( سورة الجن مكية ، وآياتها 28 آية ، نزلت بعد سورة الأعراف )
وهي سورة تصحح كثيرا من المعلومات الخاطئة لأهل الجاهلية عن الجن ، حيث كانوا يزعمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم يتلقى ما يقوله لهم من الجن ، فتجيء الشهادة من الجن أنفسهم بهذه القضايا التي يجحدونها ويجادلون فيها ، وبتكذيب دعواهم في استمداد محمد من الجن شيئا .
والجن لم يعلموا بهذا القرآن إلا حين سمعوه من محمد صلى الله عليه وسلم ، فهالهم وراعهم ومسّهم منه ما يدهش ويذهل ، فانطلقوا يحدثون عن هذا الحدث العظيم الذي شغل السماء والأرض ، والإنس والجن والملائكة والكواكب ، وترك آثاره ونتائجه في الكون كله ، وهي شاهدة لها قيمتها في النفس البشرية حتما .
كان العرب يبالغون في أهمية الجنّ ، ويعتقدون أن لهم سلطانا في الأرض ، فكان الواحد منهم إذا أمسى بواد أو قفر لجأ إلى الاستعاذة بعظيم الجن الحاكم لما نزل فيه من الأرض ، فيقول : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه . . ثم يبيت آمنا .
كذلك كانوا يعتقدون أن الجن تعلم الغيب ، وتخبر به الكهان فينبئون بما يتنبأون ، وفيهم من عبد الجن ، وجعل بينهم وبين الله نسبا ، وزعم أن له سبحانه وتعالى زوجة منهم تلد له الملائكة . وهكذا نجد كثيرا من الأوهام والأساطير تغمر قلوب الناس ومشاعرهم ، وتصوراتهم عن الجن في القديم ، ولا تزال هذه الأوهام تسود بعض البيئات إلى يومنا هذا .
ونجد في الصف الآخر منكرين لوجود الجن أصلا ، يصفون أي حديث عن هذا الخلق المغيب بأنه حديث خرافة .
وبين الإغراق في الوهم ، والإغراق في الإنكار ، يقرر الإسلام حقيقة الجن ، ويصحح التصورات العامة عنهم ، ويحرر القلوب من خوفها وخضوعها لسلطانهم الموهوم .
تحدث القرآن الكريم عن الجن في عدد من السور ، وقد عالج القرآن الأخطاء الشائعة عن الجن ، وأثبت الحقيقة فيما يتصل بهم ، وأعطى للإنسان صورة واضحة دقيقة متحررة من الوهم والخرافة ، ومن التعسف في الإنكار الجامح ، فالجن عالم نؤمن به وبخصائصه كما وردت في القرآن الكريم ، والجن لا يظهر للعين ولا يراه الإنسان بحاسة البصر .
قال تعالى : إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم . . ( الأعراف : 27 ) .
والجن منهم الضالون المضلّون ، ومنهم السذج الأبرياء الذين ينخدعون ، ومنهم المستقيمون على الطريق القويم والمنهج السليم ، وليس للجن معرفة بالغيب ، وليس لهم قوة ولا حيلة مع قوة الله ، وليس بينهم وبين الله صهر ولا نسب ، وقد كان إبليس من الجن ثم فسق عن أمر ربه وتمحض للشر والفساد والإغواء ، وقد خلق الجن من النار ، كما خلق الإنسان من الطين .
وقد سخرت الجن لسليمان عليه السلام ، فمنهم من كان يبني له المساجد والمنازل والأبنية المختلفة ، ومنهم من كان يغوص في البحر يستخرج له اللؤلؤ والياقوت والأحجار الكريمة ، وسلطه الله على المردة والخارجين على القانون ، فكان يقيدهم في السلاسل والأغلال ، ويسخرهم في الأعمال ، ويرهقهم بألوان العذاب ، وقد جعل الله السيطرة على الجن منحة خاصة لسليمان عليه السلام ، فقد سأل ربه ملكا لا يتهيأ لأحد من بعده ، فأعطاه الله ملك الريح والجن والشياطين والمردة :
قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب* فسخّرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب* والشياطين كل بنّاء وغوّاص* وآخرين مقرّنين في الأصفاد* هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب* وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب . ( ص : 35-40 ) .
" إن الكون من حولنا حافل بالأسرار ، عامر بالرواح ، حاشد بالقوى ، وهذه السورة من القرآن- كغيرها- تمنحنا جوانب من الحقائق في هذا الوجود ، تعين على بناء تصور حقيقي صحيح للوجود ، وما فيه من قوى وأرواح وحيوانات تعج من حولنا ، وتتفاعل مع حياتنا ، وهذا التصور هو الذي يميز المسلم ، ويقف به وسطا بين الوهم والخرافة ، وبين الادعاء والتطاول ، ومصدره هو القرآن والسّنة ، وإليهما يحاكم المسلم كل تصور آخر ، وكل قول ، وكل تفسير )i .
