كان الحقد والحسد على محمد صلى الله عليه وسلم قد بلغ أشده من الكافرين ، فادعوا أن محمدا مجنون ، وأن هذا القرآن آثر من آثار هذيانه وجنونه ، ومحمد صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا من العقل والحكمة والرشد ، قد أرسله الله لهداية الناس ورحمتهم ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور .
لذلك أقسم الله على أن محمدا بسبب نعمة الله ورحمته به ، منتف عنه الجنون ، مؤهل للرسالة ، موصول القلب بالله ، لنعم الله وفيوضاته .
وذلك أن القلم وما يسطرون به من أنواع الكلام ، من آيات الله العظيمة ، التي تستحق أن يقسم الله بها ، على براءة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، مما نسبه إليه أعداؤه من الجنون ، فنفى عنه الجنون{[1187]} بنعمة ربه عليه وإحسانه ، حيث من عليه بالعقل الكامل ، والرأي الجزل ، والكلام الفصل ، الذي هو أحسن ما جرت به الأقلام ، وسطره الأنام ، وهذا هو السعادة في الدنيا .
" ما أنت بنعمة ربك بمجنون " هذا جواب القسم وهو نفي ، وكان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم إنه مجنون ، به شيطان . وهو قولهم : " يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون{[15220]} " [ الحجر : 6 ] فأنزل الله تعالى ردا عليهم وتكذيبا لقولهم { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } أي برحمة ربك . والنعمة ها هنا الرحمة . ويحتمل ثانيا - أن النعمة ها هنا قسم ، وتقديره : ما أنت ونعمة ربك بمجنون ؛ لأن الواو والباء من حروف القسم . وقيل هو كما تقول : ما أنت بمجنون ، والحمد لله . وقيل : معناه ما أنت بمجنون ، والنعمة لربك ؛ كقولهم : سبحانك اللهم وبحمدك ؛ أي والحمد لله . ومنه قول لبيد :
وأفردتُ في الدنيا بفقد عشيرتي *** وفارقني جارٌ بأربَدَ نافعُ
أي وهو أربد{[15221]} . وقال النابغة :
لم يُحْرَمُوا حسنَ الغذاء وأمُّهم *** طَفَحَتْ عليك بناتِقٍ مِذْكَارِ
أي هو ناتق . والباء في " بنعمة ربك " متعلقة " بمجنون " منفيا ، كما يتعلق بغافل مثبتا . كما في قولك : أنت بنعمة ربك غافل . ومحله النصب على الحال ، كأنه قال : ما أنت بمجنون منعما عليك بذلك .
ولما كان المخاطب بهذا{[67307]} صلى الله عليه وسلم قد عاشر المرسل إليهم دهراً طويلاً وزمناً مديداً ، أربعين سنة وهو أعلاهم قدراً وأطهرهم خلائق وأمتنهم عقلاً وأحكمهم رأياً {[67308]}وأرأفهم وأرفعهم{[67309]} عن شوائب الأدناس همة وأزكاهم نفساً ، بحيث إنه لا يدعى بينهم إلا بالأمين ولم يتجدد له شيء يستحق به أن يصفوه بسببه بالجنون ، الذي ينشأ عنه الضلال عن المقاصد المذكور آخر الملك في قوله :
( فستعلمون من هو في ضلال مبين }[ الملك : 29 ] إلا{[67310]} النعمة التي ما نال أحد قط{[67311]} مثلها في دهر من الدهور ولا عصر من الأعصار ، قال مجيباً هذا القسم العظيم{[67312]} راداً عليهم بأجلى ما يكون وأدله على المراد تأنيساً له صلى الله عليه وسلم مما أوجب افتراؤهم عليه له{[67313]} من الوحشة وشرحاً لصدره وتهدئة لسره : { ما أنت } أي يا أعلى المتأهلين لخطابنا { بنعمة } أي بسبب إنعام{[67314]} { ربك } المربي لك بمثل{[67315]} تلك الهمم العالية والسجايا الكاملة بأن خصك بالقرآن ، الذي هو جامع لكل علم وحكمة ، وأكد النفي زيادة في شرفه صلى الله عليه وسلم فقال : { بمجنون * } أي بل{[67316]} الذي وصفك بهذا هو الحقيق باسم الجنون ، ومعناه فضلاً عن الضلال الذي{[67317]} ردد في آخر تلك بينك وبينهم فيه سلوكاً لسبيل الإنصاف ، لينظروا في تلك بالأدلة فيعلموا{[67318]} ضلالهم وهدايتك بالدليل القطعي بالنظر في الآثار المظهرة لذلك غاية الإظهار ، فنفى عنه صلى الله عليه وسلم الشقاوة التي سببها{[67319]} فساد العقل فثبتت السعادة التي سببها{[67320]} صلاح العقل ونعمة الرب له .
