ريحا صرصرا : شديد الحرارة مع صوت مزعج .
نحسات : مشئومات عليهم لأنهم عذبوا فيها .
16-{ فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون } .
أرسلنا عليهم ريحا مدوّية مهلكة شديدة الحرارة ، أو شديدة البرودة ، في أيام مشئومات لأنهم عذبوا فيها ، فاليوم الواحد يوصف بالنحس والسعد بالنسبة إلى شخصه ، فيقال له يوم سعد بالنسبة لمن تناله النعماء ، ويقال له يوم نحس بالنظر لمن تصيبه الضرّاء .
قال السدى : { ريحا صرصرا } . مصوّتة ، من صرّ يصرُّ ، إذا صوت ، وروى أنها كانت تحمل العير بأثقالها وأحمالها فترميها بالبحر .
{ لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا . . . } .
أردنا أن نذلّهم ونخزيهم بعذاب أليم لأجسامهم ، وهوان شديد لنفوسهم ، حيث قطعت الريح رءوسهم ، وتركتهم صرعى وهلكى ، كالنخلة التي قُطعت ساقها ، وترك جذرها عديم الفائدة .
قال تعالى : { وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية * سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية* فهل ترى لهم من باقية } . ( الحاقة : 6-8 ) .
{ ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون } .
وهناك عذاب في الآخرة أشد خزيا وهوانا ، حيث لا يجدون أحدا ينصرهم من دون الله ، وذلك بسبب تجبّرهم وتكبّرهم بالباطل ، وعتوّهم وأنَفَتهم من سماع نصيحة رسولهم .
قال تعالى على لسان رسولهم هود عليه السلام : { أتبنون بكل ريع آية تعبثون* وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون } . ( الشعراء : 128-131 ) .
ريحاً صرصرا : باردة تهلك بشدة بردها .
وبعد ذلك يبين الله مصيرهم المشئوم فيقول : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً . . . . }
ريحاً باردة تهلك بشدّة بردها ، ولها صوتٌ مخيف ، أرسلناها في أيام مشؤومة لنذيقَهم عذاب الذل والهوان في الحياة الدنيا ، ولَعذابُ الآخرة أشدُّ خِزيا ، يوم لا يستطيع أحد أن ينصرهم منه .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع : نحْسات بإسكان الحاء . والباقون : نحِسات بكسر الحاء .
{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا } أي : ريحًا عظيمة ، من قوتها وشدتها ، لها صوت مزعج ، كالرعد القاصف . فسخرها اللّه عليهم { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } { نحسات } فدمرتهم وأهلكتهم ، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم . وقال هنا : { لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } الذي اختزوا به وافتضحوا بين الخليقة . { وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ } أي : لا يمنعون من عذاب اللّه ، ولا ينفعون أنفسهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فأرسل الله عليهم الريح فأهلكتهم، فذلك قوله تعالى: {فأرسلنا} فأرسل الله.
{عليهم ريحا صرصرا} يعني باردة.
{في أيام نحسات} يعني شدادا، وكانت ريح الدبور فأهلكتهم، فذلك قوله: {لنذيقهم} يعني لكي نعذبهم.
{عذاب الخزي} يعني الهوان {في الحياة الدنيا} فهو الريح.
{ولعذاب الآخرة أخزى} يعني أشد وأكثر إهانة من الريح التي أهلكتهم في الدنيا.
{وهم لا ينصرون} يعني لا يسمعون من العذاب.
قال عبد الله: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى يقول: الصرصر، الريح الباردة التي لها صوت.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فأرسلنا على عاد ريحا صرصرا، واختلف أهل التأويل في معنى الصرصر؛
فقال بعضهم: عني بذلك أنها ريح شديدة... [عن مجاهد].
وقال آخرون: بل عنى بها أنها باردة...
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول مجاهد، وذلك أن قوله: صَرْصَرا إنما هو صوت الريح إذا هبّت بشدّة، فسُمع لها...