في كتب السّنة ما يفيد أن الجن قد استمعت للقرآن عرضا دون قصد ، فأسلمت وآمنت ، وانطلقت تدعو قومها إلى الإسلام .
وفي روايات أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق متعمدا ليبلغ دعوته إلى الجن ، وقد افتقده أصحابه ذات ليلة فاشتد بهم القلق ، وباتوا بشرّ ليلة بات بها قوم ، فلما أصبحوا جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم من قبل حراء ، فقال : ( أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن ) . والروايتان السابقتان واردتان في الصحيح ، أحداهما عن ابن عباس تقول إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف بحضور النّفر من الجن ، والرواية الثانية عن ابن مسعود تقول إنهم استدعوه ويوفق البيهقي بين الروايتين بأنهما حادثان لا حادث واحد .
وفي رواية ثالثة لابن إسحاق أن الجن استعمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة عودته من الطائف قبل الهجرة .
ولعل الجن قد استمعت للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة ، وكان في استماع الجن للنبي بمكة قبل الهجرة تطييب لخاطره ، وتصديق لدعوته ، وتحقيق للحق بشأن الجن ، وتصحيح لمفاهيم الجاهلية عن الجن ، وإرشاد للمسلمين ليكون إيمانهم عن بيّنة ، وقد ساقت سورة الجن كثيرا من الحقائق عن الألوهية والعقيدة والوحدانية ، وإخلاص العبادة لله سبحانه ، فهي سورة الجن ولكنها توجيه وإرشاد وتعليم للخلق أجمعين .
نلاحظ أن السورة في القرآن تسمى بأغرب شيء فيها أو أهم شيء فيها ، فسورة البقرة اشتملت على قصة قتيل ضرب بقطعة من البقرة فدرت إليه الحياة ، وسورة آل عمران اشتملت على قصة مريم ابنة عمران ، وسورة النساء اشتملت على ذكر أحكام النساء ، وسورة المائدة اشتملت على قصة المائدة التي نزلت من السماء استجابة لدعاء عيسى عليه السلام .
كما سمى سبحانه سور كتابه بأسماء تبعث على النظر والاعتبار ، وتوجب التفكير ، فسمى بالأنعام ، وبالحشرات كالنمل والنحل والعنكبوت ، وبما هو ألطف من ذلك كالنور ، كما سمى ببعض الأنبياء كيوسف ويونس وهود ، وببعض الأخلاق كالتوبة ، وببعض الكواكب العلوية كالشمس والقمر والنجم ، وببعض الأوقات كالليل والفجر والضحى ، وببعض المعادن كالحديد ، وببعض الأماكن كالبلد ، وببعض النبات كالتين ، وكل ذلك مما نراه .
وهنا سمى هذه السورة بعالم لا نراه وهو عالم الجن ، وهو عالم لم يعرف في الإسلام إلا من طريق الوحي ، وليس للعقل دليل عليه ، فالمؤمن يؤمن بالغيب ، ويؤمن بالملائكة وبالجن على نحو ما ورد في القرآن .
وسميت السورة سورة الجن لأنها تحدثت عنهم وبدأت بذكرهم ، فقالت : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا . ( الجن : 1 ) .
2 ، 1- تطالعنا السورة بأن الجن فوجئت باستماع القرآن الكريم ، فقالوا لقومهم : إنا سمعنا كتابا بديعا يهدي إلى الحق وإلى الطريق المستقيم ، فصدّقنا به ، ولن نعود ما كنا عليه من الإشراك بالله .
3- ثم نزّهوا ربهم عن الزوجة والولد ، فقالوا : علا ملك ربنا وسلطانه أن يكون ضعيفا ضعف خلقه ، الذين تضطرهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة ، أو ملامسة يكون منها الولد ، وكانت العرب تزعم أن الملائكة بنات الله ، جاءته من صهر مع الجن ، فجاءت الجن تكذب هذه الخرافة الأسطورية ، في تسبيح الله وتنزيه له .
4- وأن الجهّال من الجن يقولون قولا شططا عن الصواب ، بنسبة الولد والصاحبة إليه تعالى .
5- وأنهم كانوا يستعظمون أن يجرؤ أحد على الكذب على الله ، فلما قال لهم سفهاؤهم : إن الله صاحبة وولدا ، صدقوهم لأنهم لم يتصوروا أنهم يكذبون على الله .
6- وأن رجالا من الإنس يستعيذون في القفر برجال من الجن فزادوا الجن بذلك طغيانا وغيّا ، إنهم لما استعاذوا بالجن خوفا منهم ولم يستعيذوا بالله ، استذلوهم واجترؤوا عليهم .