و{[67321]}قال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تضمنت سورة الملك{[67322]} من عظيم البراهين ما يعجز العقول عن استيفاء الاعتبار ببعضه كالاعتبار بخلق السماوات في قوله تعالى :{ الذي خلق سبع سماوات طباقاً }[ الملك 3 ] أي يطابق بعضها بعضاً{[67323]} من طابق النعل - إذا خصفها طبقاً على طبق ، ويشعر هذا بتساويها في مساحة أقطارها ومقادير أجرامها - والله أعلم ، ووقع الوصف بالمصدر يشعر باستحكام مطابقة بعضها لبعض ، إنباء منه سبحانه وتعالى أنها من عظم أجرامها وتباعد أقطارها يطابق بعضها بعضاً{[67324]} من غير زيادة ولا نقص .
{ ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت }[ الملك : 3 ] أي من اختلاف واضطراب في الخلقة أو تناقض ، إنما هي مستوية مستقيمة ، وجيء بالظاهر في قوله تعالى :
{ ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت }[ الملك : 3 ] ولم يقل : ما ترى فيه من تفاوت - ليشعر أن جميع المخلوقات جار على هذا ، كل شكل يناسب شكله ، لا تفاوت في شيء من ذلك ولا اضطراب ، فأعطى الظاهر {[67325]}من التعميم{[67326]} ما لم يكن يعطيه الإضمار ، كما أشعر خصوص اسم الرحمن بما في هذه الأدلة المبسوطة{[67327]} من الرحمة للخلائق لمن رزق الاعتبار ، ثم نبه تعالى على ما يرفع الريب ويزيح{[67328]} الإشكال في ذلك فقال :
{ فارجع البصر }[ الملك : 3 ] أي عاود الاعتبار{[67329]} وتأمل ما تشاهده من هذه{[67330]} المخلوقات حتى يصح عندك ما أخبرت به بالمعاينة ، ولا يبقى معك في ذلك شبهة .
( هل ترى من فطور }[ الملك : 3 ] أي من{[67331]} صدوع وشقوق ، ثم أمر تعالى بتكرير البصر{[67332]} فيهن متصفحاً ومتمتعاً هل تجد عيباً أو خللاً .
