تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{وَهُمۡ يَصۡطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا نَعۡمَلۡ صَٰلِحًا غَيۡرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعۡمَلُۚ أَوَلَمۡ نُعَمِّرۡكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُۖ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} (37)

{ وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير }

المفردات :

يصطرخون : يستغيثون في النار بصوت عال ، والصراخ : الصوت المرتفع المصحوب بالتعب والمشقة ، ويستعمل كثيرا في العويل والاستغاثة وأصله يصترخون فأبدلت التاء طاء .

نعمركم : من التعمير بمعنى الإبقاء والإمهال في الحياة الدنيا إلى الوقت الذي كان يمكنهم فيه الإقلاع عن الكفر إلى الإيمان .

ما يتذكر فيه : ألم نعطكم من الوقت الذي كنتم تتمكنون فيه من التذكر والاعتبار .

من تذكر : متناول لكل عمر تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه .

النذير : الرسول أو المشيب أو العقل أو موت الأقارب أو كل أولئك .

التفسير :

تصف الآية ألوان العذاب والهوان والنكال الذي يتعرض له أهل النار فهم يصرخون ويستغيثون بصوت مرتفع حيث يشتد عويلهم وصراخهم واستغاثتهم يقولون : يا ربنا أخرجنا من هذا العذاب الشديد وأرجعنا إلى الدنيا لنعمل عملا صالحا نتدارك به الأعمال الكاسدة التي كنا نعملها في الدنيا .

{ أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير . . . } أو لم نعكم عمرا طويلا كافيا

لأن يتعظ ويتذكر فيه من أراد التذكر والاعتبار وجاءتكم الرسل أو الشيب أو موت الأقران أو وجوب استخدام العقل الفكر واللب في أن وراء هذا الكون البديع إلها خالقا واحدا بيده الخلق والأمر .

قال ابن كثير : أي : أو ما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق لا تنفعهم به في مدة عمركم ؟

وقد اختلف المفسرون في مقدار العمر المراد ههنا :

فقال زين العابدين : إنه مقدار سبع عشرة سنة .

وقال قتادة : اعلموا أن طول العمر حجة ، فنعوذ بالله أن نغير بطول العمل وقد نزلت هذه الآية وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة .

وقال وهب بن منبه : عشرين سنة .

وقال الحسن : أربعين سنة .

وقال مجاهد عن ابن عباس : ستين سنة وهذا أصح اٍلآراء .

أخرج الإمام أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم " أعذر الله تعالى إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ ستين سنة " . xix

{ فذوقوا فما للظالمين من نصير . . . } فذوقوا ونالوا عذاب جهنم لأنه معد للظالمين أمثالكم وليس لكم ناصر ولا معين جزاء ظلمكم وكفركم بالله ورسوله .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَهُمۡ يَصۡطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا نَعۡمَلۡ صَٰلِحًا غَيۡرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعۡمَلُۚ أَوَلَمۡ نُعَمِّرۡكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُۖ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} (37)

" وهم يصطرخون فيها " أي يستغيثون في النار بالصوت العالي . والصراخ الصوت العالي ، والصارخ المستغيث ، والمصرخ المغيث . قال :

