وأرض الله واسعة : فهاجروا فيها ، ولا تقيموا مع من يقترف المعاصي .
10- { قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجورهم بغير حساب } .
يا من آمنتم بالله ربّا ، ضمّوا إلى الإيمان بالله تعالى ، التقوى ومخافة الله ومراقبته .
والتقوى هي الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والاستعداد ليوم الرحيل .
وقيل : هي ألا يراك حيث نهاك ، ولا يفقدك حيث أمرك .
وقيل : هي ذوبان الحشا لما سبق من الخطأ .
وقيل : هي الاجتهاد في عمل الطاعات ، والابتعاد عن اقتراف المعاصي .
{ للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة . . . }
للذين أحسنوا عملهم ، وراقبوا ربّهم حسنة في الدنيا ، من رضوان الله وتوفيقه ورزقه وعنايته ، أو لمن أحسن في هذه الدنيا حسنة في الآخرة ، ويمكن أن يراد الاثنان معا ، أي : للمؤمنين المحسنين حسنة في الدنيا وحسنة في الآخرة .
أي : فهاجروا من دار الكفر إلى دار الإيمان ، ولا تقيموا في أرض لا تتمكنون فيها من إقامة شعائر الله .
قال المفسرون : نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه ، حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة ، والغرض منها التأنيس لهم والتنشيط إلى الهجرة {[587]} .
{ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } .
يكافأ الصابرون الذين صبروا على هجرة الأهل والوطن ، مكافأة لا يهتدي إليها حساب الحُسّاب ، أي بغير تقدير ، أي : حين يكافأ أهل الطاعات كالصلاة والصيام والزكاة والحج ، والجهاد وصلة الرحم وإكرام الجار والعطف على المساكين ، يكافأ هؤلاء على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، فإن أهل البلايا والصبر على البأساء يلقون جزاءهم بدون حصر وبدون عدد .
قال الأوزاعي : ليس يوزن لهم ولا يكال ، إنما يغرف غرفّا .
وقال ابن جريح : بلغني أنهم لا يحسب عليهم ثواب عملهم قطّ ، ولكن يزادون على ذلك .
لقد كان القرآن يأخذ بيد المؤمنين ، فيحثهم على الثبات والصبر ، والمجاهدة في تحمل مشاق الهجرة ومتاعبها ، واحتمال البلايا في طاعة الله ، وكان الرسول الأمين وصحابته الأبرار قدوة عملية في الثبات والتضحية .
وفي الحديث الشريف : " تنصب الموازين لأهل الصلاة والصدقة والحج فيؤتون بها أجورهم ، ولا تنصب لأل البلايا ، بل يصب عليهم الأجر صبّا ، حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض ، مما يذهب به أهل البلاء من الفضل
{ قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } :
أي : قل مناديا لأشرف الخلق ، وهم المؤمنون ، آمرا لهم بأفضل الأوامر ، وهي التقوى ، ذاكرا لهم السبب الموجب للتقوى ، وهو ربوبية اللّه لهم وإنعامه عليهم ، المقتضي ذلك منهم أن يتقوه ، ومن ذلك ما مَنَّ اللّه عليهم به من الإيمان فإنه موجب للتقوى ، كما تقول : أيها الكريم تصدق ، وأيها الشجاع قاتل .
وذكر لهم الثواب المنشط في الدنيا فقال : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا } بعبادة ربهم { حَسَنَة } ورزق واسع ، ونفس مطمئنة ، وقلب منشرح ، كما قال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً }
{ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } إذا منعتم من عبادته في أرض ، فهاجروا إلى غيرها ، تعبدون فيها ربكم ، وتتمكنون من إقامة دينكم .
ولما قال : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ } كان لبعض النفوس مجال في هذا الموضع ، وهو أن النص عام ، أنه كل من أحسن فله في الدنيا حسنة ، فما بال من آمن في أرض يضطهد فيها ويمتهن ، لا يحصل له ذلك ، دفع هذا الظن بقوله : { وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } وهنا بشارة نص عليها النبي صلى اللّه عليه وسلم ، بقوله ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر اللّه وهم على ذلك ) تشير إليه هذه الآية ، وترمي إليه من قريب ، وهو أنه تعالى أخبر أن أرضه واسعة ، فمهما منعتم من عبادته في موضع فهاجروا إلى غيرها ، وهذا عام في كل زمان ومكان ، فلا بد أن يكون لكل مهاجر ، ملجأ من المسلمين يلجأ إليه ، وموضع يتمكن من إقامة دينه فيه .
{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } وهذا عام في جميع أنواع الصبر ، الصبر على أقدار اللّه المؤلمة فلا يتسخطها ، والصبر عن معاصيه فلا يرتكبها ، والصبر على طاعته حتى يؤديها ، فوعد اللّه الصابرين أجرهم بغير حساب ، أي : بغير حد ولا عد ولا مقدار ، وما ذاك إلا لفضيلة الصبر ومحله عند اللّه ، وأنه معين على كل الأمور .
قوله تعالى : { إنما يتذكر أولو الألباب قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم } بطاعته واجتناب معاصيه . { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } أي : آمنوا وأحسنوا العمل ، " حسنة " يعني الجنة ، قال مقاتل . وقال السدي : " في هذه الدنيا حسنة " يعني : الصحة والعافية . { وأرض الله واسعة } قال ابن عباس ، يعني ارتحلوا من مكة . وفيه حث على الهجرة من البلد الذي يظهر فيه المعاصي ، وقيل : نزلت في مهاجري الحبشة ، وقال سعيد بن جبير : من أمر بالمعاصي ببلدة فليهرب منها إلى غيرها . { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } الذين صبروا على دينهم ، فلم يتركوه للأذى . وقيل : نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه ، حيث لم يتركوا دينهم لما اشتد بهم البلاء ، وصبروا وهاجروا . قال علي رضي الله عنه : كل مطيع يكال له كيلاً ويوزن له وزناً إلا الصابرون ، فإنه يحثى لهم حثياً ، ويروى : " يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم الميزان ، ولا ينشر لهم ديوان ، ويصب عليهم الأجر صباً بغير حساب " ، قال الله تعالى :{ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب أهل البلاء من الفضل .