7- ظنّت الطائفة الظالمة من الجن أن الله لن يبعث رسولا إلى خلقه يدعوهم إلى توحيده والإيمان برسله واليوم الآخر . أو ظنّوا أن لن يبعث الله أحدا بعد الموت ، وهذا الظن مخالف للاعتقاد في حكمة الله وكماله . وهؤلاء النفر من الجن المؤمن يصححون لقومهم ظنّهم ، والقرآن في حكايته عنهم يصحح للمشركين أوهامهم .
8-9- كان الجن يحاولون الاتصال بالملأ الأعلى ، واستراق شيء مما يدور بين الملائكة ، عن شئون الخلائق في الأرض ، ثم يوحون ما التقطوه لأوليائهم من الكهان والعرافين ، الذين يستغلون الكثير من الحق فيمزجونه بالكثير من الباطل ، ويروجونه بين جماهير الناس .
وبعد رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حاولت الجن استراق السمع من السماء فلم يتمكنوا ، لأن الحراسة شدّدت على السماء ، ومن حاول استراق السمع ومعرفة الغيب رجم بالشهب فتقتله أو تخبله .
10- إن الجن لا تعلم شيئا عن الغيب المقدّر للبشر ، ولا يدرون الحكمة من حراسة السماء بالشهب ، ولا ماذا قدر الله لعباده في الأرض ، أعذابا أراد الله أن ينزله بهم ، أم أراد بهم ربهم الهدى ، بأن يبعث فيهم رسولا مرشدا يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم .
11- من الجن الصالح والطالح ، ومنهم المسلم والجائر ، فهم مثلهم مثل الإنسان في طبيعته ، لديهم استعداد للخير والشر ، إلا من تمحض منهم للشر وهو إبليس وقبيله .
12- إن الله قادر علينا حيث كنا فلا نفوته هربا ، فهم يقدرون ضعف المخلوق أمام الخالق ، ويشعرون بسلطان الله القاهر الغالب .
13- لما سمعنا القرآن صدقنا به وأقررنا بأنه من عند الله ، ومن يصدق بالله وبما أنزله على رسله فلا يخاف نقصا من حسناته ، ولا هوانا ولا جوارا ، لأن المؤمن في حماية الله وعونه ورعايته ، وسينال جزاءه وافرا كاملا .
14- من الجن فريق مؤمن أطاع الله واستقام على الهدى ، وفريق قاسط جائر مائل عن الصواب ، وقد وصل الفريق المؤمن إلى الصواب ، حين اختار الإسلام وحرص على الرشد والاعتدال .
15- أما الجائرون عن سنن الإسلام فشأنهم أن يكونوا حطبا لجهنم ، تتلظى بهم وتزداد اشتعالا ، كما تتلظى النار بالحطب .
16- يلتفت القرآن في الخطاب ، وينتقل من الحديث على لسان الجن إلى مخاطبة الرسول والخلق أجمعين فيقول : لو استقام الإنس والجن على ملة الإسلام لوسعنا عليهم أرزاقهم ، ولبسطنا لهم خيرات الحياة .
17- وهذه النعم للاختبار والابتلاء ، فمن شكر النعمة وأحسن التصرف فيها استحق بقاءها ، ومن أعرض عن منهج الله دخل في العذاب الشاق الذي يعلوه ويغلبه ولا يطيق له حملا .
18- إن السجود أو مواضع السجود – وهي المساجد- لا تكون إلا لله ، فهناك يكون التوحيد الخالص ، ويتوارى كل ظل لكل أحد ، ولكل قيمة ، ولكل اعتبار ، وينفرد الجو للعبودية الخالصة لله .
19- لما قام محمد صلى الله عليه وسلم يعبد الله ، كاد الجن يكونون جماعات بعضها فوق بعض تعجبا مما شاهدوا من عبادته ، وسمعوا من قراءته ، واقتداء أصحابه به قياما وركوعا وسجودا ، وأخذوا ودهشوا من جلال ما سمعوا ، وروعة ما شاهدوا ، وهو دليل على انشغال السماء والأرض والملائكة والجن بهذا الوحي ، وعلى الجدّ الذي يتضمنه : إنه لقول فصل* وما هو بالهزل . ( الطارق : 13 ، 14 ) .
20- قل يا محمد للناس : إنما أعبد الله وحده ، ولا أشرك بعبادته صنما ولا وثنا ولا مخلوقا .
21- قل : إني لا أملك نفعا ولا ضرا ، فالله وحده هو الذي يملك الضرّ ويملك الخير .
22 ، 23- إني لا أجد ملجأ أو حماية من دون الله ، إلا أن أبلغ هذا الأمر ، وأؤدي هذه الأمانة ، فهذا الأمر ليس أمري ، وليس لي فيه شيء إلا التبليغ ، ولا مفر لي من هذا التبليغ ، والرسالة ليست تطوعا ، وإنما هي تكليف صارم جازم لا مفر من أدائه ، فالله من ورائه .
