا من أربعة أخماس ما لم يوجف عليه منها ، وقد مضى من كان ينفق{[63859]} عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه وغيرهن إن كان معهن ، فلم أعلم أحداً من أهل العلم{[63860]} قال لورثتهم تلك النفقة التي كانت لهم ، ولا خلاف أن تجعل تلك النفقات حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل فضول غلات تلك{[63861]} الأموال فيما فيه صلاح الإسلام وأهله ، قال الشافعي{[63862]} : والجزية من الفيء وسبيلها سبيل جميع ما أخذ مما أوجف من مال مشرك أن يخمس فيكون لمن{[63863]} سمى الله عز وجل الخمس وأربعة أخماسه على ما سأبينه إن شاء الله تعالى ، وكذلك كل ما أخذ من مشرك من مال غير إيجاف ، وذلك{[63864]} مثل ما أخذ منه إذا اختلف في بلاد المسلمين ومثل ما أخذ منه إذا مات ولا وارث له ، وغير ذلك ما أخذ من ماله ، وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فيء من غير قرى عرينة ، وذلك مثل جزية أهل البحرين وهجر وغير ذلك فكان له أربعة أخماسها يمضيها حيث أراد الله{[63865]} عز وجل وأوفى{[63866]} خمسه من جعله الله له - انتهى .
ولما حكم{[63867]} سبحانه هذا الحكم في الفيء المخالف لما كانوا عليه في الجاهلية من اختصاص{[63868]} الأغنياء به{[63869]} ، بين علته المظهرة لعظمته سبحانه وحسن تدبيره ورحمته فقال معلقاً بما علق به الجار : { كي لا يكون } أي الفيء الذي سيره الله سبحانه بقوته وما خص به نبيه صلى الله عليه وسلم من قذف الرعب في قلوب أعدائه ومن حقه أن يعطاه الفقراء { دولة } أي شيئاً يتناوله أهل الغنى والشرف على وجه القهر والغلبة إثرة{[63870]} جاهلية - هذا على قراءة الجماعة ، وقرأ أبو جعفر وهشام عن ابن عامر {[63871]} بالتأنيث من{[63872]} { كان } التامة و { دولة } بالرفع على أنها فاعل { بين الأغنياء منكم } يتداولونه بينهم فإنهم كانوا يقولون : من عزيز ، ومنه قال الحسن : اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله دولاً - يريد من غلب منهم أخذه{[63873]} واستأثر به ، وقيل : الضم اسم للمتداول كالغرفة اسم لما{[63874]} يغترف ، والفتح التداول .
ولما كان التقدير : فافعلوا{[63875]} ما أمرتكم من قسمته لمن أمرت بهم ، عطف عليه قوله : { وما } أي وكل شيء { آتاكم } أي أحضر إليكم وأمكنكم منه { الرسول } أي الكامل في الرسلية من هذا وغيره { فخذوه } أي فتقبلوه تقبل من حازه { وما نهاكم عنه } من جميع الأشياء { فانتهوا } لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يقول ولا يفعل إلا ما أمره به الله ربه ، فمن قبل ذلك هانت {[63876]}عليه الأمور{[63877]} كما ورد ( القرآن صعب مستصعب على من تركه ميسر على من طلبه وتبعه ) روي أن الآية نزلت في ناس من الأنصار قالوا : لنا من هذه{[63878]} القرى سهمنا{[63879]} .
ولما كان الكف عما ألفته النفوس صعباً ، ولا سيما ما كان مع كونه تمتعاً{[63880]} بمال على وجه الرئاسة ، رهب من المخالفة فيه بقوله : { واتقوا الله } أي اجعلوا لكم بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاية من عذاب الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة ، وعلل ذلك بقوله ، معظماً له بإعادة الجلالة مؤكداً لأن فعل{[63881]} المخالف فعل المنكر : { إن الله } أي الذي له وحده الجلال والإكرام على الإطلاق { شديد العقاب * } أي العذاب الواقع بعد الذنب ، ومن زعم أن شيئاً مما في هذه السورة نسخ بشيء مما في سورة الأنفال فقد أخطأ ، لأن الأنفال نزلت في بدر وهي{[63882]} قبل هذه بمدة .