"في أيّامٍ نَحِساتٍ" اختلف أهل التأويل في تأويل النحسات؛
فقال بعضهم: عُني بها المتتابعات...
وقال آخرون: عِني بذلك المشائيم...
وقال آخرون: معنى ذلك: أيام ذات شرّ...
وقال آخرون: النحسات: الشداد...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال عنى بها: أيام مشائيم ذات نحوس؛ لأن ذلك هو المعروف من معنى النحس في كلام العرب...
"لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخَزْيِ في الحَياةِ الدّنْيا": ولعذابنا إياهم في الآخرة أخزى لهم وأشدّ إهانة وإذلالاً.
"وهُمْ لا يُنْصَرُونَ": وهم يعني عادا لا ينصرهم من الله يوم القيامة إذا عذّبهم ناصر، فينقذهم منه، أو ينتصر لهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي عذابا يُذلّهم، ويفضحهم عند الخلق جميعا.
قوله تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى} عليهم أذلّ وأفضح وأشد من عذاب الدنيا. وقوله تعالى: {وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} يحتمل لا ينصرون بقوتهم التي كانت لهم واعتمدوا عليها بقولهم: {من أشد منا قوة}، ويحتمل لا يُنصرون بالأصنام التي عبدوها على رجاء النصر لهم والشفاعة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أضاف العذاب إلى الخزي وهو الذل والاستكانة على أنه وصف للعذاب، كأنه قال: عذاب خزي، كما تقول: فعل السوء، تريد: الفعل السيء، والدليل عليه قوله تعالى: {وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى} وهو من الإسناد المجازي، ووصف العذاب بالخزي: أبلغ من وصفهم به، ألا ترى إلى البون بين قوليك: هو شاعر، وله شعر شاعر...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
لا ريب أن الأيام التي أوقع الله سبحانه فيها العقوبة بأعدائه وأعداء رسله كانت أياما نحسات عليهم؛ لأن النحس أصابهم فيها، وإن كانت أيام خير لأوليائه المؤمنين وهذا كيوم القيامة،فان اليوم المذكور بحسب ما يقع فيه، وكم لله من نعمة على أوليائه في هذا اليوم، وان كان له فيه بلايا ونقم على أعدائه، كما يقع ذلك في غيره من الأيام، فسعود الأيام ونحوسها: إنما هو لسعود الأعمال، وموافقتها لمرضاة الرب، ونحوس الأعمال: إنما هو مخالفتها لما جاءت به الرسل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الريح: تموُّج في الهواء يحدث من تعاكس الحرارة والبرودة، وتنتقل موجاته كما تنتقل أمواج البحر والريح الذي أصاب عاداً هو الريح الدَّبور، وهو الذي يهبّ من جهة مغرب الشمس، سميت دبوراً بفتح الدال وتخفيف الباء؛ لأنها تهبّ من جهة دُبر الكعبة قال النبي صلى الله عليه وسلم {نُصِرتُ بالصبا وأهلكتْ عاد بالدبور} وإنما كانت الريح التي أصابت عاداً بهذه القوة بسبب قوة انضغاط في الهواء غير معتاد فإن الانضغاط يصير الشيء الضعيف قوياً، كما شوهد في عصرنا أن الأجسام الدقيقة من أجزاء كيمياوية تسمى الذَّرة تصير بالانضغاط قادرة على نسف مدينة كاملة، وتسمى الطاقة الذَّرية، وقد نُسف بها جزء عظيم من بلاد اليابان في الحرب العامة.
والصرصر: الريح العاصفة التي يكون لها صرصرة، أي دويّ في هبوبها من شدة سرعة تنقلها. وتضعيف عينه للمبالغة في شدتها بين أفراد نوعها كتضعيف كبكب للمبالغة في كَبّ. وأصله صَرَّ أي صاح، وهو وصف لا يؤنث لفظه؛ لأنه لا يجري إلا على الريح وهي مقدرة التأنيث.