يقول الله تعالى : يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته . . . ( المائدة : 67 ) .
ومن يكذّب برسالات الله فإن له نارا يصلاها ، خالدا فيها إلى غير نهاية .
23- وإذا كان المشركون يركنون إلى قوة وإلى عدد ، ويقيسون قوتهم إلى قوة محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون القلائل معه ، فسيعلمون حين يرون ما يوعدون ، أي الفريقين هو الضعيف المخذول ، القليل المهزول .
24- ويتجرد الرسول وينفض يده من أمر الغيب ، فالعذاب الذي يتوعد به الكافرين ليس له فيه يد ، ولا يعلم له موعدا ، ولا يدري أقريب هو أم بعيد يجعل الله له أمدا ممتدّا ، سواء عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة ، فكله غيب في علم الله .
25- والله سبحانه هو المختص بالغيب دون العالمين .
26- والرسل الذين يرتضيهم الله لتبليغ دعوته ، يطلعهم على جانب من غيبه ، هو هذا الوحي : موضوعه ، وطريقته ، والملائكة الذين يحملونه ، ومصدره ، وحفظه في اللوح المحفوظ . . . إلى آخر ما يتعلق بموضوع رسالتهم ، مما كان في ضمير الغيب لا يعلمه أحد منهم .
وفي الوقت ذاته يحيط بهؤلاء الرسل الأرصاد والحراس من الحفظة ، للحفظ والوقاية ، يحمونهم من وسوسة النفس وتمنياتها ، ومن الضعف البشري في أمر الرسالة ، ومن النسيان أو الانحراف ومن سائر ما يعتري البشر من النقص والضعف .
والخلاصة : إنه ليدخل حفظة من الملائكة يحفظون قوى الرسول الظاهرة والباطنة من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم .
68- وهذه الحراسة الشديدة ليظهر الله للناس أجمعين أن الملائكة قد أبلغوا رسالات ربهم ، غير مشوبة بتخليط من الجن أو من الجنون ، وهو سبحانه محيط علما بجميع أحوال أولئك الوسائط ، وهو سبحانه أحصى كل شيء عددا ، فلا تقتصر إحاطته على ما لدى الرسل ، بل يحيط بكل شيء إحصاء وعدّا ، وهو أدق أنواع الإحاطة والعلم . وبهذا الإيقاع الهائل الرهيب تختم السورة التي بدئت بروعة الجن من سماع القرآن ، وختمت بإحاطة الله الشاملة لمن يؤدون رسالته ، وحمايته لمن يبلغون دعوته ، وقد وسع علمه السماوات والأرض وكل ما في الوجود .
1- حكاية أقوال صدرت عن الجن حين سمعوا القرآن ، كوصفهم له بأنه كتاب يهدي إلى الرشد ، وأن الرب سبحانه تنزه عن الصاحبة والولد ، وأنهم ما كانوا يظنون أن أحدا يكذب على الله ، وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون في القفر برجال من الجن ، وأن الجن طلبوا خبر العالم العلوي فمنعوا ، وأن الجن لا يدرون ماذا يحل بالأرض من هذا المنع ، وأن الجن منهم الأبرار ومنهم الفجّار ، ومنهم مسلمون وجائرون عادلون عن الحق .
2- ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغه إلى الحق ، ككونه لا يشرك بربه أحدا ، وأنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، وأنه لا يمنعه أحد من الله إن عصاه ، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يدري متى يكون وقت تعذيبهم فالعلم لله وحده ، وأن الغيب لا يعلمه إلا الله ، ثم من اصطفى من الرسل .
{ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنّا سمعنا قرآنا عجبا 1 يهدي إلى الرّشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا 2 وأنه تعالى جدّ ربنا ما اتّخذ صاحبة ولا ولدا 3 وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا 4 وأنّا ظننّا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا 5 وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا 6 وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا 7 }
أوحي إليّ : الوحي شرعا : إعلام الله تعالى أنبياءه ما يريد إبلاغهم به من الشرائع والأخبار بطريق خفي .
النفر : ما بين الثلاثة والعشرة .
الجن : واحدهم جنّي ، كروم ورومي .
عجبا : بديعا مباينا لكلام الناس ، في حسن النظم ودقة المعنى .
1- قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنّا سمعنا قرآنا عجبا .
