تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا نَسُواْ يَوۡمَ ٱلۡحِسَابِ} (26)

{ يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ( 26 ) وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ( 27 ) أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ( 28 ) كتاب أنزلناه إليك مباركا ليدبروا آتيناه وليتذكر أولوا الألباب ( 29 ) }

المفردات :

خليفة : استخلفناك على الملك في الأرض ، أو جعلناك خليفة لمن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق .

سبيل الله : طريق الله الحق ، وصراطه المستقيم .

نسوا يوم الحساب : أهملوه وتناسوه كأنه غير موجود ، وتركوا العمل له .

26

التفسير :

26-{ يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب } .

تأتي هذه الآيات بعد قوله تعالى : { فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب .

فالله غفر له ، وجعل له منزلة عليا ، وأرشده على استكمال هذه المنزلة العالية ، أو أمره أمرا مستقلا بأن يحكم بالعدل .

ومعنى الآية :

لقد استخلفناك يا داود في الحكم بين الناس ، وجعلناك رسولا ملكا ، جمعت بين الرسالة والملك ، فاحكم بين الناس بالعدل ، وقد تكرر الأمر بالعدل في القرآن الكريم ، وعلى العدل قامت السماوات والأرض ، والله تعالى هو الحق ، والقرآن نزل بالحق .

قال تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤذوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل . . . }[ الناس : 58 ] .

{ ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله . . . }

أي : لا تمل عن الحق ولا تحد عنه ، فتتبع هوى نفسك ، فإن اتباع الهوى يبعدك عن طريق الله السويّ ، وسبيله المستقيم .

وإتباع الهوى يطلق على الميل الشخصي ، أو طاعة الشيطان ، أو الخروج عن العدل إلى الظلم ، وقد حذر القرآن الكريم من اتباع الهوى في كثير من آياته .

قال تعالى : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون } . [ الجاثية : 23 ] .

ويقول البوصيري :

والنفس كالطفل إن تهمله شبّ على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

فاحذر هواها وحاذر أن تولّيه إن الهوى ما تولّى يصم أو يصم .

{ إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب } .

الذين يتركون الحق ، ويضلّون عن سبيل معالمه ، ويرْتضون بالباطل ، لهم عذاب شديد يوم القيامة ، لنسيانهم ما في القيامة من الأهوال العظام التي يشيب لها الوليد ، وأنه يوم الدين ويوم العدالة ، وأن الله سيحاسب فيه كل نفس بما كسبت ، وسيجازي في هذا اليوم على الإحسان إحسانا ، وعلى السوء سوءا .

قال تعالى : { ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها } . [ الشمس : 7-10 ] .

ويقول الله تعالى في الحديث القدسي الذي رواه النبي صلى الله عليه وسلم : " يا عبادي ، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا " {[574]} .


[574]:يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي: رواه مسلم في البر والصلة والآداب (2577)، والترمذي في صفة القيامة (2459) وابن ماجة (4275) وأحمد (5/154، 160،177)، وعبد الرزاق (20272) من حديث أب ذر.
 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا نَسُواْ يَوۡمَ ٱلۡحِسَابِ} (26)

فيه خمس مسائل :

الأولى : قوله تعالى : " إنا جعلناك خليفة في الأرض " أي ملكناك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، فتخلف من كان قبلك من الأنبياء والأئمة الصالحين وقد مضى في " البقرة " القول في الخليفة وأحكامه مستوفى والحمد لله .

الثانية- قوله تعالى : " فاحكم بين الناس بالحق " أي بالعدل وهو أمر على الوجوب وقد ارتبط هذا بما قبله ، وذلك أن الذي عوتب عليه داود طلبه المرأة من زوجها وليس ذلك بعدل . فقيل له بعد هذا ، فاحكم بين الناس بالعدل " ولا تتبع الهوى " أي لا تقتد بهواك المخالف لأمر الله . " فيضلك عن سبيل الله " أي عن طريق الجنة . " إن الذين يضلون عن سبيل الله " أي يحيدون عنها ويتركونها " لهم عذاب شديد " في النار " بما نسوا يوم الحساب " أي بما تركوا من سلوك طريق الله ؛ فقوله : " نسوا " أي تركوا الإيمان به ، أو تركوا العمل به فصاروا كالناسين . ثم قيل : هذا لداود لما أكرمه الله بالنبوة . وقيل : بعد أن تاب عليه وغفر خطيئته .

الثالثة- الأصل في الأقضية قوله تعالى : " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق " وقوله : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " [ المائدة : 49 ] وقوله تعالى : " لتحكم بين الناس بما أراك الله " [ النساء :105 ] وقوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط " [ المائدة : 8 ] الآية . وقد تقدم الكلام فيه .