والنحسات بفتح النون وسكون الحاء: جمع نَحس بدون تأنيث؛ لأنه مصدر أو اسم مصدر لفعل نَحِس كَعَلِم، كقوله تعالى: {في يوم نحس مستمر} [القمر: 19].
وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بسكون الحاء. ويجوز كسر الحاء وبه قرأ البقية على أنه صفة مشبهة من (نَحِس) إذا أصابه النحْس إصابة سوء أو ضر شديد. وضده البخت في أوهام العامة، ولا حقيقة للنحس ولا للبخت ولكنهما عارضان للإنسان، فالنحس يَعرض له من سوء خِلقه مزاجه أو من تفريطه أو من فساد بيئته أو قومِه. وبعض النوعين أمور اتفاقية وربما كان بعضها جزاءً من الله على عمل خيرٍ أو شر من عباده أو في دينه كما حل بعاد وأهل الجاهلية. وعامة الأمم يتوهمون النحس والبخت من نوع الطِّيرَة ومن التشاؤم والتيمّن، ومنه الزجر والعيافة عند العرب في الجاهلية ومنه تَطَلُّع الحدثَان من طوالع الكواكب والأيامِ عند معظم الأمم الجاهلة أو المختلَّة العقيدة. وكل ذلك أبطله الإسلام، أي كشف بطلانه، بما لم يسبقه تعليم من الأديان التي ظهرت قبل الإِسلام.
فمعنى وصف الأيام بالنحسات: أنها أيام سوء شديد أصابهم وهو عذاب الريح، وليس المراد أن تلك الأيام من كل عام هي أيام نحس على البشر لأن ذلك لا يستقيم لاقتضائه أن تكون جميع الأمم حلّ بها سوء في تلك الأيام.
واللام في {لنُذِيقَهُم} للتعليل وهي متعلقة ب (أرسلنا). والإِذاقة تخييل لمكنية، شُبه العذاب بطعام هُيِّئ لهم على وجه التهكم
والإِذاقة: تخييل من ملائمات الطعام المشبه به.
وجملة {ولَعَذَابُ الآخِرَةِ أخزى} احتراس لئلا يحسِب السامعون أن حظ أولئك من العقاب هو عذاب الإِهلاك بالريح فعطف عليه الإِخبار بأن عذاب الآخرة أخزَى، أي لهم ولكل من عذّب عذاباً في الدنيا لغضب الله عليه. وأخْزى: اسم تفضيل جرى على غير قياس، وقياسه أن يقال: أشد إخزاء لأنه لا يقال: خَزاه، بمعنى أخزاه، أي أهانه، ومثل هذا في صوغ اسم التفضيل كثير في الاستعمال.
{ ريحا صرصرا } قيل : إنه من الصر وهو شدة البرد فمعناه : باردة وقيل : إنه من قولك صرصر إذا صوت فمعناه لها صوت هائل .
{ في أيام نحسات } معناه : من النحس وهو ضد السعد وقيل : شديدة البرد وقيل : متتابعة والأول أرجح ، وروي أنها كانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء وقرئ نحسات بإسكان الحاء وكسرها فأما الكسر فهو جمع نحس وهو صفة وأما الإسكان فتخفيف من الكسر على وزن فعل أو وصف بالمصدر .
{ فأرسلنا } بسبب ذلك على ما لنا من العظمة ، ودل على صغارهم وحقارتهم بأداة الاستعلاء فقال : { عليهم } وزاد في تحقيرهم بأن أخبر أنه أهلكهم لأجل ما تعززوا به من قوة أبدانهم ووثاقة خلقهم بما هو من ألطف الأشياء جسماً وهو الهواء فقال : { ريحاً } أي عظيمة { صرصراً } أي شديدة البرد والصوت والعصوف حتى كانت تجمد البدن ببردها فتكون كأنها تصره - أي تجمعه - في موضع واحد فتمنعه التصرف بقوته ، وتقطع القلب بصوتها ، فتقهر شجاعته ، وتحرق بشدة بردها كل ما مرت عليه .