قل يا محمد لقوم : إن جبريل أخبرني بأن جماعة من الجن ، قد استمعت القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم في صلاة الفجر بعد عودته من الطائف ، فقال الجن لإخوانهم ولقومهم :
أي : باهرا عجيبا بديعا في حسن نظمه ، ودقة معانيه ، فهو عجيب باهر في أسلوبه ونظامه ورصف معانيه ، وهو عجيب باهر في رشاقة ألفاظه ، وتسلسل أفكاره ، وهو عجيب باهر فيما اشتمل عليه من أحكام وتشريع وآداب ، وأخبار عن الأمم الماضية ، ومشاهد للقيامة والحساب والجزاء ، والصراط والميزان ، والجنة والنار .
سورة الجن مكية وآياتها ثمان وعشرون ، نزلت بعد سورة الأعراف . لقد سمى الله تعالى سور كتابه الكريم بأسماء تبعث على النظر والاعتبار وتوجب التفكير ، فسمى بالأنعام وببعضها كالبقرة ، وبالحشرات كالنمل والنحل والعنكبوت ، وبما هو ألطف من ذلك كالنور . كما سمى ببعض الأنبياء كيونس ويوسف وهود ومحمد ، وببعض الأخلاق كالتوبة ، وببعض الكواكب كالشمس والنجم والقمر ، وببعض الأوقات كالليل والفجر والضحى ، وببعض المعادن كالحديد ، وببعض الأماكن كالبلد ، وببعض النبات كالتين ، وبكل شيء مما نراه وما لا نراه .
وهنا سمى هذه السورة بعالم لا نراه وهو عالم الجن . وهو عالم لم يُعرف في الإسلام إلا من طريق الوحي ، وليس للعقل دليل عليه . ولقد أصبحت هذه العوالم المستترة عنا الشغل الشاغل اليوم للعلماء والباحثين ، فصار علماء أوروبا يدرسون في مباحث عالم الجن وعالم الأرواح ، ويحاولون أن يطلعوا على غوامض هذه العوالم . ونُقل عن كثير منهم أنهم تحدثوا مع أرواح أصحابهم الذين ماتوا ، وعن اتصال العالم الإنسي بالعالم الجني ، وبعالم الأرواح الطاهرة وهم الملائكة .
فإذا سمى الله هذه السورة بهذا الاسم فمعناه أنه أعطى هذا العالم الخفي عنايته وسمى السورة باسمه ، كما اعتنى بالحديد ، وهو نوع من المعادن . وهكذا توجهت عنايته إلى النور وأنواع الحيوان والنبات والأوقات المختلفة ، وبكل شيء نراه وما لا نراه ، لنجدّ في البحث عن المعادن كلها ، وعن حساب الزمان ، ونُعنى بالعلوم العناية اللائقة المفيدة .
وقد أفاض الأستاذ طنطاوي جوهري رحمه الله في كتابه " الجواهر " في هذا الموضوع وأطال ونقل أشياء كثيرة من محاولات الأوروبيين وبحوثهم في هذا الموضوع وقال إنه ألّف كتابا سماه " كتاب الأرواح " ذكر فيه ما جرّبه القوم في أوروبا ، وكيف أحضروا الأرواح ، وما الشروط وما الواجب على الإنسان في ذلك ، وما فوائد هذا العلم ومضارّه .
ونقل نبذة من خطبة " السير : أوليفر لودج " ، وهو من أشهر علماء الطبيعة في هذا العصر في بلاد الإنجليز ، إذ أكد في مجمع من كبار العلماء أنه حادث الأموات ، وأن هناك عقولا أسمى من عقولنا في عالم الأرواح ، وأنهم يهتمون بنا ، وأن إخوانه من الجمعية الروحية الذين ماتوا كلموه بعد موتهم وبرهنوا له ببراهين قاطعة أنهم هم الذين يكلمونه . وقال : إن ما يقوله الأنبياء عن عالم الأرواح وعن الله حق بلا تأويل . وقال إنه اشتغل بهذا الفن ثلاثين سنة فله الحق أن يحكم بما يقول . ومن أراد الزيادة فليرجع إلى تفسير " الجواهر " للمرحوم الشيخ طنطاوي جوهري .
وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على حكاية أقوال الجن وما يتعلق بهم ، وأنهم سمعوا كتابا بديعا ، هو القرآن ، يهدي إلى الصواب فآمنوا به وتركوا الشرك . وأن الله تعالى لم يتخذ زوجة ولا ولدا كما يقول السفهاء منهم على الله شططا . وأنهم ما كانوا يظنون أن أحدا يكذب على الله بنسبة الصاحبة والولد إليه . . وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون برجال من الجن فزاد الجن الإنس ضلالا باستعاذتهم بهم . . وأن الجن ظنوا مثل بعض الإنس أنه لن يبعث الله أحدا . . وأنهم طلبوا خبر العالم العلوي المعبَّر عنه بالسماء فمُنعوا . . وأن الجن كانوا يقعدون مقاعد خالية ليتمكنوا من السمع ، فمنِعوا الآن برجم الشهُب لهم ، وأنهم لا يدرون : { أشرّ أريدَ بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا } . وأن الجن منهم الأبرار ومنهم الفجار ، وأنهم علموا أنهم لن يفرّوا من أمر الله إن أراد بهم أمرا على هذه الأرض ، وأنهم حين سمعوا الهدى آمنوا به . . { فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا } . وأنهم فريقان : مسلمون ، وجائرون ، فالمسلم قصد طريق الحق وتوخاه ، أما الجائر فإنه يكون { لجهنم حطبا } . وأن الإنس والجن إذا استقاموا على الطريقة المثلى وسّع الله عليهم رزقهم واختبرهم به .