كنا إذا ما أتانا صارخٌ فَزِعٌ *** كان الصُّرَاخُ له قرعَ الظَّنابِيبِ{[13165]}

" ربنا أخرجنا " أي يقولون ربنا أخرجنا من جهنم وردنا إلى الدنيا . " نعمل صالحا " قال ابن عباس : أي نقل : لا إله إلا الله . " غير الذي كنا نعمل " أي من الشرك ، أي نؤمن بدل الكفر ، ونطيع بدل المعصية ، ونمتثل أمر الرسل . " أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر " هذا جواب دعائهم ؛ أي فيقال لهم ، فالقول مضمر . وترجم البخاري : ( باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر لقوله عز وجل " أولم نعمركم ما يتذكر قيه من تذكر وجاءكم النذير " يعني الشيب ) حدثنا عبد السلام بن مطهر قال حدثنا عمر بن علي قال حدثنا معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة ) . قال الخطابي : " أعذر إليه " أي بلغ به أقصى العذر ، ومنه قولهم : قد أعذر من أنذر ، أي أقام عذر نفسه في تقديم نذارته . والمعنى : أن من عمره الله ستين سنة لم يبق له عذر ؛ لأن الستين قريب من معترك المنايا ، وهو سن الإنابة والخشوع وترقب المنية ولقاء الله تعالى ، ففيه إعذار بعد إعذار ، الأول بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والموتان{[13166]} في الأربعين والستين . قال علي وابن عباس وأبو هريرة في تأويل قوله تعالى " أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر " : إنه ستون سنة . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في موعظته : ( ولقد أبلغ في الإعذار من تقدم في الإنذار وإنه لينادي مناد من قبل الله تعالى أبناء الستين " أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير " ) . وذكر الترمذي الحكيم من حديث عطاء ابن أبي رباح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا كان يوم القيامة نودي أبناء الستين وهو العمر الذي قال الله " أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر " ) . وعن ابن عباس أيضا أنه أربعون سنة . وعن الحسن البصري ومسروق مثله . ولهذا القول أيضا وجه ، وهو صحيح ، والحجة له قوله تعالى : " حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة " {[13167]} [ الأحقاف 15 ] الآية . ففي الأربعين تناهي العقل ، وما قبل ذلك وما بعده منتقص عنه{[13168]} ، والله أعلم . وقال مالك : أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا والعلم ويخالطون الناس ، حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة ، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس واشتغلوا بالقيامة حتى يأتيهم الموت . وقد مضى هذا المعنى في سورة " الأعراف " {[13169]} . وخرج ابن ماجة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من تجاوز ذلك ) .

قوله تعالى : " وجاءكم النذير " وقرئ " وجاءتكم النذر " واختلف فيه ، فقيل القرآن . وقيل الرسول . قاله زيد بن علي وابن زيد . وقال ابن عباس وعكرمة وسفيان ووكيع والحسين بن الفضل والفراء والطبري : هو الشيب . وقيل : النذير الحمى . وقيل : موت الأهل والأقارب . وقيل : كمال العقل . والنذير بمعنى الإنذار .

قلت : فالشيب والحمى وموت الأهل كله إنذار بالموت ، قال صلى الله عليه وسلم : ( الحمى رائد الموت ) . قال الأزهري : معناه أن الحمى رسول الموت ، أي كأنها تشعر بقدومه وتنذر بمجيئه . والشيب نذير أيضا ؛ لأنه يأتي في سن الاكتهال ، وهو علامة لمفارقة سن الصبا الذي هو سن اللهو واللعب . قال :

رأيت الشيب من نُذُرِ المنايا *** لصاحبه وحسبك من نذير

وقال آخر :

فقلت لها المشيبُ نذيرُ عمري *** ولست مسودا وجه النذير

وأما موت الأهل والأقارب والأصحاب والإخوان فإنذار بالرحيل في كل وقت وأوان ، وحين وزمان . قال :

وأراك تحملهم ولستَ تردهم*** فكأنني بك قد حُمِلت فلم تُرَدَّ

وقال آخر :

الموت في كل حين ينشر الكَفَنَا *** ونحن في غفلة عما يراد بنا

وأما كمال العقل فبه تعرف حقائق الأمور ويفصل بين الحسنات والسيئات ، فالعاقل يعمل لآخرته ويرغب فيما عند ربه ، فهو نذير . وأما محمد صلى الله عليه وسلم فبعثه الله بشيرا ونذيرا إلى عباده قطعا لحججهم ، قال الله تعالى : " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " {[13170]} [ النساء : 165 ] وقال : " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " {[13171]} [ الإسراء : 15 ] . " فذوقوا " يريد عذاب جهنم ؛ لأنكم ما اعتبرتم ولا اتعظتم . " فما للظالمين من نصير " أي مانع من عذاب الله .