ولما تقدم في هذا السياق استكبارهم على الوجه المذكور وادعاؤهم أنهم أشد الناس قوة اقتضى الحال تحقيرهم في إهلاكهم ، فذكر الأيام دون الليالي وإن تضمنتها فقال تعالى : { في أيام } ولما كان جمع القلة قد يستعار للكثرة حقق أن المراد القلة بوصفه بجمع السلامة فقال : { نحسات } وكان ذلك أدل على هذا المراد من إفراد اليوم كما في القمر لأنه قد يراد به زمان يتم فيه أمر ظاهر ولو طالت مدته ، ويصح للجنس فيشمل مع القليل ما يصلح له جمع الكثرة . وفيه - مع أنه نذارة - رمز للمنزل عليه هذا الوحي صلى الله عليه وسلم بأعظم بشارة لما أومأ إليه افتتاح السورة باسمي الرحمة ، وقوله تعالى : ( لقوم يعلمون ) من أنه يكون لقومه قوة وعلم ، ومن قرن النذارة بالبشارة في قوله { بشيراً ونذيراً } ومن جعل أيام هذا العذاب ثمانية ، أشار إلى الحلم والتأني كما أشار إليه ما تقدم من خلق هذا الوجود في ستة أيام ، وقد كان قادراً على كل من التعذيب والإيجاد في لحظة واحدة ، فأشار ذلك إلى أنه في السنة السادسة من الهجرة يكون الفتح السببي بعمرة الحديبية التي كانت سبب نزول سورة الفتح ، وفي السابعة يكون الاعتمار الذي كان عليهم أشد من وقوع الصارم البتار ، حتى ذهب عمرو بن العاص من أجل ذلك إلى الحبشة لئلا يرى من دخول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ما لا صبر له عليه ، وفي الثامنة يكون الفتح الحقيقي بعشرة آلاف مقاتل أكثرهم دارع لا يُرى منهم إلا الحدق ، حتى خالوا بياض لأمهم السراب ، فظنوا بهم غاية العذاب ، فكانوا رحمة ، وعاد رأوا السحاب فظنوه رحمة فكان عذاباً ونقمة ، ووصفها بالنحس مبالغة مثل رجل عدل ليدل على أنها كانت قابلة لانفعال الجسد وما كان فيه من القوى بهذه الريح ، وهو مصدر جمع لاختلاف أنواع النحس فيها - هذا على قراءة الجماعة بسكون الحاء ، وأما قراءة ابن عامر والكوفيين بكسر الحاء فهي صفة من فعل بالكسر مثل : فرح فهو فرح ، وأول هذه الأيام الأربعاء في قول يحيى بن سلام ، وقال غيره : وما عذب قوم إلا يوم الأربعاء { لنذيقهم } وأضاف الموصوف إلى صفته على المبالغة من وادي رجل عدل فقال : { عذاب الخزي } أي الذي يهيئهم ويفضحهم ويذلهم بما تعظموا وافتخروا على كلمة الله التي أتتهم بها رسله ، وصف العذاب بالخزي الذي هو للمعذب به مبالغة في إخزائه له { في الحياة الدنيا } ليذلوا عند من تعظموا عليهم في الدار التي اغتروا بها فتعظموا فيها ، فإن ذلك أدل على القدرة عند من تقيد بالوهم { ولَعذاب الآخرة } الذي أعد للمتكبرين { أخزى } أي أشد إخزاء كما قالوا : هو أعطاهم للدراهم وأولادهم للمعروف ، وأكد لإنكارهم له .
ولما انتفت مدافعتهم عن أنفسهم ، نفى دفع غيرهم فقال : { وهم } أي أصابهم هذا العذاب وسيصيبهم عذاب الآخرة والحال أنهم { لا يُنصرون * } أي لا يوجد ولا يتجدد لهم نصر أبداً بوجه من الوجوه .