وأن المساجد لله ، فعلى من يدخلها أن يُخلص لله فيها ولا يشرك به أحدا . وأنه لما قام النبي صلى الله عليه وسلم يعبد الله كاد الجن يكونون جماعات ملتفة حوله من ازدحامهم عليه تعجبا مما رأوا من عباراته وسمعوا من قراءته .
ثم تُختم السورة بتوجيهات علوية إلى الرسول الكريم والمؤمنين ، وأنّ علم الساعة عند الله وحده وهو { عالم الغيب فلا يُظهر على غيه أحدا ، إلا من ارتضى من رسول . . . . } .
وأنه تعالى { أحصى كل شيء عددا } مما خلق ، وعرفه فلا يغيب عنه شيء .
النفر : ما بين الثلاثة والعشرة .
عجبا : عجيبا بديعا لا يشبهه شيء من كلام الناس .
قل يا محمد لأمتك : أوحى اللهُ إليَّ أنه استمعَ إلى تلاوة القرآنِ جماعةٌ من الجنِّ فدُهِشوا من عَظَمتِه وبلاغته فقالوا لقومهم : إنّا سَمِعْنا قرآناً بديعاً لم نسمَعْ مثلَه من قبلُ ، فدُهِشوا من عَظَمته وبلاغته فقالوا لقومهم : إنّا سَمِعْنا قرآناً بديعاً لم نسمَعْ مثلَه من قبلُ .
{ 1 - 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا }
أي : { قُلْ } يا أيها الرسول للناس { أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ } صرفهم الله [ إلى رسوله ] لسماع آياته لتقوم عليهم الحجة [ وتتم عليهم النعمة ] ويكونوا نذرا{[1243]} لقومهم . وأمر الله رسوله أن يقص نبأهم على الناس ، وذلك أنهم لما حضروه ، قالوا : أنصتوا ، فلما أنصتوا فهموا معانيه ، ووصلت حقائقه إلى قلوبهم ، { فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا } أي : من العجائب الغالية ، والمطالب العالية .
{ قل أوحي إلي } أي أخبرت بالوحي من الله إلي { أنه استمع نفر من الجن } وذلك أن الله تعالى بعث نفرا من الجن ليستمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي الصبح ببطن نخلة وهؤلاء الذين ذكرهم الله في سورة الأحقاف في قوله { وإذ صرفنا إليك نفرا } الآية فلما رجعوا إلى قومهم قالوا { إنا سمعنا قرآنا عجبا } في فصاحته وبيانه وصدق إخباره
الأولى- قوله تعالى : " قل أوحي إلي " أي قل يا محمد لأمتك : أوحى الله إلي على لسان جبريل " أنه استمع " إلي " نفر من الجن " وما كان عليه السلام عالما به قبل أن أوحى إليه . هكذا قال ابن عباس وغيره على ما يأتي . وقرأ ابن أبي عبلة " أحِي " {[15416]} على الأصل ، يقال أوحَى إليه ووحَى ، فقلبت الواو همزة ، ومنه قوله تعالى : " وإذا الرسل أقتت " [ المرسلات : 11 ] وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة . وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح{[15417]} وإسادة وإدعاء أخيه ونحوه .
الثانية- واختلف هل رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ؟ فظاهر القرآن يدل على أنه لم يرهم ؛ لقوله تعالى : " استمع " ، وقوله تعالى : " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن " [ الأحقاف : 29 ] . وفي صحيح مسلم والترمذي{[15418]} عن ابن عباس قال : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن وما رآهم ، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ! قالوا : ما ذاك إلا من شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ؟ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو بنخلة{[15419]} عامدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ؛ فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء . فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا : " إنا سمعنا قرآنا عجبا{[15420]} . يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا " فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم : " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن " : رواه الترمذي عن ابن عباس قال : قول الجن لقومهم : " لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا " قال : لما رأوه يصلي وأصحابه يصلون بصلاته فيسجدون بسجوده قال{[15421]} : تعجبوا من طواعية أصحابه له ، قالوا لقومهم : " لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا " [ الجن : 19 ] . قال : هذا حديث حسن صحيح ، ففي هذا الحديث دليل على أنه عليه السلام لم ير الجن ولكنهم حضروه ، وسمعوا قراءته . وفيه دليل على أن الجن كانوا مع الشياطين حين تجسسوا الخبر بسبب الشياطين لما رموا بالشهب . وكان المرميون بالشهب من الجن أيضا .