[13165]:البيت لسلامة بن جندل. والظنابيب (جمع الظنبوب) وهو مسمار يكون في جبة السنان.
[13166]:الموتان (بضم الميم وفتحها وسكون الواو): الموت.
[13167]:راجع ج 16 ص 194.
[13168]:كيف هذا وقد عاش صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين سنة؟؟
[13169]:راجع ج 7 ص 276.
[13170]:راجع ج 6 ص 18.
[13171]:راجع 10 ص 230.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَهُمۡ يَصۡطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا نَعۡمَلۡ صَٰلِحًا غَيۡرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعۡمَلُۚ أَوَلَمۡ نُعَمِّرۡكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُۖ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} (37)

ولما بيّن عذابهم بين اكتئابهم فقال : { وهم } أي فعل ذلك بهم والحال أنهم { يصطرخون فيها } أي يوجدون الصراخ فيها بغاية ما يقدرون عليه من الجهد في الصياح بالبكاء والنواح . ولما بيّن ذلك بيّن قولهم في اصطراخهم بقوله : { ربنا } أي يقولون : أيها المحسن إلينا { أخرجنا } أي من النار { نعمل صالحاً } ثم أكدوه وفسروه وبينوه بقولهم على سبيل التحسر والاعتراف بالخطأ أو لأنهم كانوا يظنون عملهم صالحاً { غير الذي كنا } أي بغاية جهدنا { نعمل } فتركوا الترقق والعمل على حسبه في وقت نفعه واستعملوه عند فواته فلم ينفعهم ، بل قيل في جوابهم تقريراً لهم وتوبيخاً وتقريعاً : { أو لم } أي ألم تكونوا في دار العمل متمكنين من ذلك بالعقول والقوى ؟ أو لم { نعمركم } أي نطل أعماركم مع إعطائنا لكم العقول ولم نعاجلكم بالأخذ { ما } أي زماناً { يتذكر فيه } وما يشمل كل عمر يتمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه غير أن التوبيخ في الطويل أعظم ، وأشار بمظهر العظمة إلى أنه لا مطمع بغيره سبحانه في مد العمر .

ولما كان التفكر بعد البعث غير نافع لأنه بعد كشف الغطاء ، عبر بالماضي فقال : { من تذكر } إعلاماً بأنه قد ختم على ديوان المتذكرين ، فلا يزاد فيهم أحد ، والزمان المشار إليه قيل : إنه ستون سنة - قاله ابن عباس رضي الله عنهم ، وبوّب له البخاري في أوائل الرقاق من غير عزو إلى أحد ، وروى أحمد بن منيع عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من عمره الله ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر " وروى الترمذي وابن ماجه وأبو يعلى عن أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين . وأقلهم من يجوز ذلك " .

ولما أشار إلى دليل العقل ابتداء ودواماً ، أشار إلى أدلة النقل المنبه على ما قصر عنه العقل ، فقال معبراً بالماضي تصريحاً بالمقصود عطفاً على معنى : أو لم نعمركم الذي هو قد عمرناكم : { وجاءكم النذير } أي عنى من الرسل والكتب تأييداً للعقول بالدليل المعقول .

ولما تسبب عن ذلك أن عذابهم لا ينفك قال : { فذقوا } أي ما أعددناه لكم من العذاب دائماً أبداً ، ولما كانت العادة جارية بأن من أيس من خصمه فزع إلى الاستغاثة عليه ، تسبب عن ذلك قوله : { فما } وكان الأصل : لكم ، ولكنه أظهر تعليقاً للحكم بالوصف للتعميم فقال : { للظالمين } أي الواضعين الأشياء في غير مواضعها { من نصير * } أي يعينهم ويقوي أيديهم ، فلا براح لكم عن هذا الذواق ، وهذا عام في كل ظالم ، فإن من ثبت له نصر عليه لأن ظلمه في كل يوم يضعف ويهن والحق في كل حين يقوى ويضخم .