ولما ثبت أن القانت خير ، وكان المخالف له كثيراً ، وكان أعظم حامل له على القنوت التقوى ، وكانت كثرة المخالف أعظم مزلزل ، وكان الإنسان - لما له من النقصان - أحوج شيء إلى التثبيت ، وكان التثبيت من المجانس ، والتأنيس من المشاكل أسكن للقلب وأشرح للصدر ، أمر أكمل الخلق وأحسنهم ملاطفة بتثبيتهم فقال : { قل } ولما كان الثبات لا يرسخ مع كثرة المخالف ، وتوالي الزلزال والمتالف ، إلا إذ كان عن الملك ، جعل ذلك عنه سبحانه ليجتمع عليه الخالق والأقرب إليه من الخلائق ، فقال : { يا عباد } دون أن يقول : يا عباد الله ، مثلاً تذكيراً لهم تسكيناً لقلوبهم بما علم من أن التقدير . قال الله ، وتشريفاً لهم بالإضافة إليه بالضمير الدال على اللطف وشدة الخصوصية ، وإعلاماً لهم بأنه حاضر لا يغيب عنهم بوجه : { الذين آمنوا } أي أوجدوا هذه الحقيقة ولو على أدنى حالاتها .
ولما كان الإحسان ربما جراً على المحسن ، أشار سبحانه إلى سداد قول العارفين " اجلس على البساط وإياك والانبساط " ونبه بلفت القول عن مظهر التكلم إلى الوصف بما يدل على أن العاقل من أوجب له الإحسان إجلالاً وإكباراً ، وأثمر له العطف والتقريب ذلاًّ في نفسه وصغاراً ، وخوفاً وانكساراً ، مما أقله قطع الإحسان فقال : { اتقوا ربكم } أي اجعلوا بينكم وبين غضب المحسن إليكم وقاية بأن تترقوا في درجات طاعته مخلصين له كما خلقكم لكم لا لغرض له ليرسخ إيمانكم ويقوي إحسانكم ، وهذا أدل دليل على أن الإيمان يكون مع عدم التقوى .
ولما أرشدهم بالاسم الناظر إلى الإحسان إلى أن يقولوا : فما لنا إن فعلنا ؟ قال مجيباً معللاً : { للذين أحسنوا } أي لكم ، ولكنه أظهر الوصف الدال على سبب جزائهم تشويقاً إلى الازدياد منه ، ولما كان العمل لا ينفع إلا في دار التكليف قال : { في هذه } باسم الإشارة زيادة في التعيين { الدنيا } أي الدنية الوضرة التي لا تطهر الحياة فيها إلا بالتقديس بعبادة الخالق والتخلق بأوصافه { حسنة } أي عظيمة في الدنيا بالنصر والمعونة مع كثرة المخالف وفي الآخرة بالثواب ، ويجوز أن يكون معنى { أحسنوا } أوقعوا الإحسان ، ومعلوم أنه في هذه الدنيا ، فيكون ما بعده مبتدأ وخبراً ، لكنه يصير خاصاً بثواب الدنيا ، فالأول حسن .
ولما كان ربما عرض للإنسان في أرض من يمنعه الإحسان ، ويحمله على العصيان ، حث سبحانه على الهجرة إلى حيث يزول عنه ذلك المانع ، تنبيهاً على أن مثل هذا ليس عذراً في التقصير كما قيل :
وإذا نبا بك منزل فتحول *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فقال : { وأرض الله } أي الذي له الملك كله والعظمة الشاملة { واسعة } ووجوده بعلمه وقدرته في كل أرض على حد سواء ، فالمتقيد بمكان منها ضعيف العزم واهن اليقين ، فلا عذر للمفرط في الإحسان بعدم الهجرة .
ولما كان الصبر على هجرة الوطن ولا سيما إن كان ثّم أهل وعشيرة شديداً جداً ، ذكر ما للصابر على ذلك لمن تشوف إلى السؤال عنه فقال : { إنما يوفى } أي التوفية العظمية { الصابرون } أي على ما تكرهه النفوس في مخالفة الهوى واتباع أوامر الملك الأعلى من الهجرة وغيرها { أجرهم بغير حساب * } أي على وجه من الكثرة لا يمكن في العادة حسبانه ، وذلك لأن الجزاء من جنس العمل ، وكل عمل يمكن عده وحصره إلا الصبر فإنه دائم مع الأنفاس ، وهو معنى من المعاني الباطنة لا يطلع خلق على مقداره في قوته وضعفه وشدته ولينه لأنه مع خفائه يتفاوت مقداره ، وتتعاظم آثاره ، بحسب الهمم في علوها وسفولها ، وسموها ونزولها ، ويجوز أن يكون المعنى أن من كمل صبره بما أشارت إليه لام الكمال - لم يكن عليه حساب ، لما رواه البزار وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاءت امرأة بها لمم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، ادع الله لي ، قال : " إن شئت دعوت الله فشفاك ، وإن شئت صبرت ولا حساب عليك " ، قالت : بل أصبر ولا حساب علي .