وقيل لهم شياطين كما قال : " شياطين الإنس والجن " [ الأنعام : 112 ] فإن الشيطان كل متمرد وخارج عن طاعة الله . وفي الترمذي عن ابن عباس قال : كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون إلى الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا ، فأما الكلمة فتكون حقا ، وأما ما زادوا فيها{[15422]} ، فيكون باطلا . فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم ، فذكروا ذلك لإبليس ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك ، فقال لهم إبليس : ما هذا الأمر{[15423]} إلا من{[15424]} أمر قد حدث في الأرض ! فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي بين جبلين - أراه قال بمكة - فأتوه فأخبروه فقال : هذا الحديث{[15425]} الذي حدث في الأرض . قال : هذا حديث حسن صحيح . فدل هذا الحديث على أن الجن رموا كما رميت الشياطين . وفي رواية السدي : أنهم لما رموا أتوا إبليس فأخبروه بما كان من أمرهم فقال : ايتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها فأتوه فشم فقال : صاحبكم بمكة . فبعث نفرا من الجن ، قيل : كانوا سبعة . وقيل : تسعة منهم زوبعة . وروى عاصم عن زر : أنهم كانوا سبعة نفر ، ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين . وحكى جويبر عن الضحاك : أنهم كانوا تسعة من أهل نصيبين ( قرية باليمن غير التي بالعراق{[15426]} ) . وقيل : إن الجن الذين أتوا مكة جن نصيبين ، والذين أتوه بنخلة جن نينوى . وقد مضى بيان هذا في سورة ( الأحقاف{[15427]} ) . قال عكرمة : والسورة التي كان يقرؤها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ باسم ربك " [ العلق : 1 ] وقد مضى في سورة " الأحقاف " التعريف باسم النفر من الجن ، فلا معنى لإعادة ذلك . وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجن ليلة الجن وهو أثبت ، روى عامر الشعبي قال : سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه ، فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقلنا استطير{[15428]} أو اغتيل ، قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما أصبح إذا هو يجيء من قبل حراء ، فقلنا : يا رسول الله ! فقدناك وطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فقال : ( أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن ) فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة ، فقال : ( لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكل بعرة علف لدوابكم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلا تستنجوا بهما ، فإنهما طعام إخوانكم الجن ) قال ابن العربي : وابن مسعود أعرف من ابن عباس ؛ لأنه شاهده وابن عباس سمعه وليس الخبر كالمعاينة . وقد قيل : إن الجن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعتين : إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود ، والثانية بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس . قال البيهقي : الذي حكاه عبد الله بن عباس إنما هو في أول ما سمعت الجن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وعلمت بحاله ، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه ، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبد الله بن مسعود قال البيهقي : والأحاديث الصحاح تدل على أن ابن مسعود لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ، وإنما سار معه حين انطلق به وبغيره يريه آثار الجن وآثار نيرانهم . قال : وقد روي من غير وجه أنه كان معه ليلتئذ ، وقد مضى هذا المعنى في سورة " الأحقاف " والحمد لله . روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي ؟ ) فسكتوا ، ثم قال الثانية ، ثم قال الثالثة ، ثم قال عبد الله بن مسعود : أنا أذهب معك يا رسول الله ، فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب أبي دب{[15429]} فخط علي خطا فقال : ( لا تجاوزه ) ثم مضى إلى الحجون فانحدر عليه أمثال الحجل يحدرون{[15430]} الحجارة بأقدامهم ، يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها ، حتى غشوه فلا أراه ، فقمت فأومى إلي بيده أن أجلس ، فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع ، ولصقوا بالأرض حتى ما أراهم ، فلما انفتل إلي قال : ( أردت أن تأتيني ) ؟ قلت : نعم يا رسول الله . قال : ( ما كان ذلك لك ، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن ، ثم ولوا إلى قومهم منذرين فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر فلا يستطيبن أحدكم بعظم ولا بعر ) .
قال عكرمة : وكانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل . وفي رواية : انطلق بي عليه السلام حتى إذا جئنا المسجد الذي عند حائط عوف خط لي خطا ، فأتاه نفر منهم فقال أصحابنا كأنهم رجال الزط{[15431]} وكأن وجوههم المكاكي{[15432]} ، فقالوا : ما أنت ؟ قال : ( أنا نبي الله ) قالوا : فمن يشهد لك على ذلك ؟ قال : ( هذه الشجرة ) فقال : ( يا شجرة ) فجاءت تجر عروقها ، لها قعاقع حتى انتصبت بين يديه ، فقال : ( على ماذا تشهدين ) قالت : أشهد أنك رسول الله . فرجعت كما جاءت تجر بعروقها الحجارة ، لها قعاقع حتى عادت كما كانت .