{ ينقلب إليك البصر خاسئاً }[ الملك : 4 ] أي إنك إذا فعلت هذا رجع بصرك بعيداً عن إصابة الملتمس كأنه يطرد عن ذلك طرداً بالصغار وبالإعياء وبالكلال{[67333]} لطول الإجالة والترديد ، وأمر برجوع البصر{[67334]} ليكون في ذلك استجمامه واستعداده حتى لا يقع بالرجعة الأولى التي{[67335]} يمكن فيها الغفلة و{[67336]}الذهول ، إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة ، إذ معنى التثنية في قوله " كرتين " التكرير كقولهم : لبيك وسعديك فيحسر البصر من طول{[67337]} التكرار ولا يعثر على شيء من فطور ، فلو لم تنطو السورة على غير ما وقع من أوله إلى هنا لكان في ذلك أعظم معتبر ، وأوضح دليل لمن استبصر ، إذ هذا الاعتبار بما ذكر من عمومه جار في{[67338]} كل المخلوقات ، ولا يستقل بفهم مجاريه{[67339]} إلا آحاد من العقلاء بعد التحريك والتنبيه ، فشهادته بنبوة الآتي به قائمة واضحة ، ثم قد تكررت في السورة دلالات{[67340]} كقوله
{ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح }[ الملك : 5 ] وقوله
{ ألا يعلم من خلق {[67341]}وهو اللطيف{[67342]} الخبير }[ الملك : 14 ] الآيات إلى آخر السورة ، وأدناها كاف في الاعتبار ، فأنى يصدر بعض عن متصف ببعض ما هزئوا به في قولهم : مجنون و{[67343]}ساحر وشاعر{[67344]} وكذاب ،
{ كلا{[67345]} بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون }[ المطففين : 14 ] فلعظيم ما انطوت عليه سورة الملك من البراهين ، أتبعت بتنزيه الآتي بها محمد صلى الله عليه وسلم عما تقوله المبطلون مقسماً على{[67346]} ذلك زيادة في التعظيم ، تأكيداً في {[67347]}التعزير والتكرير{[67348]} فقال تعالى { ن{[67349]} والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون } [ القلم : 1 ، 2 ] وأنى يصح من مجنون{[67350]} تصور بعض تلك البراهين ، قد انقطعت دونها أنظار العقلاء ، فكيف ببسطها وإيضاحها في نسق موجز ، ونظم معجز ، وتلاؤم يبهر العقول ، وعبارة تفوق كل مقول{[67351]} ، تعرف ولا تدرك ، وتستوضح سبلها فلا تسلك .
{ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله }[ الإسراء : 88 ] فقوله سبحانه وتعالى { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } [ القلم : 2 ] جواباً لقوله تعالى في{[67352]} آخر السورة إنه لمجنون ، وتقدم الجواب بنفي قولهم والتنزيه عنه على حكاية قولهم ، ليكون أبلغ في إجلاله صلى الله عليه وسلم ، وأخف وقعاً عليه وأبسط لحاله في تلقي{[67353]} ذلك منهم ، ولهذا قدم مدحه صلى الله عليه وسلم بما خص به من الخلق العظيم ، فكان هذا أوقع في الإجلال من تقديم قولهم ثم رده ، إذ كسر سورة تلك المقالة الشنعاء بتقديم التنزيه عنها أتم في الغرض وأكمل ، ولا موضع أليق {[67354]}بذكر تنزيهه{[67355]} عليه الصلاة والسلام ، ووصفه من الخلق والمنح الكريمة بما وصف مما{[67356]} أعقب به ذلك إذ بعض ما تضمنته سورة الملك بما تقدم الإيماء إليه شاهد قاطع لكل عاقل متصف بصحة نبوته صلى الله عليه وسلم وجليل صدقه ،
( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً }[ النساء : 82 ] فقد تبين موقع هذه السورة هنا ، وتلاؤم ما بعده من آيها يذكر في التفسير - انتهى .
قوله : { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } وهذا جواب القسم . ما نافية . وأنت اسمها ، وخبرها { بمجنون } والله بذلك ينفي الجنون عن رسوله صلى الله عليه وسلم ، إذ رماه به المشركون الظالمون ، فقد كانوا يقولون : إن محمدا مجنون . إن ذلكم افتراء وباطل ، يهذي به الأفاكون السفهاء على خير الأنام ورسول البشرية ، أكمل الناس صفاتا ، وأكرمهم أخلاقا ، عليه أفضل الصلاة والسلام .
والمعنى : أنت لست بنعمة الله عليك ، ورحمته بك ، بمجنون يا محمد .