الرابعة- قال ابن عباس في قوله تعالى : " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله " قال : إن ارتفع لك الخصمان فكان لك في أحدهما هوى ، فلا تشته في نفسك الحق له لِيفلُجَ على صاحبه ، فإن فعلت محوت اسمك من نبوتي ، ثم لا تكون خليفتي ولا أهل كرامتي . فدل هذا على بيان وجوب الحكم بالحق ، وألا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع ، أو سبب يقتضي الميل من صحبة أوصداقة ، أوغيرهما . وقال ابن عباس : إنما ابتلي سليمان بن داود عليه السلام ، لأنه تقدم إليه خصمان فهوي أن يكون الحق لأحدهما . وقال عبد العزيز بن أبي رواد : بلغني أن قاضيا كان في زمن بني إسرائيل ، بلغ من اجتهاده أن طلب إلى ربه أن يجعل بينه وبينه علما ، إذا هو قضى بالحق عرف ذلك ، وإذا هو قصر عرف ذلك ، فقيل له : ادخل منزلك ، ثم مد يدك في جدارك ، ثم انظر حيث تبلغ أصابعك من الجدار فاخطط عندها خطا ، فإذا أنت قمت من مجلس القضاء ، فارجع إلى ذلك الخط فامدد يدك إليه ، فإنك متى ما كنت على الحق فإنك ستبلغه ، وإن قصرت عن الحق قصر بك ، فكان يغدو إلى القضاء وهو مجتهد فكان لا يقضي إلا بحق ، وإذا قام من مجلسه وفرغ لم يذق طعاما ولا شرابا ، ولم يفض إلى أهله بشيء من الأمور حتى يأتي ذلك الخط ، فإذا بلغه حمد الله وأفضى إلى كل ما أحل الله له من أهل أو مطعم أو مشرب . فلما كان ذات يوم وهو في مجلس القضاء ، أقبل إليه رجلان يريدانه : فوقع في نفسه أنهما يريدان أن يختصما إليه ، وكان أحدهما له صديقا وخدنا ، فتحرك قلبه عليه محبة أن يكون الحق له فيقضي له ، فلما أن تكلما دار الحق على صاحبه فقضى عليه ، فلما قام من مجلسه ذهب إلى خطه كما كان يذهب كل يوم ، فمد يده إلى الخط فإذا الخط قد ذهب وتشمر إلى السقف ، وإذا هو لا يبلغه فخر ساجدا وهو يقول : يا رب شيئا لم أتعمده ولم أرده فبينه لي . فقيل له : أتحسبن أن الله تعالى لم يطلع على خيانة قلبك ، حيث أحببت أن يكون الحق لصديقك لتقضي له به ، قد أردته وأحببته ولكن الله قد رد الحق إلى أهله وأنت كاره .

وعن ليث قال : تقدم إلى عمر بن الخطاب خصمان فأقامهما ، ثم عادا فأقامهما ، ثم عادا ففصل بينهما ، فقيل له في ذلك ، فقال : تقدما إلي فوجدت لأحدهما ما لم أجد لصاحبه ، فكرهت أن أفصل بينهما على ذلك ، ثم عادا فوجدت بعض ذلك له ، ثم عادا وقد ذهب ذلك ففصلت بينهما . وقال الشعبي : كان بين عمر وأُبيّ خصومة ، فتقاضيا إلى زيد بن ثابت ، فلما دخلا عليه أشار لعمر إلى وسادته ، فقال عمر : هذا أول جورك ، أجلسني وإياه مجلسا واحدا ، فجلسا بين يديه .

هذه الآية تمنع من حكم الحاكم بعلمه ؛ لأن الحكام لو مكنوا أن يحكموا بعلمهم لم يشأ أحدهم إذا أراد أن يحفظ وليه ويهلك عدوه إلا ادعى علمه فيما حكم به . ونحو ذلك روي عن جماعة من الصحابة منهم أبو بكر ، قال : لو رأيت رجلا على حد من حدود الله ، ما أخذته حتى يشهد على ذلك غيري . وروي أن امرأة جاءت إلى عمر فقالت له : احكم لي على فلان بكذا فإنك تعلم ما لي عنده . فقال لها : إن أردت أن أشهد لك فنعم وأما الحكم فلا . وفي صحيح مسلم عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشترى فرسا فجحده البائع ، فلم يحكم عليه بعلمه وقال : ( من يشهد لي ) فقام خزيمة فشهد فحكم . خرج الحديث أبو داود وغيره وقد مضى في " البقرة " .