ثم روى أنه عليه السلام لما فرغ وضع رأسه على حجر ابن مسعود فرقد ثم استيقظ فقال : ( هل من وضوء ) قال : لا ، إلا أن معي إداوة فيها نبيذ . فقال : ( هل هو إلا تمر وماء ) فتوضأ منه .
الثالثة- قد مضى الكلام في الماء في سورة " الحجر " {[15433]} وما يستنجى به في سورة " براءة " {[15434]} فلا معنى للإعادة .
الرابعة- واختلف أهل العلم ، في أصل الجن ، فروى إسماعيل عن الحسن البصري : أن الجن ولد إبليس ، والإنس ولد آدم ، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون ، وهم شركاء في الثواب والعقاب . فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولي الله ، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان . وروى الضحاك عن ابن عباس : أن الجن هم ولد الجان وليسوا بشياطين ، وهم يؤمنون ، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر ، والشياطين هم ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس . واختلفوا في دخول مؤمني الجن الجنة ، على حسب الاختلاف في أصلهم . فمن زعم أنهم من الجان لا من ذرية إبليس قال : يدخلون الجنة بإيمانهم . ومن قال : إنهم من ذرية إبليس فلهم فيه قولان : أحدهما : وهو قول الحسن يدخلونها . الثاني : وهو رواية مجاهد لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار . حكاه الماوردي . وقد مضى في سورة " الرحمن " {[15435]} عند قوله تعالى : " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " [ الرحمن : 56 ] بيان أنهم يدخلونها .
الخامسة- قال البيهقي في روايته : وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة فقال : ( لكم كل عظم ) دليل على أنهم يأكلون ويطعمون . وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن ، وقالوا : إنهم بسائط ، ولا يصح طعامهم ؛ اجتراء على الله وافتراء ، والقرآن والسنة ترد عليهم ، وليس في المخلوقات بسيط مركب مزدوج ، إنما الواحد الواحد{[15436]} سبحانه ، وغيره مركب وليس بواحد كيفما تصرف حاله . وليس يمتنع أن يراهم النبي صلى الله عليه وسلم في صورهم كما يرى الملائكة . وأكثر ما يتصورون لنا في صور الحيات ، ففي الموطأ : أن رجلا حديث عهد بعرس استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار أن يرجع إلى أهله . . . الحديث ، وفيه : فإذا حية عظيمة منطوية على الفراش ، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها . وذكر الحديث . وفي الصحيح أنه عليه السلام قال : ( إن لهذه البيوت عوامر ، فإذا رأيتم منها شيئا فحرجوا عليها ثلاثا ، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر ) . وقال : ( اذهبوا فادفنوا صاحبكم{[15437]} ) وقد مضى هذا المعنى في سورة " البقرة " {[15438]} وبيان التحريج عليهن . وقد ذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة ؛ لقوله في الصحيح : ( إن بالمدينة جنا قد أسلموا ) . وهذا لفظ مختص بها فيختص بحكمها . قلنا : هذا يدل على أن غيرها من البيوت مثلها ؛ لأنه لم يعلل بحرمة المدينة ، فيكون ذلك الحكم مخصوصا بها ، وإنما علل بالإسلام ، وذلك عام في غيرها ، ألا ترى قوله في الحديث مخبرا عن الجن الذي لقي : ( وكانوا من جن الجزيرة ) ؛ وهذا بين يعضده قوله : ( ونهى عن عوامر البيوت ) وهذا عام . وقد مضى في سورة ( البقرة ) القول في هذا فلا معنى للإعادة .
قوله تعالى : " فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا " أي في فصاحة كلامه . وقيل : عجبا في بلاغة مواعظه . وقيل : عجبا في عظم بركته . وقيل : قرآنا عزيزا لا يوجد مثله . وقيل : يعنون عظيما .
{ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا }
{ قل } يا محمد للناس { أُحي إليَّ } أي أخبرت بالوحي من الله تعالى { أنه } الضمير للشأن { استمع } لقراءتي { نفر من الجن } جن نصيبين وذلك في صلاة الصبح ببطن نخل ، موضوع بين مكة والطائف ، وهم الذين ذكروا في قوله تعالى ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ) الآية { فقالوا } لقومهم لما رجعوا إليهم { إنا سمعنا قرآناً عجباً } يتعجب منه في فصاحته وغزارة معانيه وغير ذلك .